شهادات ومذكرات

علي حسين: شذرة ذكريات مع كيركغارد

لن اكون مبالغا عندما اقول ان هذا الكتاب واعني كتاب كيركغارد او كيرككورد - كما يترجمه صديقنا العزيز قحطان جاسم – (إما – أو) يعد ابرز نتاجات الترجمة العربية لعام 2023، ان لم يكن واحدا من اهم الترجمات التي قدمت خلال السنوات الماضية، فللمرة الاولى سيطلع القارئ العربي على تحفة كيركغارد " إما – أو " الكتاب الذي فتن جان بول سارتر ومعه رهط من الوجوديين امثال هايدغر وياسبرز وميرلو بونتي وكامو وليس انتهاء بالاسباني اونامانو الذي كان يردد ان قراءة كتاب كيركغارد تسببه له قلقا مستفحلا يجعله يتخذ خيارات " إما – او ".

لم اكن اعرف كيركغارد عندما قد وقعت في حب الفلسفة الوجودية في سنوات مراهقتي، فقد كانت الوجودية بالنسبة لي تتمثل في سارتر ومعه سيمون دي بوفوار وصاحبهما الذي انقلب عليهما فيما بعد البير كامو. واتذكر المرة الاولى التي سمعت فيها باسم كيركغارد كانت عن طريق صديق الصبا عادل عبد الله الشاعر والباحث، في تلك السنوات كان هذا الصديق مهوس بشيء اسمه الوجودية، يقرأ سارتر، ويحفظ فقرات من البير كامو، ويعرج احيانا على كيركغارد الذي لم اعثر على كتاب له في ذلك الوقت وفي الضفة الاخرى كان لنا صديق آخر هو قحطان جاسم ماركسي الهوى والانتماء، وبسبب غواية عادل عبد الله رحت ابحث عن كتب تدلني على المرحوم كيركغارد، فعثرت على كتاب صغير بعنوان " الوجودية " كتبه انيس منصور، وفيه ساعثر على ضالتي، فصل كامل عن كيركغارد مكتوب باسلوب ممتع وسهل يشرح فيخ حياة هذا الفيلسوف وماذا يريد ان يقول؟، ولانني كنت اعمل في مكتبة تتجدد فيها الكتب والمجلات، وقد كنت كنت شخصا فضوليا فيما يتعلق بالكتب. ما ان اجد كتاب جديد يحط رحاله على احد الرفوف حتى اذهب باتجاهه لا ستكشف مضمونه؟ فقد عشقت عالم الكتب، وبعكس جورج اورويل الذي يشتكي من هذه المهنة عندما كتب: " أتود ان تكون مهنتك بائعا للكتب؟ على الاجمال – برغم لطف رب العمل معي، وبعض أيام سعيدة قضيتها في المحل – لا. " انا للاسف من الذين يتوقون للعمل مجددا في مهنة بائع الكتب، فمع الكتب ينتابني احساس بالتفاؤل، وعن طريق المكتبة، وبعد احاديث عادل عبد الله الممتعة عن الوجودية، كان لقائي الأول بهذه الفلسفة عن طريق مجلة مصرية اسمها " المجلة " يرأس تحريرها الروائي والقاص المصري يحيى حقي، فأثناء بحثي في المكتبة عثرت على اعداد من المجلة، وأذكر انني وجدت في احد الاعداد مقالا كتبه عبد الرحمن بدوي بعنوان " خلاصة الوجودية "، اخذت العدد معي الى البيت، وكان لا بد ان ابارز الاصدقاء بمعلوماتي الجديدة، يخبرنا عبد الرحمن بدوي في مقاله ان الوجودية لها مركز الصدارة في الفكر المعاصر، وهي اصدق تعبير عن حالة القلق العام الذي تملَّك العالم بعد الحرب العالمية الاولى ثم الثانية. فلقد كان لهذين الحدين اثر بالغ في اشعار الانسانية بالمعاني الكبرى التي تؤلف نسيج وجودها..ثم وجدت مقالا في مجلة الاداب اللبنانية كتبه شعبان بركات بعنوان " كيركغارد " وفي مقدمة المقال يكتب: " تخضع الفلسفة في الوقت الحاضر لتأثير فيلسوفين ألا وهما نيتشه وكيركغارد. ومع ان هذين الفيلسوفين لم يثيرا اي اهتمام في حياتهما بل ظلا بعيدين عن عناية الفلاسفة، فان تاثيرهما اخذ يعظم شيئا فشيئا "، اذن فقد اتضح لي ان كيركغارد فيلسوفا مهما ما دام كاتب المقال يضع اسمه الى جانب نيتشه الذي كان كتابه " هكذا تكلم زرادشت " يلقى اهتمام كبير من رواد المكتبة، وذات يوم وبسبب سؤالي المستمر عن الوجوية وكيركغارد وجدت المرحوم ابو يعقوب صاحب دار الكتب التي كانت تتخذ من شقة في شارع الرشيد، يقول لي " عندي لك كتاب لكن سعره غالي شويه "، كان الكتاب بعنوان " كيركجور.. رائد الوجودية " المؤلف إمام عبد الفتاح إمام والكتاب بجزئين وبعدد صفحات تجاوز الـ " 800 " صفحة، وهذه الصفحات كانت اشبه بعبارة افتح ياسمسم، حيث كشف لي المؤلف عن خفايا مغارة هذا الفيلسوف الذي رفض كما يخبرنا عبد الفتاح إمام ان يطلق عليه لقب فيلسوف،ف في الفصل الاول والذي عنونه المؤلف: " هل كان كيركغارد فيلسوفا " يكتب إمام عبد الفتاح إمام: " كان كيركجور يقول عن نفسه ان مهمته في هذه الدنيا ان يثير الاشكالات في كل مكان لا ان يجد لها حلا، فهل يمكن ان يعد كيركجور فيلسوفا؟ وهل هو جدير ببحث فلسفي متخصص؟ اول ما يجيب بالنفي عن هذين السؤالين هو كيركجور نفسه ! فهو يرفض أن يكون فيلسوفا او ان توصف افكاره بانها فلسفة، كما كان يخشى ان يتم تناوله بعد موته بالدراسة العلمية او البحث الاكاديمي "، اذن ها انا ادخل مغارة كيركغارد اخيرا ومن بابها الذهبي، وسياخذني كاتب آخر اهتم ايضا بالفلسفة الوجودية وكان من انصار الوجودية وهوعادل كامل ترجم العديد من الكتب التي تناولت الوجودية ومنها كتاب كيركغارد " خوف ورعدة " وهو الكتاب الذي اعاد ترجمته عن الدنماركية الصديق قحطان جاسم تحت عنوان " الخوف والرعشة.. انشودة ديالكتيكية " والترجمة الجديدة صدرت عن دار الرافدين التي اتحفتنا بعدد من مؤلفات كيركغارد، وكان آخرها الكتاب الذي حصلت عليه هذا اليوم واعني به كتاب " إما – أو ".

بعدها ستتحفنا سلسلة " مكتبة الدراسات الفلسفية " التي كانت تصدر عن دار المعارف المصرية بكتاب مذهل بعنوان " سوؤين كيركجورد أبو الوجودية " للدكتورة فوزية ميخائيل وفيه تخبرنا ان عناصر الوجودية موحودة في الفلسفة القديمة لكن الوجودية كفلسغة: " لم تنشأ إلا مع كيركجورد، لذلك نقول عنه انه رائد واب ومنشئ لتلك النزعة المسيطرة على الفكر الاوربي المعاصر رغم كل ما نجده من عناصر الوجودية قبله ".

كنت ولا ازال اؤمن ان كتابا جيدا لشخص ما، هو بالتاكيد كتاب رديء لشخص آخر، وهذا ما حصل معي، فقد كنت أسأل العديد من الاصدقاء من قرأ كيركغارد؟ فاجد البعض متحمس، فيما البعض الآخر يجد ان كتبه صعبة ومن العبث ان يقضي المرء وقتا في حل الغازها..قرأت مرة في احد الكتب ان بائع مجوهرات قدم نصيحة لصاحب مكتبة قال فيها: " اذا رايت شيئا ملفتا للنظر، اشتريه، سواء عشقته بالمطلق أو كرهته بالكامل "، وهذه النصيحة انفذها بدقة منذ سنوات طويلة، وانا اجمع الكتب، فلا يوجد عندي كتاب لا اهمية له، سواء احببته ام لم اقع في هواه.. بعض القراء يختار التخصص. انا لا.للمكتبة عندي مفهوم واسع من عناوين واسماء.ولم ادخل مكتبة يوما من الايام واغادرها بايدٍ فارغة.

منذ ذلك الحين بقي المرحوم كيركغارد مصاحبا لرحلتي الفكرية، ليس بشكل حرفي وإنما حينا يكون معي وحينا احاول الهروب منه . ربما يكون ذلك عائد إلى غرابة الحياة التي عاشها والمآسي التي طاردته.

ولد سورين كيركيغارد في كوبنهاغن في الخامس من أيار عام 1813، حاول في سن الشباب ان يتخلص من جو الكآبة الذي عاشه في البيت مع أبيه، فأقبل بكل قوة على حياة اللهو، ورفع شعار "تلذذ بكل ما هو حسي"، ونراه يحاول ايجاد اعذار لهذه المرحلة من حياته، فيكتب في يومياته: "لقد ولدت كهلاً حين أتيت الى الوجود، ولكن يعزى إلي الفضل في إخفاء أحزاني بسعادة ظاهرة".

ترسم لنا الكتب التي كتبت عن سيرة كيركغارد، صورة طريفة لصبي منعزل يرتدي سروالاً قصيراً وقميصاً ملوناً، وجوارب طويلة، حتى اطلق عليه زملاؤه في المدرسة لقب "صبي الجوارب"، لم يكن يملك اية لعبة في منزله، وحين كان يطلب الخروج من البيت كان والده يمنعه، فالاختلاط خطر: "لقد سرقوا طفولتي، وأعطوني وانا طفل هيئة رجل عجوز، كان ذلك رهيباً". كانت تسيطر على ابيه فكرة الخطيئة، وقد قال لأولاده انه عندما كان شاباً يرعى الأغنام، شعر باليأس والضجر، فأنكر الله الذي لم يساعده في الحياة، وانه رأى بعد ذلك في المنام ان عاصفة رعدية ضربته، ومنذ ذلك التاريخ وهو يظن ان الله سينزل عليه في يوم من الأيام عقاباً رهيباً، وحين ازدهرت تجارته، بدت له الثروة والحياة المرفهة كنوع من الاختبار، وحين وقع لابنه الأصغر سورين عدد من الحوادث، اعتقد الأب ان لحظة سداد الدين قد حانت، وان عليه ان يقدم آخر أبنائه قرباناً كما فعل النبي ابراهيم مع آخر أبنائه. ولعبت الأقدار دوراً في ازدياد كآبة الأب الذي دفن خمسة من أبنائه بالاضافة الى زوجته، هذا المزاج السوداوي يصفه لنا كيركيجارد في يومياته : " تلك الحياة هي العالم معكوساً، حياة قاسية وغير محتملة، احيانا نقول الوقت يمر، والحياة تتدفق، ولكني لا أرى ذلك، بل يبقى الوقت ساكناً، وانا كذلك، كل خطط المستقبل التي ارتبها ترتد الي، وحين أرغب ان أبصق، فأنا أبصق في وجهي".

وكان كيركيغارد يذكر الماضي الذي عاشه مع أبيه ويتعذب، لكنه لايريد ان يغادر هذا الماضي، انه يصر ان يجعل من عذابه نقطة انطلاق نحو فهم للحياة: "مهمتي ان أصرخ وأدعو الناس، ان أخلق المشاكل والصعاب في كل مكان".

في السابعة عشرة من عمره ينهي تعليمه الثانوي ويستجيب لرغبة والده بدراسة اللاهوت، وتبدأ مرحلة جديدة من حياته كان فيها مولعاً بقراءة اعمال الفلاسفة المثاليين الألمان، فنراه يبدي سعادة كبيرة حين يلتقي الفيلسوف الألماني شيلينغ: " انا سعيد سعادة لاتوصف لسماعي محاضراته، حتى انني تنهدت طويلاً بما فيه الكفاية، وتنهدت الأفكار بداخلي". وقد اتفق مع هجوم شيلينغ على هيغل.

عندما بلغ الخامسة والعشرين من عمره توفى والده، الأمر الذي أحدث تحولاً كبيراً في حياته،: " لقد توفى والدي قبل ان يتم العقاب حباً لي، وذلك حتى اتحمل وحدي العقاب ".وبعد عامين حصل على شهادة في اللاهوت وخطب "رجينا اولسن"، لكنه فسخ خطوبته بعد عام، معلناً بوضوح انه لاينفع للحياة الزوجية، فقد اصبح مقتنعاً بأنه انسان لديه رسالة عظيمة، وان الزواج والعائلة يتعارضان مع هذا الهدف.

في العام 1843 ينشر اول كتبه "إما – أو" وفيه يعبر للمرة الاولى عن موقفه من الحياة، وهو موقف المتشائم: "لندع الآخرين يشتكون من هذا العصر الذي هو عصر الشر، إنني اشكو لأنه عصر تعس، عصر بلا عاطفة، وافكار الناس نحيلة وهشة كرباط الحذاء، ان نفسي مثقلة حتى انه ما من فكرة بقادرة على تعزيتها ". بعدها بأشهر ينشر كتابه الثاني "خوف ورعدة"، وتبع هذين العملين في عام 1844 كتاباه "مفهوم التهكم" و "شذرات فلسفية". وبعد عام نشر كتابه الخامس "مراحل على طريق الحياة"، ويبدو انه كان يشعر ان حياته قصيرة فأخذ يكتب بشكل محموم، فنشر خلال ثلاثة أعوام أكثر من مؤلف واصدر مجلة خاصة حاول من خلالها ان يبث افكاره التي اراد ان يقول من خلالها ان على الكنيسة ان تعود الى جوهر المسيحية، اذ يجب على المسيحية الكنسية ان تعترف بأنها ليست مسيحية.. وقد اتهم الكهنة بأنهم يتلاعبون بالدين، وجعلوا من الكنيسة مصدر كسب للعيش، لكنهم لم يفهموا ان الدين هو الولاء، وقبل كل شيء "في الارتفاع عن هذا"، وعن الكهنة الذين وصفهم بأنهم: "أكلة لحوم البشر".

في احد الأيام من شهر تشرين الاول عام 1855 وبينما كان كيركغارد يسير في الشارع، وقع مغشياً فنقل الى المستشفى،حيث رقد شهرا كاملا، والغريب ان اول عبارة قالها عند دخوله المستشفى: " لقد جئت هنا لاموت، " لتعلن وفاته في الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1855

كانت نتاج كيركيغارد على الرغم من وفاته في سن الحادية والاربعين، نتاجاً ضخماً وميادين البحوث التي تعرض لها تبلغ من الاتساع ما بلغته تلك التي ناقشها هيغل، وبما ان الوجود يعني القبام باختبارات اخلاقية فهو " إما- أو " مستمر وحياة عمل، ان نظرة كيركيغارد للفلسفة تعتقد انه لاتوجد باستمرار حدود حاسمة او واضحة المعالم للحياة، فخبرتنا ومعرفتنا هما باستمرار شذرات غير مكتملة، ربما تكون رسالة كيركيجارد الأكثر اهمية هي أن فهم العالم والعمل على النفس يتطلب وجودك الكامل.لقد كان لعمله وحياته عمق أخلاقي حقيقي، إلى جانب السخرية التي اتسمت بها حياته: " فالشك للعلم، مثل السخرية للحياة الشخصية ". لم يكن كيركغارد بمثابة واحة جديدة استريح في ظلالها، بل عاصفة هائجة تثير حولها العواصف إن اكتشافي له في سنين المراهقة جعل القراءة بالنسبة لي ساعات من التأمل الجاد والمثمر، فقد كنت امام كاتب صارم وجاد.

ساعود من جديد الى الى المرحوم " كيركغارد " وانا استمتع بقراءة كتاب الاثير والمهم " إما – أو "، واتذكر معه سنوات جميلة مضت واصدقاء لا يزالون ينيرون حياتنا ومنه العزيز قحطان جاسم.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم