شهادات ومذكرات

استاذ مجنون يحصل على جائزة نوبل

qassim salihyتوفي السبت 23 ايار الجاري في حادث سير عالم الرياضيات العبقري..المجنون صاحب (نظرية اللعبة).

  الجميل..المدهش..المفجع..المفارقة..ان زوجته توفيت معه في نفس الحادث.ولكم ان تتذكروا المشهد المهيب الاخير في فيلم بيتوفل مايند لحظة منحه الجائزة..وقوله:ان اعظم من كل انجازاته العلمية هو الحب..حب زوجته له..(ياه..فعلا احلى موته!).

*

   نص المقالة التي كنا نشرناها عنه في عام 2007

في عام 1959 كان " جون ناش " البالغ في حينه ثلاثين سنة واحدا من أشهر العقول في اختصاص الرياضيات . وحصل على الأستاذية " بروفيسور " بهذا العمر عندما كان يدّرس في المعهد التقني بولاية ماساشوستس. وكان يدهش الجميع بحلّه مشكلات رياضية يستحيل على الآخرين حلّها بطريقة غير تقليدية . واستطاع وهو ما يزال طالب دراسات عليا أن يقدّم فكرة " التوازن " في " نظرية اللعبةGame Theory" التي أحدثت ثورة في ميدان الاقتصاد ونال عليها جائزة نوبل.

وتروي زوجته " سيليفيا"أن زوجها " ناش " ظهرت عليه تصرفات غريبة الأطوار ، ثم ساءت حالته بأن أخذ يكتب رسائل الى الـ" FBI " ومؤسسات ووكالات حكومية أخرى يؤكد فيها أن هنالك مؤامرات عالمية على وشك أن تحدث . ثم صار يتحدث علنا في محاضراته الجامعية عن أن قوى في الفضاء الخارجي ومن حكومات أخرى تتصل به عبر الصفحة الأولى من مجلة " New York Times " . وصار يرى أشخاصا بأربطة عنق حمر " وهميين طبعا " يدورون حول المجمّع الذي يسكن فيه ، معتقدا أنهم من المخابرات الروسية " الشيوعية ."

ونظرالأوهامه وهلوساته وسلوكه الذي صار خطرا ، أدخلته زوجته مستشفى الأمراض العقلية في نيسان 1959 ، فشخّصه الأطباء بأنه مصاب بـ " الفصام الزوري Paranoid Schizophrenia " الذي يعني تحديدا : " متلازمة تتصف بالأوهام والهلوسات التي تتضمن أفكارا اضطهادية وعظمة ". وبعد خضوعه لعلاج طبي دوائي وتحليل نفسي تحسّنت حالة "ناش " الذي كان يقضي معظم أوقاته في المستشفى مع الشاعر المشهور آنذاك " روبرت لويل " المصاب هو الآخر بـ" الاكتئاب الهوسي ".

 

تعلّم " ناش " أن يخفي أوهامه وهلوساته ، ويتصرف بعقلانية ، على الرغم من أنه كان يعانيها في داخله . وخرج من المستشفى ، واقسم أن يتخلص من كونه مواطنا أمريكيا ..فسافر الى جنيف وأتلف جواز سفره الأمريكي . لكنه أضطر بعد سنتين الى العودة . وظهرت عليه أعراض جديدة من الشيزوفرينيا .فقد أخذ يرتدي ثياب فلاّح روسي ، ويتحدث عن السلام العالمي ، وضرورة وجود حكومة عالمية واحدة . وبعث برسائل وأجرى اتصالات هاتفية يتحدث فيها عن نظريات رياضية وشؤون عالمية ، الأمر الذي دعا المسؤولين في الجامعة والأصدقاء والأطباء النفسيين أن يلحّوا على زوجته لإدخاله المستشفى مرة أخرى ، ففعلت . وتلقى علاج الأنسولين والرجّات الكهربائية الشائعة الاستعمال في الستينات . وتحسنت حالته وغادر في عمر الثالثة والثلاثين ، وعاد الى البحث العلمي مركّزا هذه المرة في " توازنات التمايز الجزئي " . وبدأت تظهر عليه من جديد اختلالات في تفكيره وكلامه وسلوكه ، فأدخلته زوجته مستشفى خصوصيا هذه المرة ، قضى فيه خمسة أشهر من العلاج النفسي والدوائي . وبعد مغادرته ، قام أصدقاؤه بمساعدته من جديد على إنجاز أبحاثه . فكتب مقالات مميزة نشرت في مجلات علمية رائدة . غير أن الذهانات الحادة ظلت تأتيه من وقت لآخر ..الى السبعينات والثمانينات حيث تحسنت حالته تدريجيا وتعافى من الفصام "الشيزوفرينيا " على الرغم من عدم تناوله أي علاج ، الأمر الذي أثار دهشة الاختصاصيين الذين لم يجدوا تفسيرا لشفائه إلا في رعاية زوجته ومداراتها له وعلاقتها الحميمة به ، وفي الإسناد الدائم له من أصدقائه في اختصاص الرياضيات .

 

واصل " ناش " أبحاثه العلمية ، ومنح جائزة نوبل في الاقتصاد لمساهماته الأصيلة والمبتكرة في " نظرية اللعبة " التي أحدثت - كما أشرنا – ثورة في حقل الاقتصاد . وهو يعيش الآن مع زوجته في برنستون ، ويواصل عمله في ابتكار نظريات في الرياضيات ، ويرعى في الوقت نفسه أبنه " جوني " الحاصل على الدكتوراه في الرياضيات أيضا ، والمصاب بمرض أبيه نفسه " فصام البارانويا !".

وفضلا عما لقيه من تكريم ، فقد كرّمته السينما أيضا بإنتاجها فلما عنه بعنوان : " عقل جميل The Beautiful Mind ".

 

والآن : افترض معي لو أن أستاذا جامعيا أو عالما أو مفكرا أو أديبا أو شاعرا أو فنانا في بيئتنا العربية الخصبة بإنتاج " المجانين " أصيب بالشيزوفرينيا ، فما الذي سيحصل له ؟

أولا : سيفصل من الجامعة أو المؤسسة التي يعمل فيها ، لأنه صار في عرفهم مجنونا . وسيتخلى عنه أصدقاؤه وزملاء المهنة.

 

ثانيا : سيصبح عارا على أسرته . وقد تتخلى عنه زوجته ، ويتنكّر له أبناؤه وبناته .

ثالثا : سيسخر منه الناس ، وسيعاقبه المجتمع ليس بنبذه فحسب ، بل في تحريم الزواج من بناته .

استعيدوا من ذاكرتكم كم " مجنون " بعقل ذكي في مجتمعاتنا العربية مات في مستشفى المجانين ، أو في الشارع ، أو أنهي حياته بطلقة ؟ . أنا شخصيا أعرف خمسة من العراقيين ، فكم أنتم تعرفون ؟. ومن منّا " نحن والسلطة وهذه العقول " العاقل والمجنون؟!.

 

 د.قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم