مرايا فكرية

المثقف في حوار خاص مع الدكتور سامي عبد العال (4)

خاص بالمثقف: الحلقة الرابعة مع الدكتور سامي عبد العال، أستاذ الفلسفة في جامعة الزقازيق، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول آفاق الفكر الفلسفي، فأهلاً وسهلاً بهما:

***

القسم الثاني: حول فلسفة اللغة ومشكلات الهويات والثقافة

س17- أ. مراد غريبي: الآن نركز قليلاً في اللغة والهوية، حيث تحضرني هنا عبارة لجاك دريدا في كتابه الكتابة والاختلاف: "الأصل يحيل إلى لاحقه دائماً والهوية إلى آخرها، بذا يكون الاختلاف في حقيقته، إحالة إلى الآخر وإرجاء لتحقيق الهوية في انغلاقها الذاتي"، ماذا هناك بين التعدد والتنوع والاختلاف من جهة، وحركة اللغة في تشكيل هوية الذات والمجتمع من جهة أخرى في راهننا العربي؟

ج17- د. سامي عبد العال: هذا السؤال على درجة كبيرة من الخطورة والطرافة، ويجب طرح عبارة مبدئية توجّه بوصلة التفكير إلى نقطةٍ أبعد... العبارة تقول: " ليست اللغة هي الهوية ولن تكون " كما هو شائع، لأنَّ أية هوية تفكر مع أصحابها بشكل جدي: ماذا نفعل، وماذا سنكون في (الأمس والغد) معاً؟ وماذا صنعنا بجدار الهوية الذي يسرد تراثنا ليس أكثر؟ ولماذا تركناه (جداراً عازلاً) يحمل لافتات استنكارٍ وحسب؟!

لقد وردت كلمة (الأمس) منذ قليل.. بالطبع جاءت الكلمة للزمن، لأنَّ الأمس (في خلفية الهوية) ماضٍ لم يُنجزْ إلاَّ بقدر ما نتواصل معه ونضيف إليه وبقدر ما يطرح جديداً لا تكراراً.. الأمس الذي نرنو إليه مازال في طور التشكُل بعد. أمَّا في حالة الارتباط بغير ذلك من معاني الهوية، فلن تكون هويتنا سوى" جراب الحاوي" أو "مغارة علي بابا" في أحسن الأحوال. وسنكون نحن " الأربعين حرامي" مستندين إلى هويتنا الثابتة سطواً عليها طوال الوقت. لأنَّها وصلت إلينا بفضل جهود الذين أنجزوها: كيف نأخذ شيئاً ثميناً كهذا من غير استثماره وتطويره؟ ولو كانت اللغة هوية بهذه الصورة، لتجمدت عند موضع أقدامها التاريخية، ولبتنا نحن أصناماً تحمل مصيرها فوق رؤوسها أمام العالم!!

الهوية شيء واللغة شيء آخر تماماً، والربط بينهما على مقولة (اللغة هي الهوية) يعني أنَّ الـ" هيis " بين الكلمتين هوية جديدة من باب زيادة الخير خيرين كما يُقال. مع أن الرابطة النحوية تحيل إلى: كيفية التواجد في عمل من أعمال الوجود في العالم. ولكن العمل الموجود لدينا بهذا الشأن يأخذنا إلى الماضي دائماً، إذ نفضل الارتباط بنموذج جاهز كصورة للهوية في وعينا المباشر. فأي نموذج يحدد الهوية إذن؟! وكيف نستخلصه من التاريخ والتراث والأحداث والنصوص والأخيلة العامة؟ وعن ماذا يعبر النموذج الهوياتي بالضبط ليحملنا إلى ما نريد؟ هل يعبر عن مركزية تراث العرب والمسلمين حصراً؟ وإذا كان كذلك، فأين غير العرب وغير المسلمين الفاعلين في تراث هويتنا؟ وهل الهوية حاضرة بكامل معناها أم أنها تشير إلى هويات متعددة؟ ومن له"الحق التاريخي" في إغلاق الهوية على ذاتها كأنّها كهف يخصه؟! ولماذا لا تشعر الأجيال الجديدة بضغوط الهوية؟ ولماذا هؤلاء يضيفون إليها دون (نوستالوجيا بكائية) إزاء الماضي؟!

هل نتذكر سيزيف، هذه الشخصية الأسطورية في التراث اليوناني الذي حكمت عليه الآلهة بحمل صخرة فوق ظهره والارتفاع بها إلى أعلى قمة جبل، ولكن عندما يصل ظاناً أنه وضع ما ينوء به ظهره ويحني رأسه، تسقط الصخرة من قمة ارتفاعها ليُعاود حملها ثانية إلى ذروة الجبل... هكذا لا يتوقف سيزيف وهكذا لا تنتهي الصخرة عن السقوط، ثم يأخذه الاسراع لحملها ثانيةً بشكلٍّ أبدي ارتفاعاً وسقوطاً... أقول: هل نتذكر ذلك؟، إنَّ وضعنا الثقافي أشبه بصخرة الهوية ولم نحدد إشكالية وجودنا نحن أصحابها قبل غيرنا. وقد تأتي أجيال بعد أجيال لنترك لهم مهمة حمل الصخرة مطالِّبين إياهم بالانهماك في رفعها عالياً بلا أدنى سؤال.

هذا الفعل الثقافي ناتج عن فوبيا الضياع، لا أحد يتحسس التاريخ جيئة وذهاباً إلاَّ إذا كان يخشي من شيءٍ ما أكبر من وجوده. والخوف لدينا مضاعف طوال الوقت. فالخوف يبدأ من (أنفسنا) نحن العرب، لأننا نقول: يا تُرى ماذا سيحدث لنا وماذا سيجري؟ وكأننا نقف حرّاساً على خزائن الأرض. وأيضاً نخاف من الآخر مع أنه يعبر عن وجوده بالوجه الذي يتراءى له، والأبعد أننا نستل من عيونه نظرات التربص بنا في كل زقاق وكل حارة، وقد لا يكون ذلك صحيحاً، وفوق هذا يضع مسئولية تاريخية في رقابنا كي نظهر على خريطة الحضارة المعاصرة.

والخوف على الهوية يتفرع أيضاً إلى الخوف من العصر (عصر ليس له أمان كما نردد)، في إشارة إلى كونه جاء خصيصاً مثل كل عصر لسرقة حياتنا وتحويلنا إلى علامة مشوهة في تاريخ الإنسانية. وهذا التصور يعتبر الزمن عدواً بلا مبرر، ويجسد المعنويات في أشياء مادية تناصبنا الكراهية. هل رأى أحد زمناً يمسك بعصاه هاوياً على رؤوس العرب بخلاف الأمم الأخرى؟! هل تتحول القيم العصرية والأفكار إلى حجارة تقصد العرب خصيصاً؟ وهناك يتم الخوف من المستقبل كأنَّه يأتي بالأسوأ دوماً، ولا حل لجعله مستقبلاً ناصعاً في يوم من الأيام؟ لقد بلغ الخوفُ ذروته من صورتنا في هوية مقفلة علينا حصراً، وهي سفينة نوح الأخيرة وسط كل الطوفان الذي لن يُبقي ولا يذر!!

الهوية كما نرددها نحن العرب هي "سفينة الطوفان" الأخيرة، ونعتقد أن العالم كله سيغرق إلاَّ نحن، وأن حبل النجاة الوحيد هو تلك السفينة. ولو هناك أحد اقترف شيئاً مختلفاً عما تمليه علينا سفينة الهوية من رؤى ونصوص، فقد اقترف" جريمة ابداع" في الأدب والفنون والدراما والشعر والفلسفة، جريمة شرف تجاه الهوية.. جرى ذلك مع شخصيات مثل: نجيب محفوظ ومن قبله توفيق الحكيم وطه حسين ومع محمد شكري والعفيف الأخضر وهشام جعيّط ومع حيدر حيدر ومع ليلى العثمان وسامية العلِي ومحمود محمد طه وعبدالله القصيمي وأمين معلوف ونزار قباني.. وغيرهم كثيرون!! وأيا كان الاختلاف حول أعمالهم فكراً وأدباً، فليست هناك وجاهة في إلصاق ذلك بفعل التحرش الغرائزي بالهوية!!

الهوية لدينا كانت ومازالت أنثى، كلمة مؤنثة بفعل فاعل ثقافي، وتمثل مصدر خطورة فاحشة خوفاً من الإغواء، وأنْ يغازلها هؤلاء الأدباء والمفكرون ويلحقون بها العار والفضيحة. هل اعتبار الهوية أنثى جاء تحريماً للإقتراب منها؟ هل التنكر لها نوع من الشعور بالفضيحة؟ وهل لا تستحق الخروج إلى الحياة وقد ألبسناها براقع لا تنتهي؟ لماذا الاصرارُ على خروج الهوية مغطاة الوجه والجسد حتى أمام ابنائها الجدد؟ فمازالت مصادر هويتنا ونصوصها لم تُدرس بموضوعية وبصورة ناقدة حرة. وما زالت لم يُترك لها المجال كي ترى النور وكي تفتح جوانبها الثقافية والفكرية للحياة.

الخوف الآخر أن يتم ربط اللغة ربطاً متعالياً بالهوية واعتبار اللغة هوية مقدسة. وهذا يعني تحويل اللغة إلى لاهوت من حيث لا يجب. وأغلب المثقفين يدورون مع هذا اللاهوت دوران العلة مع معلولها. إنه أمر يضر باللغة العربية قبل غيرها، فهذا اعلان بموتها على أعتاب المستقبل، لأنها ستتجمد كمومياء في المتاحف. فاللغة كائن حي يعيش ويأكل من نتاج العصر وشاء أم أبى سيستوعب المفردات والمعجمات الراهنة لنتاجات الحضارة. كل لغة لكي تعاصر غيرها من اللغات الحية لابد أن تتكلم بلسان الثقافات الإنسانية الراهنة. لو نتخيل أن العربية قد توقفت عن ذلك ما كانت إلا حفريات غابرة في عالم اليوم.

ومن حسن الحظ أنَّ اللغة لا تستأذن أصحابها في أن تعيش أجواء ومفردات وترجمات وثقافات زمنها مع تطورات الحياة. وبخاصة إذا ما كان أهلها هاربين من الحاضر باستمرار. وحتى لو حاولوا أن يفرضوا عليها لونا من التحجُر، فلا تمتثل طويلاً: إنَّ جميع مفردات الحاسوب والنقال والفيس بوك والنت والسينما وتويتر وانستجرام وبيئات العالم الافتراضي وكل قاموس السياسة الاقتصاد والعولمة والحروب والصراعات والتقنيات والعلوم والمعارف والآداب والضيافة الكونية والهيئات الدولية.. كل ذلك لم يكن موجوداً في لغتنا العربية خلال موروثاتها الاصطلاحية عند سيبويه والخليل بن أحمد والأخفش والزجّاج وابن سيدة وابن فارس والزمخشري والمرتضى الزبيدي.

لم تقل لنا اللغة العربية: لماذا افسحت مجالها لتحتوي المعجمات والعبارات الراهنة من ناحيةٍ، ومن ناحية أخرى لم توضح هذا بكونها مفردات خطيرة إزاء الهوية. ولم تعقد اللغة العربية محاكمة تاريخية لما هو آت من الثقافات الأخرى، بل قالت العربية " لا مشاحة في المصطلح"، ولكن علينا أن نبادر بالاسهام في تجهيز هويتنا وأن نقوم بفهمها والبحث فيها باستمرار، كي تواكب العصر، وكي نؤكد إنها ليست منغلقة على ذاتها ولا ينبغي ذلك.

وجه الطرافة من جهة أخرى أن اللغة التي نخاف عليها ستجدد معنى الهوية وستبحث لنا تحت الشمس عن أنواع من الخطابات والصور اللغوية المتقدمة. لنتخيل أنَّ ما تخاف عليه هو ذاته الذي سيحررك، وأن ما تعتبره جناحاً مهيضاً هو من سيطير بك إلى أزمنة لم تتوقع العيش فيها. هذا ما يجعل اللغة مختلفة عن الهوية، وبحكم كون اللغة تكلم (شخصيتنا الثقافية الاعتبارية) وقوفاً أمام العصر، فهي من ستكسّر التصورات الراكدة حول الهوية.

ولأن اللغة تخاتل متكلميها إيجاباً وسلباً، فلن تكون وفية وفاءً غير معهود لهويتنا التي نظن احتفاظنا الأبدي بها تحت الكلمات والعبارات. ليست الهوية مثل" بيض الدجاج" الذي ندسه تحت إبط الكلمات حتى يفقس مع العصور المتوالية، لأنَّ هناك فهماً آخر يجب أن يتطرق لقضايا الترات والدين والعلاقات والتعددية والاندماج والتنوع الثقافي. لو تغذت الهوية على صورها الخاصة وعلى نصوصها المؤسسة، فكأنما سيأكل الدجاج البيض الذي يرقد عليه، وكأننا لم نفعل شيئاً. ولن نجد مفراً من ذبح الدجاج مرة واحدة، لأنه غدا مصدر خسارةٍ.

وأخشى ما أخشاه أن نلجأ مع تطورات المعرفة والحياة إلى خيار واحد: هو ذبح "صورة الهوية" التي نمتلكها حتى اللحظة لا أقول ذبح الهوية، لأنَّ الهوية لا تُذبح ولو حاولنا ملايين المرات... وهذا أمر مما حدثَ لبعض المجتمعات العربية ولا تجد صيغة للتعايش مع الحياة المعاصرة، فإذا بأنظمتها الاجتماعية والسياسية تتلون كما تتلون الحرباء، فلا تعرف: ما إذا كانت تلك مجتمعات عربية لها موروثاتها وثقافتها أم مجتمعات أخرى استعارت كل شيء حتى نمط العيش الخاص!!

ليست الهوية صماء حد الصلابة، لكنها قائمة على التنوع. فبقدر ما نشعر باختلافاتنا سنشعر بكوننا كذا وكذا، إذن الهوية في جوهرها اختلاف لا تطابق، تعدد لا تماثل، مغايرة لا مسايرة. وما نقيمه داخل أنفسنا من الانتماء إلى جذور بعيدة إنما هو من وحي الاستيهام الجماعي نحو شيء ما. لم يكن التراث العربي تراثاً متفرداً في ذاته إلاَّ بقدراته على هضم تراثات أخرى فاعلة في كافة جوانبه. التراث تراثات.. هكذا بصيغة الجميع يتضمن التراث أطياف التنوع الخلّاق بين أصحاب الجغرافيا الثقافية الواحدة. ولم يكن التراث العربي الإسلامي كذلك من غير تراث الأديان والملل والنحل والمجموعات العرقية والانثربولوجية التي عبرت الحدود وأثرت في آفاق الحياة العمومية. ليس متصوراً وجود المسلمين من غير الفارسي والقبطي والحبشي والرومي والشامي والأسيوي الشرق الأوسطي والأسيوي الجنوبي،.. هؤلاء الراحلون إلى العربية ثقافة وحركة. طوبى للعابرين أقطار الهويات تاركين داخلها الثراء الوجودي لحيواتها المتنوعة. فلكي تحيا الهوية، لابد من التناقض الأنطولوجي داخلها وفي الصميم مما يعتقد أهلها، هي الترحال المتواصل لجوانب أخرى داخلها وخارجها بالتوازي... هذا هو الغذاء الحضاري لأية هوية أيا كانت.

إن غلق الهوية على ذاتها هو تجويع لها كي تأكل الأخضر واليابس، وكي تأكل نفسها حتى تصبح هيكلاً مفرغاً من المعنى. وما لم تحفز الهوية أصحابها بالتغير والتجدد لن تكون سوى شرنقة تخنق الآمال وتحمل حملا ثقيلاً يصعب زحزحته من مكانه. قد يظن بعض العرب أنَّ هويتهم مكانية ماداموا قاطنين في مساحات عربية، وهذا خطأ فلا يعلمون أن الهوية انفتاح على كل العالم، وأنها بقدر ما تخاطر بذاتها ستكتسب مساحات أخرى من الحياة، وسيكون ذلك بالتطلع إلى الإنسانية في هويات أخرى. فأنت كعربي تتنفس طباق الثقافة العربية والإسلامية ورواسب الحضارات القديمة في بلاد الرافدين والفينيقيين والحضارة الفرعونية ونتاجات حضارة البحر الأبيض المتوسط. وهذا يدخل في صميم ما تحياه وعبر دماغك الثقافي.

في اللحظة التي تذهب الهوية إلى ذاتها، هي لحظة الغسق الحضاري بامتياز، خلال عصور الانحطاط تنغلق أبواب الهوية ويتم البحث عنها ليستند الناس إلى شيء ثابتٍ. ولكن طالما هناك انطلاق وتحرر، لن يكون سؤال الهوية ذا بال، بل لن يُطرح من الأساس. لكون الهوية مثل المناعة في جسم الإنسان، مادامت مناعة قوية، فلن يكون ثمة خطرٌ على الجسم، وليأكل ما يأكل من جميع الأطعمة، وليعشْ كيفما يريد. أمَّا لو كانت المناعة ضعيفة، فستدعو الجسم إلى الذبول والانكفاء وراء عبارات الرثاء المبكر.

وهنا يمكننا فهم عبارة جاك دريدا التي يكتبها بحس الاختلاف داخل كل هوية ممكنة. فهو فيلسوف عابر للهويات، ويدرك ما معنى أنْ تكون الهوية متنوعة. دريدا ينتمي إلى الجزائر أفقاً وحياةً أوليةً، شخص غارق في تداعيات البحر الأبيض المتوسط الحضارية، وقد أخذ من موروثات وتقاليد المنطقة الغنية حضارياً بعد أن نزحت عائلته من الأندلس إلى الجزائر، ليجد الثقافات اليهودية والمسيحية والاسلامية وأصداء الديانات الأفريقية متداخلة ولا تلوي على أي نزوع طارد لبعضها البعض، ثم عندما انتقل إلى فرنسا كان يشعر بهذا التنوع داخله حدّ التناقض.

الهوية فيما يري دريدا لن تحدث إلاَّ بالاحالة إلى غيرها، فكل تطابق (بمعنى هو) لا يتم إلاَّ على نقيضه (اللاهو)، من واقع أن كل تحديد سلب بالضرورة. ولكن السلب في الهويات ابداع وقدرة على الحركة المنتجة. إن الحضارة العربية عندما زخرت بالمختلف، أبدعت وتمددت وكانت موطناً رمزياً لكل جديد. فكانت هناك مستوطنات لغوية تخص الآرامية والعبرية القديمة والسوريانية، وهي التي رفدت اللغة العربية بجذور معجمية وطنت أبعاداً ثرية للمتون العربية والنصوص الكبرى فيها. فالقرآن به كلمات أعجمية وليست عربية خالصة. وكذلك الثقافات الفرعية مثل الثقافة النبطية والثقافة الفارسية التي نزلت من بلاد فارس والثقافة الوسط أسيوية في الدولة العباسية والثقافة المتوسطية البيزنطية مع الدولة الأموية إذ خصبّت معاني الهوية وصورها. وأرجأت لحظة الغسق المؤدية إلى الانغلاق، ولكن طالما توجد طرق أخرى وأنهر هوياتية من أعراق وجماعات انثربولوجية كان تنوع الهوية العربية مؤكداً.

هل أبو نصر الفارابي عربي أم من خارج خريطة الهوية العربية؟ طبعاً ليس هذا السؤال جديراً بالاعتبار، ولا يجب أنْ يطرح من حيث المبدأ، لسبب بسيط إنه فيلسوف عربي بقدر ما ليس عربياً حاملاً مع جيناته البيولوجية جينات ثقافية مغايرة تركت بصمتها على إبداعه. وليس هناك أدل على ذلك من أنَّ كامل الذين أبدعوا في العلوم والمعارف العربية الإسلامية ليسوا عرباً بالمعنى العرقي، لكنهم من خارج المجموعات العربية. إنّهم ينتمون حضارياً إلى آفاق عربية إسلاميةٍ، ومع ذلك دوّنوُا علوم الدين والآداب واللغة والمذاهب والشعر والسرديات الكبرى التي تعتبر من عيون الثقافة العربية الاسلامية.3745 سامي عبد العال ومراد غريبي

س18- أ. مراد غريبي: الواقع العربي يعرف تحولات جذرية وحساسة في جميع المجالات الحيوية للمجتمعات مما احدث اضطرابات هوياتية برزت تداعياتها في الثقافة والاجتماع والسياسة والاقتصاد وأساساً في مجالات التعليم والاعلام، اللغة إحدى صور هذا الاضطراب، برأيكم ماهي جذور هذا الاضطراب الهوياتي، وماهي الآليات الناجعة لتجاوزه على ضوء فلسفة التواصل وأهم النماذج في ذلك؟

ج18- د.سامي عبد العال: يحدث الإضطراب في الهويات نتيجة عدم القدرة على التجدُد، ودخول مؤثرات مختلفة لا مفر منها. والهوية ما لم تكن قادرة على التعددية لن تستطيع أن تتماسك. وهي عكس جميع سمات الإنسانية، إذ لكي تتسق مع نفسها، لابد أن تختلف مع نفسها. وهذا الأمر منطو على مفارقة وجودية يصعب حلها تاريخياً. وإذا كان هناك من يرى في تناقض الهويات أمراً سلبياً، فتلك رؤية غير صحيحة. لأن التفاعل بين جميع مكوناتها الثقافية والمعرفية تحتاج إلى مساحة من الجدل والصراع، ولن يكون ذلك محسوماً من أول وهلة ولهذا تمثل الهوية سيرورة من التحقق وقدرة على الاستيعاب النشط لمتغيرات العصر.

عبر الهويات النشطّة، تكون عوامل التناقض داخلها قُوى دفع لا كبح للتقدم ومواكبة الجديد، وبإمكانها أنْ تمتص أية ضربات قادمة من مصادر أخرى في مجرة الثقافة الكونية. على سبيل الشرح: لو رأينا لدى المجتمعات العربية نوعاً من (مسخ الهوية) فيما يبدو، فلأنها لا تمتلك مقومات للتعبير عن وجودها بكل شجاعة. لأننا لو افتعلنا التعبير عن هويتنا في كل مناسبة وغيرها، ستكون لوناً من العرض المسرحي المُمل، وستتحول إلى بضاعة كاسدةٍ. مسرحية دون جمهور يثير الحوار ويطرح عناصر التشويق والإمتاع، هناك هويات تبحث عن ذاتها بشكل مقلوب، وترى في ذاتها ما لم تره في غيرها ولا تعطي الآخرين دلالات الغنى والتنوع. هي هويات لم تجد عوامل دعم من داخلها، الأمر أشبه ما يكون بالتربة التي تستقبل نباتا غريباً. إما أنه يظهر نباتاً بحسب المميزات الجغرافية والطبيعية، وإما أنه يخرج هجيناً، فائق الوصف، لكونه لا يتأقلم مع البيئة والمناخ.

وانفتاح الهويات أمر جوهري فيها لا تعادي سواها بسببه، ولكنه قد يكون سمة تاريخية ويكتب لنفسه وجوداً خصيباً معها. شريطة أن تكون الهوية قائمة على التلاقح والتغير لا المركزية. لو كانت ثمة مركزية، فلن تجد إلاَّ طقوسا للولاء المزيف فوق كل نقطة عبور ممكنة إلى ساحتها. كأنها مزار مقدس لابد أن يشعر فيه الناس بالراحة والسكون المماثل للموت. كل هوية تريد أن تسمع لنفسها فقط، ولا تريد أن ترى نغمة نشازاً مهما كانت قاصيةً أم دانيةً.

إذن.. من أين يأتي الاضطراب الهوياتي؟!يأتي نتيجة اضطرار (أصحابها) على التعايش مع عجزها عن مسايرة التنوع، ومن استباق الهوية المغلقة نحو المستقبل بينما مازالت تتمسك بماضيها العريق. لقد توقفت مع الزمن، ولم تقتحم مناطق المجهول. كل فتاوى الدين في هذا الإطار هي حيل دفاعية لكي تسمع هويتنا ذاتها تتكلم، وكل الأفكار والممارسات السياسية الليبرالية والنيو ليبرالية غريبة على لسان هويتنا. وعندما تنطق بها، كثيراً ما تتلعثم وتتلجلج، رغم أنها هوية ذات شعارات براقة من القيم والاخلاقيات والأصول والمبادئ التي كانت كذلك.

يرى البعض أن الإضطراب الهوياتي أمراً سلبياً، وهذه مسألة غير دقيقةٍ إلى حد بعيد. فالهوية تعتريها بعض المظاهر الضرورية لحركتها ولو سلباً، لأنها في كل الأحوال يجب أن تطلق إنذاراً من هناك حيث الاختلاف. وأقرب الإنذارات الممكنة أن تضطرب وتترك أعراضاً نتيجة العلاقة غير الجادة بنفسها أمام التناقضات الحادثة. وقد يجري ذلك عند الانتقال من مرحلة إلى أخرى. وتظهر تلك الاضرابات على فئة الشباب، هؤلاء القابلون للتأثر، والراغبون في تكسير القيود المفروضة على حياتهم. فقد نرى انتشاراً لبعض المودات والتقاليد المراهقة التي لا تتسق مع تقاليد النظام الأبوي ومع طبيعة التربية في الثقافة العربية، ولكن موضوعاً كهذا موضوع اعتيادي، نظراً لأن الشباب يعيش على حواف الهويات وقد يأخذهم الفضول من وقت لآخر إلى (التسكُع ما بعد الحداثي) على نواصيها الحادة الخطيرة.

وهؤلاء الشباب يسيرون على الحواف دائما لدرجة الإدمان، لكونهم لا يجدون سرديات الهوية مقنعة ولا مهدهدة لرغبتاتهم المشبوبة. وتلك المعضلة نتيجة كون الجانب الرغبوي والغرائزي أكثر انطلاقاً من نوستالوجيا الهوية. وأن كل ما يثير أحلامهم هو الإلقاء بأنفسهم في حماية هويات أخرى، لعلها تعطيهم الحرية والإنطلاق. بينما مازالت بلادهم تصوغ خطاباً شوفونياً وأمنياً حول الهوية، ولا يريدون السقوط مرة أخرى في مستنقع القيود المجانية بإسم الواقع، حتى وإن أدى بهم ذلك الانطلاق إلى السقوط في مياة البحر المتوسط وحتى إذا كان الموت ينتظرهم على الضفة الأخرى!!

ومن أبرز اضطرابات الهوية أن يختل جهاز (النطق الهوياتي) المتمثل في اللغة، وجهاز (الضبط الذاتي) المتمثل في التربية والأخلاقيات العامة وجهاز (الهندام الخارجي) المرتبط بالأزياء والملابس والأكسسوارات، حيث المظهر الدال على التمرد والمراهقة الهوياتية.

* أبرز مظاهر اضطراب الهوية انتشار العبارات والكلمات الدالة على الاستخفاف بالقيم والأخلاقيات وضعف صور المبادئ والقواعد المنظمة. قال ابن خلدون قديماً إن من أوائل مظاهر انحلال وتفسخ العمران هو شيوع اللحن في الكلام وانهيار اللغة على لسان أهلها. وكأن الكلام رسالة آتية من المستقبل نتيجة عدم كفاية الهوية بالنسبة لساكنيها.

لقد ترك الاضطراب آثاره على أساليب نطق الكلمات والكتابة باللكنات الأجنبية المختلطة باللهجة العربية الدارجة وتغليب العبارات الأجنبية على سواها، والسخرية من اللغة العربية باعتبارها في مرتبة متدنيةٍ وبوصفها دالة على شأن أصحابها. وكأن اللغة هي بصمة الهوية التي يتهربون منها، والخيال لا يعوزه الإشارة إلى كم كانت الهوية عاجزة عن إغاثة الفئات المتمردة مع حراك الربيع العربي. فكل هوية تطلق وعوداً لا تتوقف ولو كانت وعوداً نحو الماضي، لأن هذا جزء من هدهدة الأحوال حتى تجد كل هوية بساطاً يقلها من موقع إلى آخر ومن عقل إلى سواه. ولكن شتان بين سردية الهوية التقليدية وصور العالم الذي أصبح مفتوحاً من أقصاه إلى أدناه.

* ضعف التعليم باللغة العربية، بحكم انتشار التعليم باللغات (الانجليزية والفرنسية والروسية والألمانية). وإذا كان التعليم هو أقرب وسيط للتذكير بالهوية، فها هي العربية توارت إلى الخلف. والتعليم دون سواه من أكثر الأنشطة التي تؤكد على الهويات بأساليب مباشرة وغير مباشرةٍ. وحتى لم تعد الكتب الدراسية المؤلفة بالعربية جذّابة، لأنَّ سيادة النمط الثقافي لم يتح لأصحاب الهوية خروجاً من محدداتها العامة. فكلما أراد بعض أفراد المجتمع تحطيم المعايير، تردهم النماذج الثقافية الغالبة إلى فضاء الهوية ثانية.

* انتشار نماذج أجنبية في كافة مظاهر الحياة أمام الشباب، نماذج لشخصيات مشهورة تمثل أيقونات يتعلقون بها ويتابعون أخبارها، ويعرفون كل شيء عنها في مقابل ضعف معرفتهم بالبيئات التي يعيشون فيها.

* فوضى الممارسات والمعايير المستمدة من قيم المجتمع، وهي القيم التي تعبر عن جوانب الهوية والثقافة الأصيلة. مما أدى مع تكرارها إلى قطع العلاقة بين الواقع والأصيل، وباتت الفوضى مرتبطة بمعالم الهوية, بل غدت دليلاً عليها، كأن الهوية تملي نوعا من التخبط.

أمَّا جذور هذا الاضطراب، فهي مرتبطة بالركود الحضاري للمجتمعات العربية. لن تكون هناك هوية نشطّة ما لم تكن مجتمعاتُها ناهضة. وربما تتحول الهوية إلى قوة كابحة طالما لا تتحرك المجتمعات وأفرادها إلى الأمام. حتى باتت الثقافة رأس حربة تضرب الهوية في مقتل، لأن ثقافة الركود تظل عنواناً على نجاعة الهوية من عدمها. ومع أن الهوية - كما أرى - ليست مرجعية مطلقة، إلاَّ أنها علامة على أصالة الرؤى وقدرة على استنطاق الإنسان وإبداعه. وهي المظلة التي تسمح بالاختلاف فيما تذهب المجتمعات وتؤصل.

كذلك يعد فقدان بوصلة الحياة المشتركة أبرز جذور اضطراب الهوية، فلئن كانت حياتنا المشتركة وسيطاً لتواصل الهويات، فإن الفوضىى الحاصلة تعدم الثقة فيما تستند إليه. إنها عندئذ مقدمة لما يأتي خلفها. ونحن نعلم أن المجال العمومي في مجتمعاتنا العربية كان نهباً للقوى الغالبة باسم السلطة والقبيلة والعشيرة والعائلة والحزب. هي كتل الحشود التي تحرك الواقع ولا تدع أية فرصة للحريات الفردية.

اتصالاً بذلك، هناك سبب أخر: هو ربط الهوية بـ"الأيديولوجيات الفاشلة"، فالجماعات الإسلاموية حرصت على تحويل الهوية إلى سلاح أيديولوجي. مما جعل الشباب المتمرد نافراً مما ينتمي إليها. وما كان منهم إلاَّ أن ربطوا بين الهوية العربية الاسلامية وتلك الجماعات ومع أعمال العنف حملت الهوية أخطاء الإرهاب وبدت الهويات قاتلة كحد السكين بمصطلح أمين معلوف. وليس أخطر على الهويات من أدلجتها، لأن الأيديولوجيا تضيف إليها لوناً من العناد الفكري والعنف الرمزي في نهاية المطاف. إن حدة الأيديولوجيا ومراوغتها تنعكسان على ما تؤول إليه الهوية. بدليل أن سقوط الجماعات الدينية سقوطا مدويا بعد أحداث الربيع العربي أعقبه مباشرة موجات من الإلحاد والتحلل من الأديان وانتهاك المحرمات الثقافية والدينية. وأبرز ما حدث أن شق الشباب عصا الطاعة على الأسرة والسلطة الأبوية باعتبارهما بجانب الدين والإله والحاكم في رأس واحد. كان الرأس السابق رأساً هوياتياً يرتدي قناعاً اجتماعياً مرة وقناعاً دينياً مرة أخرى ومرة ليست بالأخيرة يراكم الأقنعة فوق وجه السياسة.

وعندما كان الشباب يسمع كلمة (الهوية)، يستحضر كافة الأقنعة، ويراها دائرة على الرأس الواحد نفسه، وأنه لا جدوى من التعامل معها، لأنَّها ستؤدي في النهاية إلى الطريق ذاته من القيود والأغلال. والشباب عندما يتمرد إزاء الهوية، فلسان حاله يقول: هات من الآخر لا تجادلني كثيراً فيما أصبح خطراً. فهي رمز لكل تلك الوجوه المتوحشة المتعاقبة.

ولهذا فإنَّ الآليات المتاحة لتجاوز أزمة الهوية، لن تكون بكتابة وصفة سحرية. فالهوية لن يجدي معها وصفات مجربة. فمشكلة الهوية تفاجئك عادة بوجهها الجديد والعجيب. ولا يجب اطلاق النصائح العابرة للدين والأخلاقيات نحو وعي هؤلاء الشباب، فهم جيل لن تجدي معه كل السرديات القديمة لفهم الحياة. بيت القصيد أنهم يبحثون عن معنى الوجود الفاعل متى وجدوه ذهبوا إليه أيا كان موقعه. فبالإمكان لوشمٍ غريب على ذراع أحدهم أن يحدد شكل الهوية بالنسبة له، وربما يكون أكثر تعلقاً بالوشم من تعلقه بصور التراث المختلفة. وأبرز الآليات هو تعليم هؤلاء: كيف يتمردون بصورةٍ أكثر أصالة لا مجرد قول (لا) ؟ والرفض أحد نتاجات النفور إزاء الأوضاع المشبعة بسرديات ماضوية. وهذا ما يجعل النفور قاعدةً لا هامشاً.

وفلسفة التواصل مهمة جداً في هذا الشأن كما يرى يورجين هابرماس، وهو أحد النماذج الفلسفية الجديرة في المشهد المعاصر، وبخاصة أفكاره عن المجال العمومي public sphere وهو المجال الذي يشعر فيه الناس بالقدرة على التحرر وممارسة أصالتهم المفقودة. فلو كان الإنسان متهتكاً على المستوى الأخلاقي، وإذا كان له أن يرتدي قناعاً بعد قناعٍ، فلا يستطيع ذلك إزاء الآخرين إلاَّ أن يلتزم بالمسئولية. ولأن المجال العمومي لدى العرب مرتعاً لكل من هب ودب فعلاً وقولاً، فالأمر يحتاح إلى إتاحة الفرصة لممارسة الحياة بصورة حرة. مع الحرية وحدها، يحتاج الناس إلى نوع من الهويات المتنوعة. لتعبر عن الاختلاف كما هو لا كما يُفرض عليها من سلطةٍ عُليا.

***

حاوره: ا. مراد غريبي

في المثقف اليوم