شهادات ومذكرات

المثقف وفقه الأزمة .. ما بعد الشيوعية الأولى (4)

abdulhusan shaabanبيروت مركز إعلامي وأمني للنظام السابق وساحة مهمة من ساحاته الخارجية

كنت أعتقد أن غضب النظام على الكاتب يتأتّى من كونه قدّم سيناريو لإحالة المسؤولين عن شنّ الحرب إلى القضاء الدولي وفي مقدمتهم الرئيس السابق صدام حسين، بموجب أربع تهم أساسية، وعدد من الوثائق الدولية، وهو بتواضع أول معارض عراقي قدّم تلك المنهجية في الصراع، قانونياً وسياسياً، لكنني تيقّنت بعد حين إن ذلك أيضاً لا يعيره النظام أي اهتمام.

كان المهم لديه لدرجة الهوس والانتقام هو وضع الشيوعيين في خانة اللاوطنية، وإظهار نفسه المدافع عن مصالح البلاد العليا، ولذلك لا يقبل أية منافسة له في الدفاع عن القضية العراقية والحقوق العراقية التاريخية، التي قال ممثل النظام د. عصام عبد علي في عدن خلال انعقاد مؤتمر مجلس السلم العالمي حول " خطر الوجود العسكري الامبريالي في الشرق الأوسط والخليج العربي" وحضره وفد برئاسة عامر عبدالله والدكتورة نزيهة الدليمي وكاتب السطور، إن ذلك من حق النظام وحده، فما بالك حين يأتي كاتب ومن منظور أكاديمي ليدافع عن حقوق العراق، والأكثر من ذلك حين يكون شيوعياً، الأمر الذي أثار انفعاله ، لاسيّما وأن مزاجيته ونرجسيته لا تقبلان أي شريك، فكيف الأمر بمعارض، ومن موقع اليسار؟.

 

الوطنية العراقية

لم أكن أحسب إن الكتاب سيترك مثل هذا الأثر والتأثير، بل والنقمة عليّ وعلى عائلتي، الاّ بعد فترة طويلة، وهو ما عرفته من أحد أقطاب النظام لاحقاً الذي التقيت به بعد سنوات على هامش أحد المؤتمرات الدولية، فقال لي: أنتم تريدون منافستنا على آخر ما نملك وهو "الوطنية"، ولذلك كنتم أخطر علينا من الآخرين الذين نستطيع أن نكيل إليهم الاتهامات بسهولة: فهذا في الحضن الإيراني، وذاك من الموساد وثالث من الـ CIA ورابع ضمن الأجهزة السورية، وهكذا، أما من وقف ضد احتلال إيران للعراق ووقف ضد الحصار وضد مشروع الاحتلال الأمريكي، وفي الوقت نفسه يقف ضدنا باعتبارنا دكتاتوريين ومتفرّدين بالسلطة ومستأثرين بالمواقع، فقد كان الأخطر في عرف الحلقات المتقدمة من النظام، لأنه يريد أن ينزع عنّا الورقة التي نكافح وننافح فيها وهي " الوطنية العراقية" فماذا سيتبقّى لنا؟

إن صدور كتاب عن الحرب العراقية- الإيرانية يعيد طرح المسألة الوطنية على نحو مختلف من منظور معارض، عدّه النظام اختراقاً غير مسموح به، بعد أن ظهر الرئيس صدام حسين حينها، وهو يبتسم على شاشة التلفزيون، ليعلن إلغاء اتفاقية الجزائر من طرف واحد، بل ليقوم بتمزيقها أمام الملأ في 17 أيلول (سبتبمر) العام 1980، ثم بعد خمسة أيام، أي في 22 أيلول (سبتمبر) ليبدأ بشن الحرب، ويجتاح الأراضي الإيرانية، ويزهو بانتصارات هي أشدّ عاراً من الهزيمة على حد تعبير كارل ماركس، فهذا في عرف النظام تحدّياً لا ينبغي السكوت عنه، خصوصاً وإن الكتاب حاجج بخصوص الوسائل التي كان ينبغي اتباعها وهي مقرّرة في الاتفاقية ذاتها، والتي كان يمكن اللجوء إليها تجنّباً للحرب وابعاداً لشبحها، على الرغم من جميع التحفّظات القانونية والسياسية بشأنها.

لكن الحرب كانت الكارثة الأكبر التي عرفها العراق حتى ذلك التاريخ، وتوالت بعدها الكوارث والفواجع والمآسي الواحدة تلو الأخرى، فمن الحرب التي دامت ثمان سنوات 1980-1988 إلى غزو الكويت في 2 آب (أغسطس) العام 1990، إلى حرب قوات التحالف ضد العراق في 17 كانون الثاني (يناير) العام 1991، إلى مسلسل قرارات مجلس الأمن الدولي التي فرضت الحصار الدولي الجائر ونظام العقوبات الغليظة على العراق، والتي زادت على 60 قراراً، ثم وصلت إلى 73 قراراً صدر منها نحو 13 قرار بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003، وظلّ العراق يرزح تحت رحمة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالعقوبات الدولية، وصولاً إلى اندلاع الإرهاب والعنف على مصراعيهما وصعود الموجة الطائفية- الإثنية.

كان موقفي من اتفاقية 6 آذار (مارس) العام 1975 سلبياً انطلاقاً من دراساتي القانونية، ولاسيّما تقييمها طبقاً لاتفاقية فيينّا حول "قانون المعاهدات" لعام 1969، وهو ما كتبته في حينها بمطالعة من 13 صفحة، وهو الرأي الذي بنيت عليه فكرة الكتاب، خصوصاً بعد شن الحرب، وزاد الأمر تعقيداً تلويح إيران بمشروعها الحربي والسياسي الذي عبّر عنه السفير السيد موكري منذ وقت مبكر حين طرح أربعة شروط لوقف الحرب، تناولها الباحث في الكتاب وهي : استفتاء أكراد العراق، بالانفصال أو الانضمام إلى إيران، ووضع مدينة البصرة تحت السيادة الإيرانية المؤقتة، ومنح 150 مليار دولار تعويضات لإيران بسبب شنّ الحرب عليها، والأهم من كل ذلك هو قيام نظام حكم إسلامي (على غرار الجمهورية الإسلامية في إيران) بديلاً عن صدام حسين.

وهي أطروحات أبرزها الكتاب وعارضها، بتمسّكه بحقوق العراق مستعرضاً الاتفاقيات والمعاهدات التي تنازلت بها الدولة العثمانية تاريخياً للامبراطورية الفارسية، وهي حقوق تتعلّق بالعراق أساساً، وتناول العلاقات العراقية – الإيرانية منذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921 ولحين شن الحرب بما فيها اتفاقية العام 1937 التي تضمنت بعض التنازلات العراقية لإيران، ودور إيران الشاه في توتير العلاقات بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، وانسحاب العراق من حلف بغداد الاستعماري، ثم السعي لإلغاء اتفاقية العام 1937 من طرف واحد في العام 1969، وتوقّف عند اتفاقية الجزائر التي اعتبرت شط العرب نهراً دولياً، وقسمته بموجب خط الثالويك Thalweg ، من أعمق نقطة في وسط النهر عند انخفاض منسوب المياه، وحتى البحر، علماً بأنه خط وهمي.

ولعلّ مثل هذا الإقرار يعتبر تنازلاً خطيراً لإيران، فشط العرب هو نهر وطني عراقي وليس نهراً دولياً، فضلاً عن إن انحساره تاريخياً من الضفة اليسرى، الأمر الذي سيوقعه بعد نحو 100 عام حسب علماء الطوبوغرافيا في الجانب الإيراني، إضافة إلى تنازلات أخرى عن أراضي عراقية في كردستان في منطقة نوكان- ناوزنك ( التي كان للحزب الشيوعي مواقع أنصارية فيها، وقد عاش فيها الكاتب بضعة شهور)، مقابل استعادة مناطق زين القدس وسيف سعد التي لم تعيدها إيران، فاستعادها العراق حرباً، ثم عدنا إلى اتفاقية الجزائر ذاتها بخطاب وجّهه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في 15 تشرين الأول (أكتوبر) العام 1990 إلى الرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني في العام 1990 في حينها بعد تورطه باحتلال الكويت، وكأن دماء نحو مليون إنسان من الطرفين، وخسارة نحو 100 مليار واحتياطي 37 ملياراً وديون ثقيلة وأسرى ومعوّقين، لا قيمة لها وذهبت هدراً.

 

اختراق معاكس

لعلّ صدور كتاب في بيروت التي كانت تعتبر مركزاً إعلامياً وأمنياً للنظام، وهو يفضح الحجج التي تعكّز عليها في شن الحرب، وفي الوقت ذاته كان كاتبه شديد الحساسية إزاء حقوق العراق، كان يعني من وجهة نظر النظام اختراقاً في ساحة مهمة من ساحاته الخارجية، بل ساحة متقدمة، خصوصاً وقد جاء في ظل فعاليات سياسية وثقافية عراقية معارضة كان للحزب الشيوعي الدور الأكبر والأساس فيها، ولذلك كان ردّ الفعل شديداً، خصوصاً وأن الأمر أحدث نوعاً من التشوّش عربياً على الدعاية الديماغوجية الخارجية للنظام، وهو ما دفعه للانتقام من الكاتب وعائلته التي تحمّلت على مدى زاد على عقدين من الزمان عذابات لا حدود لها مثل العديد من العوائل السياسية العراقية المعارضة.

ولا أريد هنا التوقّف إلى ما تعرّض له الكاتب قبل ذلك من اعتقال وملاحقة ولاحقاً من ضغوط ومحاولة اغتيال وحجز الأموال المنقولة وغير المنقولة، فضلاً عن مصادرة مقتنياته الشخصية، لكنه تسنّى لي بعد لقائي بالوالدة بعد أكثر من عقدين ونيّف من الزمان (على آخر لقاء لي بها في بيروت حين أرسلها النظام لمقابلتي وتقديم عروض لي من جانب المخابرات العراقية) وحكت لنا تفاصيل ذلك والتهديدات التي حملتها، بحضور عبد الرزاق الصافي، عضو المكتب السياسي في حينها، وفخري كريم، مسؤول بيروت في حينها، وقد استمعنا إلى قصص وحكايات عن المعاناة الرهيبة التي عاشتها العائلة طيلة تلك الفترة.

وحين رحلت الوالدة نجاة حمود شعبان في العام 2007 كتبت خاطرة بعنوان " أحنّ إلى خبز أمي" وهي مرثية استذكار واعتذار، وفي العام 2012، وفي حواراتي مع الكاتب والإعلامي توفيق التميمي، ضمنّت ردّي على أحد أسئلته الذكية " رسالة اعتذار متأخرة" إلى والدتي ووالدي لما سبّبته لهما طيلة حياتي من أذى، لم أكن قادراً على ردّه أو إيقافه، وأكرّر مرّة أخرى، أنا فخور بهذه العائلة المتحّابة، المتسامحة ، المتفانية والنبيلة.

إذاً كان وراء الاستهداف من جانب الحكومة العراقية وجهاز مخابراتها هو محاولة احتكار الوطنية العراقية، خصوصاً باستغلال ضبابية بعض أطروحاتنا وشطط بعض ممارساتنا وقصور بعض تقديراتنا وتحالفاتنا، واستمرار رفعنا لشعار " إسقاط الدكتاتورية ووقف الحرب"، وهو الشعار الذي أثار نقاشات وجدالات وتوتّرات، وقادت هذه إلى تعارضات وانشقاقات وتباعدات، وخصوصاً بعد احتلال الفاو، شملت إدارة الحزب وكوادره بينهم: زكي خيري وعامر عبدالله وباقر ابراهيم وحسين سلطان ومجموعة المنبر التي ضمّت مهدي الحافظ ونوري عبد الرزاق وماجد عبد الرضا وخالد السلام وأحمد كريم وكاتب السطور، ومجموعة من الكادر الوسطي، إضافة إلى عشرات المثقفين اليساريين بينهم سعدي يوسف ومحمد كامل عارف وهيفاء زنكنة ومظفر النواب وشاكر السماوي وطارق الدليمي وعبد اللطيف الراوي ومحمود البياتي وآخرين.

 

1-كتاب وخطاب: عقدة احتكار الشيوعية

استذكرت حكاية كتاب " النزاع العراقي – الإيراني" عند بعض ردود الأفعال السلبية إزاء صدور كتابي عن : "عامر عبدالله- النار ومرارة الأمل: فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية"، الذي استقبل بحفاوة أكثر مما أتوقّع بكثير من لدن أوساط واسعة، حتى إن هناك من عرّف به قبل صدوره، وهناك من أجرى مقابلة مع الكاتب عنه عشية صدوره وكتب بمناسبته عن عامر عبدالله أكثر من كاتب، وهناك من اتصل ليحجز نسخة له ويسأل عن دار النشر. واحتفت به بشكل خاص أوساط أخرى من المهتمين بالحركة الشيوعية والوطنية وتاريخها وشخصياتها، التي يمثّل عامر عبدالله أحد أبرزها، حيث كان الوجه الأكثر إثارة للجدل خلال العقود الأربعة منذ الخمسينيات وحتى الثمانينيات، وتعرّض ما تعرّض له من إساءات بعضها لم يكن بعيداً عن أوساطنا، كما يبيّن الكتاب، فضلاً عن بعض آرائه واجتهاداته.

 

الوفاء الشيوعي

واعتبر كثيرون إن صدور كتاب عن عامر عبدالله هو جزء من الوفاء للتاريخ الشيوعي ولشخصية مميّزة لم يُعرف عنها الكثير إلاّ اختلاطاً، لاسيّما وسط الزحام الكثيف وفي ظل صعود موجة طائفية- إثنية، وكان إصدار كتاب عنه، ويتضمن حوارات مباشرة معه إزاء عقد تاريخية ومشكلات وطنية وأخرى حزبية، إنما إجلاء لكثير من الحقائق والمعلومات، ناهيكم ما احتواه الكتاب من وثائق ونصوص ومواد بقلمه، سواء محاضرته في الكوفة كاليري في لندن العام 1992 أو محاضرته في الملتقى الفكري للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن، عن: حرّية التعبير وحق المشاركة السياسية العام 1993، وهما إضافتان جديدتان تنشران لأول مرّة على نطاق واسع، لاسيّما في تطوّر فكر عامر عبدالله، وربما كانا مرتكزين لتوجّهات كتابه "مقوّضات النظام الاشتراكي العالمي" الصادر في العام 1997، وشكّلا واحدة من إرهاصاته، إضافة إلى مذكرته للرفاق السوفييت العام 1986 (مع باقر ابراهيم) ومذكرته إلى عزيز محمد الأمين العام السابق العام 1989 (مع رفاق آخرين ومجموعة المنبر) وعكست هذه النصوص نظرته إزاء القمع الحزبي ومراراته بخصوص تطور الأوضاع السياسية بشكل عام والواقع التنظيمي بشكل خاص وما آلت إليه الأمور.

بيد إن هذا الاهتمام بالحركة الشيوعية وبعامر عبدالله، لم يكن يعجب بعض الإداريين السابقين في الحزب ممن أرادوا المطاولة مع عامر عبدالله بعد غيابه، فأخذوا يبحثون عن دور لهم في الإساءة لهذا الرفيق أو ذاك، لاسيّما لأصحاب وجهات النظر ومن الذين اتخذوا مواقف في الأزمة الطاحنة التي شملت الحزب منذ نحو أربعة عقود، ولا تزال مستمرة، فهناك من اعتبر الحديث عن مواصفات عامر عبدالله ودوره التاريخي مبالغة، في حين هناك من اعتبره جحوداً بحقه وتطاولاً عليه من خلال بعض الانتقادات التي تناولها، وبالطبع فإن التمجيد أو التنديد، مثلما هو التقديس أو التدنيس، ليسا من مهمات الكاتب والكتاب، وبالطبع فإن الكاتب يتفهّم طبيعة هذا النقد، ويقدّر بعض دوافعه، لكن تحوّله إلى هجوم غير مسبوق، فهو أمر خارج نطاق النقاش والجدل والخلاف الذي لا ينبغي أن يُفسد في الود قضية كما يُقال، لاسيّما حين يكشف بطريقة سافرة عن " السمّية" والحقد، بل والكراهية لدرجة التأثيم والتجريم والتحريم، وذلك لإخفاء الارتكابات التي اعتقدوا أن الذاكرة يمكن أن تمحوها أو إن النسيان سيطويها وإن الإنشغال بالهموم اليومية للناس منذ الاحتلال ولحد الآن يمكن أن يُبعد تلك المشكلات عن دائرة الضوء أو يقلّل من أهميتها، متناسين إن الحاضر استمرار للماضي، سواء في مبالغات لخدمة الغير والتسبيح بحمده أو في الحصول عن امتيازات ومكاسب لأوضاع ملتبسة ومثيرة للتساؤل.

في المثقف اليوم