تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

شهادات ومذكرات

مع مدني صالح .. من الذاكرة في ذكراه

raed jabarkhadomقبل البداية اعتراف بالتقصير: كثيراً ما فكرت في الكتابة عن مدني صالح (1932ـ2007)، الاستاذ والمفكر والاديب والانسان، وهو شرف ان يقوم به كاتب او باحث للكتابة عن هذه الشخصية الثقافية والفكرية المعروفة والمرموقة في الوسط الثقافي والفكري والادبي العراقي والعربي، حتى انه كانت امنيتي ان اكتب عنه في اطروحتي للدكتوراه، ولكنني عزفت عن ذلك، ولذلك العزوف اسباب واسباب، منها الرمز والسحر والادب الذي امتازت به كتاباته، ومنها الفكر العميق الذي لا يستطيع الباحث الوصول اليه ومعرفته بسهولة في مؤلفاته، فهو في اغلب كتاباته لم يتناول قضايا فلسفية وفكرية تقليدية ونمطية اعتدنا عليها في سنين الدراسة، ومن خلال بداية قرائتنا النمطية والبسيطة المعتادة للفلسفة، فلذلك وغيرها عزفت عن الكتابة حتى ولو في مقال صغير او عبارة او شهادة اتشرف بها ان تكون بحق استاذنا مدني صالح، وهذه المرة الاولى التي الج فيها الى عالم مدني صالح، بعد صمت وصيام دام اكثر من اربع عشرة سنة.

 

البداية مع مدني صالح:

مدني صالح اسم ذو موسيقى وايقاع لا يليق الا بمدني صالح، وقد يتمنى هذا الاسم الكثير من المثقفين ولكنه لا يكون ذلك الا لمدني صالح، فانه ليس اسماً فحسب بل عقلاً وروحاً وعاطفة ًوجسداً، فهذا كله يكُون مدني صالح، المفكر والاديب والاستاذ والانسان.

لمدني صالح روح جذابة، جذبت الكثير من مريديه وخواصه نحوه جذباً صوفياً، لما يتمتع به من علم ومعرفة وحكمة ودراية وخبرة في الكثير من شؤون الحياة والجامعة والناس، فقد اكسبته مدرسة الحياة هذه الامور كلها واكثر، وهذا ما دعا الكثير من الرواد للتأثر بفكره وادبه وسلوكه، فالملتقي به لاول مرة لا يدرك سر هذا الرجل واسلوبه، ولربما يراه غريب في كلامه وافعاله واحواله، ولكن المتعمق فيه والقريب منه يعرف خصوصيته وعظمة خياله وقوة منطقه وسماحة روحه، واعتقد ان مدني صالح هو اشبه بمدينه سحرية لا تفتح ابوابها للجميع الا من عرف رمز وسر ومفتاح هذه المدينة الجميلة.

تعرفت على استاذي مدني صالح عندما درسني في المرحلة الثالثة من الدراسة الجامعية الاولية في قسم الفلسفة الجامعة المستنصرية مادة (مشكلات فلسفية)، وتحديداً في الفصل الدراسي الثاني من العام الدراسي 1997/ 1998،فكان من سعادة الطلبة والجامعة ان يحاضر فيها استاذاً للفلسفة من جامعة بغداد درس وتخرج على يديه الكثير من طلبة الفلسفة في داخل العراق وخارجه من العراقيين والعرب، بل لحب مدني صالح للفلسفة وسعيه لنشرها فقد اخذ على عاتقه تدريسها في الكثير من الجامعات العراقية، في مراحل الدراسة الجامعية الاولية والدراسات العليا.

وكان لدرسه وتدريسه اسلوب يتسم بالروح العلمية والمرح والجدية والاحترام تجاه طلبته، فهو سخي في كل شيء مادته واحترامه وحبه وانسانيته، بل حتى في اعطائه للدرجات لمن يستحق من طلبته.

كانت هذه البداية مع استاذنا مدني صالح، علاقة طالب باستاذ لا يعرف عن استاذه حتى الشيء اليسير، وبعد ذلك في المرحلة الرابعة من دراستي اخذت اتردد عليه في جامعة بغداد للتعرف عليه، حيث اعانني على معرفته من خلال ما قدمه لي واهداني من مقالاته وكتاباته في جرائد ومجلات عراقية وعربية، وكانت لي قصة لطيفة للتعرف عليه لتكون مدخلاً لعلاقتي باستاذي صالح، الا وهي كنت قد حصلت على نسخة مصورة من ديوان (بستان عائشة) للشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي، وعليه اهداء البياتي بخط يده لمدني صالح، وكنت قد اخذت الديوان معي وقلت لاستاذي هل لديك هذا الديوان،؟ فقال: لا، وتعجب اكثر حينما رأى الاهداء له، وتعجبت لذلك، وقال لي استنسخ ورقة الاهداء واجلبها لي، ولم اكن اعلم ان لمدني صالح قصة كبيرة مع البياتي في كتابه (هذا هو البياتي) وقبلها مع السياب في كتابه (هذا هو السياب)، فكانت هذه بداية البداية مع عالم مدني صالح.

وبعد تخرجي من قسم الفلسفة وحصولي على شهادة البكالوريوس من كلية الاداب الجامعة المستنصرية للعام الدراسي 1999ـ 2000م، تقدمت لدراسة الماجستير في جامعة بغداد وقُبلت للدراسة في العام 2000، انا ومجموعة طيبة من الاخوة والاخوات من جامعات عراقية متعددة، حيث كان لنا الشرف للدراسة في هذه الجامعة وعلى يد مجموعة من الاساتذة الاكفاء، ومنهم استاذنا مدني صالح، حيث قام بتدريسنا مادة (شخصية فلسفية اسلامية) وكانت لي تحديداً فرحة كبيرة ان اكون بقرب استاذً كبير وانسان عالم، اتعلم على يديه ليس الفلسفة فحسب، بل المنهج العلمي والبحث العلمي وطريقة التفكير السليم، حيث كلفني ذات يوم بقراءة كتاب (رسالة اضحوية في امر المعاد) لابن سينا والبحث عن عبارة صغيرة في الكتاب للتحقق من وجودها فيه، فما كان على الا القراءة الكاملة للكتاب والتحقق من ذلك فلم اعثر عليها ولا وجود لها في الكتاب، وسألته بعد ذلك عن سبب تكليفي بذلك وبحثي عن عبارة صغيرة لا تضر ولا تنفع، فقال لي: (انما اردت منك ان تطلع على الكتاب بكامله، من خلال هذه الطريقة). فما كان مني الا الاستمرار على هذا النهج في القراءة والبحث والتحقق، وحيث كلفنا بعد ذلك بتقارير علمية حول فلاسفة مسلمين من المشرق العربي ومغربه، فكان فتحاً علمياً كبيراً ان نتعلم ونتربى على منهج يعتمد الصبر والتحليل والاناة في عملية القراءة والكتابة.

وبين الدرس العلمي والبحث اليومي والتقرير الفلسفي الاسبوعي مع استاذي مدني صالح، لم انقطع عن التعرف بصورة شخصية عن كتابته ومقالاته الفلسفية والادبية والثقافية، من خلال جلوسنا معه بعد الدرس او قبله في غرفته في قسم الفلسفة، التي من خلالها تعرفت على مجموعة من الرواد والباحثين والمثقفين سواء في الحقل الفلسفي او الادبي او الثقافي او الفني، فكان يستقبل في غرفته الوافدين اليه من طلبة الفلسفة وباحثيها والفنون الجميلة والادارة والاقتصاد واللغة العربية، ونخب متنوعة من اهل الثقافة والمعرفة والادب.

وبعد اكمالنا للسنة التحضيرية للماجستير توجب علينا تقديم موضوعات مقترحة للكتابة، فتقدمت للّجنة العلمية في قسم الفلسفة بمقترح عنوان كتابة رسالة الماجستير وهو ( فلسفة الذات عند محمد اقبال) فنال الموضوع استحسان اللجنة العلمية وحُدد لي الاستاذ (مدني صالح) مشرفاً على رسالة الماجستير، ففرحت بذلك واعُجب بالموضوع كونه موضوعاً يجمع بين الفلسفة والادب او (الادب الفلسفي)، واستاذنا رائد في هذا المجال كتابة وتدريساً ومنهجاً.

وكنت قبل ذلك الموضوع قد اقترحت عليه الكتابة عن شخصية (هشام ابن الحكم وارؤه الكلامية) الا انه حذرني من الكتابة عن هذا الموضوع بسبب الاوضاع السياسية والكبت الثقافي وقمع الفكر والحرية في العراق آنذاك، فضلا عن الكتابات والاقلام التاريخية والبحثية غير النظيفة التي طعنت وشوهت ودست بفكر هشام بن الحكم والمذهب الشيعي، حتى ان احد اساتذة الفلسفة في جامعة بغداد يصف هشاماً في احد مؤلفاته بانه ( شيخ الروافض)، فكيف اذن يتناول طالب وباحث مثلي وانا في بداية مشواري البحثي موضوعاً مثيراً وخطراً عن شخص اثير حوله الجدل والطعن والتشويه، فكان موقف استاذنا مدني صالح موقف الاب الحنون الذي يهمه مصلحة ابنائه فلذلك نهاني عنه، وكان توفيقي ان اعيش مع عالم محمد اقبال والادب الفلسفي، النهر الذي يغرف منه مدني صالح ويعيش فيه.

وبين موضوع رسالتي، قراءة وكتابة، لم انقطع عن التواصل مع استاذي بخصوص ما يكتب وينشر من مقالات وبحوث ومؤلفات، بل اخذت على عاتقي ان أُلملم واجمع وافهرس اغلب ما كتبه في الجرائد والمجلات العراقية والعربية من عناوين لمقالات ومقامات وبحوث ولقاءات، له او عنه، من قبل كتاب وباحثين واقلام ثقافية كبيرة ورائدة اعجبها فكر ومنهج وثقافة وروح مدني صالح.

وقد اعانني استاذنا كثيراً في جلبه لاسماء وعناوين واعداد الجرائد والمجلات لغرض كتابتها يدوياً من قبلي، وطبعها بعد ذلك لتكون مادة ببلوغرافية مهمة للباحثين المهتمين بفكر مدني صالح، ولا زلت احتفظ بها الى اليوم.

هذا بالاضافة الى الدور الكبير الذي لا يثمن، الذي لعبه الدكتور محمد فاضل، في جامعة بغداد، للبحث والتوثيق والجمع لما كتبه وتركه استاذنا مدني صالح، فقد كان الاخ والباحث الجاد الدكتور فاضل على مقربة كبيرة ومنزلة سامية من صالح، وثمرة هذا القرب والعشق الكبير بين الباحث واستاذه، صدور سلسلة من المقالات والبحوث والكتابات قام بها فاضل عن صالح، وقد توج هذا القرب الفكري والثقافي بولادة كتاب (بعد خراب الفلسفة) لمدني صالح، الذي كان عبارة عن سلسلة من البحوث والنصوص الفكرية والثقافية جمعها فاضل وقدم لها في هذا الكتاب الذي طبع في بيروت عن (دار الهادي) وكانت وراء خروج هذا الكتاب ايادي ثقافية وفكرية بيضاء سعت لنشر فكر مدني صالح واخراجه للوسط الثقافي والفكري العربي .

لا اريد هنا على هذه الصفحات البسيطة والفقيرة التعريف بمدني صالح ،المفكر والاديب والانسان، وبمؤلفاته الفلسفية والادبية والثقافية، فهو معروف لذوي الاختصاص وغيره، في طريقته في الكتابة والتدريس والنقد والتحليل.

 

من مقامات مدني صالح الى مقام مدني صالح :

اعتقد ان شهرة مدني صالح الثقافية والشعبية قبل شهرته الفلسفية، انما كان من خلال ما نشره في الصحف والمجلات العراقية والعربية من مقالات وقصص ومقامات، وتم ذلك باسلوب ادبي جذاب وساخر رائع جعل الكثير من الناس يقرأوون لمدني صالح ويدمنون على قراءته من خلال هذا الاسلوب الذي ميز كتابته عن غيره من الكتاب، وكأنه من القلة القليلة من الكتاب الذين دخلوا الى قلب وروح وعاطفة القاريء من خلال هذا الاسلوب الذي يذكرنا بقصص كليلة ودمنه والف ليلة وليلة واخوان الصفا وروائع الادب العربي والانساني الاخرى.

ومن الملاحظ ان اسلوب مدني صالح هذا ما كان ليكون لولا دراسته وولعه وهيامه بالفليسوف العربي المسلم ابن طفيل ورائعته الفريدة قصة حي بن يقظان، فمدني صالح قرين ابن طفيل، دراسة ونقداً وتحليلاً واسلوباً وشغفاً بالغريب العجيب، هذا من جهة، ومن جهة اخرى اطلاع مدني صالح وهيامه بالادب العربي والعالمي، شعراً ونثراً، مقالة ومقامة وقصة ورواية ومسرحية، وانشغاله مدة طويلة من الزمن بدراسة الادب العربي بحثاً ودراسةً وتحليللاً ونقداً، ما بين المتنبي والجاحظ وطه حسين وبرنارد شو وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي والحلاج والمعري والخيام وغيرهم الكثير ممن قرأ لهم مدني صالح وتأثر بهم.

هذه البداية التكوينية والتأسيسية الثقافية لمدني صالح هي التي صنعت اسلوبه وطريقته ومنهجه، وجعلته من الرواد في هذا المجال، ولكننا نتفاجىء بأن مدني صالح قد اعلن امام الملأ الثقافي وامام قرائه انه نادم على كل ما كتبه قبل تاريخ (22/4/1995 ) لانه ليس من الفلسفة في شيء وهو ادب خالص، ما عدى مقاماته وكتابه الشهير المعروف بـ (مقامات مدني صالح) . اما ما بعد هذا التاريخ فانه انجب لنا فلسفة خالصة، تجسدت في بحوثه وكتاباته منها بعد الطوفان، وبعد خراب الفلسفة، والتي تتضمن موضوعات الادارة والتاريخ والتصميم والتشكيل وفلسفة الاحتكار وفلسفة الفن والجمال والوجودية والتصوف والتربية والتعليم والثقافة والحضارة والمدنية وغيرها.

ولدي رأي عما قاله مدني صالح اعلاه (اي عن ندمه لما كتبه قبل التاريخ المذكور)، اقول ان موقف صالح هذا يحتمل احتمالين وهما:

الاحتمال الاول: ان مدني صالح فعلاً انه نادم ندم حقيقي عن كل ما كتبه في مجال الادب، وابتعاده عن الكتابة في تخصصه الدقيق وهو الفلسفة، وانه حرم نفسه وقرائه من متعة التخصص الدقيق الذي كان بالامكان ان يستثمر كل جهده في قراءة وكتابة البحث والنص الفلسفي، لان ما تركه من نتاج في حقل الادب والنقد الادبي كبير جداً يفوق الحقل الفلسفي.

الاحتمال الثاني: ان مدني صالح غير جاد في ندمه هذا، وربما ان التاريخ اعلاه يعد مجرد حداً فاصلاً في تاريخ الكتابة عند مدني صالح في توجهه نحو انتاج النص الفلسفي (اقول النص وليس البحث) لان توجهه الاخير انصب نحو انتاج النص الفلسفي، وهذا واضح من خلال كتاباته ومنها بعد الطوفان وبعد خراب الفلسفة.

ولكنني ارى ان لاحاجة لمدني صالح لهذا الندم، فالاسلوب الادبي هو الاسلوب الذي طبع مدني صالح وصنع اسمه وبه نشر فكره، وما كان ليكون هذا الاسلوب لولا توجهه الكبير نحو الادب وتفرعاته، بل ان شهرة مدني صالح اتت من خلال هذا الاسلوب، فلو انه توجه توجهاً فلسفياً بحتاً منذ بداية حياته لا ندري قد يحقق هذه الشهرة او لا يحققها، هذا من جانب ومن جانب آخر فمدني صالح لم ينقطع عن ممارسة الفلسفة وهو منشغل في ميدان الادب، فهو يحاكم الادباء والكتاب والمثقفين محاكمة فلسفية. ولكننا نسجل على مدني صالح تأخره عن كتابة النص والانتاج الفلسفي، فكان عليه ان يحرص الى الانتباه ان لديه : قارىء عام وقارىء خاص، او قارىء مثقف وقارىء فلسفي، فهو لمدة طويلة يكتب للقارىء المثقف ومدة قليلة كتب للقارىء الفلسفي المختص، وانا اوافقه ندمه ان كان يصب في مصلحة القارىء المختص، فهو فعلاً ابدع في مجال النص والنتاج الفلسفي في السنوات الاخيرة من حياته، ولكنه في الوقت نفسه سجل فلسفته منذ زمن مبكر من حياته عن طريق اسلوبه الادبي الجذاب الذي تميز به عن الآخرين.

خلاصة القول اننا لا نستطيع ان نفصل مدني صالح الاديب والكاتب والمثقف عن مدني صالح المفكر والاستاذ والانسان، فمدني صالح كلُ لا يتجزأ.

قال عنه المفكرالكبيرالراحل الدكتور حسام الآلوسي، الذي قضى اياماً طويلة معه في الرفقة والتدريس، عن علاقته الحميمة والقديمة بمدني صالح: (قرأ على بقايا التجربة وكان انتهى منها على التو وهو مدرس في قسم الفلسفة وكنا نلتقي كثيراً، ودفعني حماسي واعجابي بهذا الشعر الى ان اصفه من اوائل شعراء العراق في مقال في مجلة الادآب البيروتية، وكان معي في هذا الرأي الدكتور جلال الخياط . ولكن مدني الشاعر لا ادري ما دار به الزمان، اما مدني الناثر والقاص وصاحب المقامات واديب المقالة الممتعة الطريفة فما زال يزدهر كل يوم، واذا كان لي ان اعطي اهم خاصية لمدني الاديب والكاتب والمفكر، فهي اسلوبه، اسلوب فريد متميز، تستطيع ان تقرأ مقالة واحدة باسمه ثم تقرأ ما شئت من مقلات اخرى بدون اسمه فلا تحتاج لتفكير او تأن، لانك ستعرف انها لمدني على التو. هذه لا تخطىء ولا يتجادل بها اثنان علامة على ان من تعرف اسم مما تقرأ له بدون ان يذكر اسمه، اسلوباً متميزاً كما ان للجاحظ اسلوبه، ولابن المقفع اسلوبه، ولطه حسين اسلوبه ، بل انني اتجاوز القول انك ربما تخطىء في رد قطعة للجاحظ الى الجاحظ، لكنك لا تخطىء مرة واحدة في رد قطعة لمدني الى مدني، وتلك نعمة لا يؤتاها الا ذو حظ عظيم ) جريدة القادسية بتاريخ 10 /10/1989

وقال الراحل الدكتور جلال الخياط استاذ النقد الادبي في مدني صالح: (ان لمدني صالح موقفاً خاصاً من اللغة، وجملته متميزة ودالة عليه، وهو من ابرع من قرأت لهم نثراً في اقامة علاقات غير مألوفة بين الالفاظ، تجذب القارىء وتشده الى ما يكتب. فلمدني اسلوبه وطرائقه المتفردة في عرض افكاره وتوصيلها الى المتلقي، لا يعوزها تشويق ولا ترغيب، يقدم الجد بالهزل ليهز في القارىء مواطن الركود الفكري لديه.) ظهر غلاف كتاب مقامات مدني صالح. ط1. بغداد. 1989.

وكان مدني صالح معتدلاُ بأرائه وكتاباته لذلك كانت الصحف العراقية (كما يقول حميد المطبعي) منقسمة بين صحف تخشى كتاباته فتعزف عن نشرها، وصحف تجاهد لاقناعه بالنشر مع عدم وجود الرقيب لاشطباً ولا حذفاً, ومع ذلك كان مدنياُ لايخضع لرقيب ولا اقترب من رئيس تحرير او وزير اعلام ولم ينحنِ لعاصفة سياسية او حزب او عساكر انما آمن بنفسه، مادامت تشع خيراً فلا خوف عليه، كان مثالاً في موكب جنح الى الهاوية، وكان يقدم صورة لقلم اقوى من الكارثة.

 

مالذي بقي من مدني صالح؟:

الذي بقي من مدني صالح كثير، فكره وادبه وطلابه وقرائه واسمه ومقاماته التي احتوت فلسفته وادبه وطرائفه. بقي من مدني صالح (مقامات مدني صالح) و(ما بعد الطوفان) و( بعد خراب الفلسفة) و(هذا هو السياب) و( هذا هو البياتي) و ( هذا هو الفارابي) وبحوثه ومقالاته وادبه وفكره المبثوث في الجرائد والمجلات.

اما الذي استفدته انا على المستوى الشخصي من استاذنا مدني صالح فقليله كثير، ومنه المنهج والاسلوب والحب والصبر والنقد والتحليل والنظر لا بالبصر فحسب بل بالبصيرة تجاه الاشياء، وان لا اغتر ولا اخاف من الالقاب الكبيرة مهما كانت، وان الاشياء بمسمياتها لا باسمائها، وان المكان يكبر بالمكين، وان الابناء خير من الآباء، والآباء خير من الاجداد، وان نفخر بانفسنا لا بابائنا واجدادنا، وكان اشد ما يخافه مدني صالح هو خوفه على الورد من زارعيه، وعلى الثقافة من اهلها، وعلى كل التخصصات من ممارسة غير اهلها لها، واخشى ما يخشاه مدني صالح هو وجود الرجل غير المناسب في المكان المناسب، فكان خوفه كخوف الفاربي وافلاطون على ابتعاد اهل التخصص عن ممارسة تخصصهم ومجيء اناس لا علاقة لهم لممارسة ذلك التخصص وتلك مصيبتنا في كل زمان ومكان .

وقد قام الاخ الاستاذ حافظ الجيزاني بانجاز رسالتة ماجستير عن فكر مدني صالح نوقشت بتاريخ 30/4/2015 في جامعة بغداد ـ كلية الآداب ـ قسم الفلسفة، تضمنت حياته واعماله ومشروعه الفكري، فهذا واكثر هو ما تبقى من مدني صالح والذي لا ينفد، ما دام هناك من المخلصين من احب مدني صالح الانسان، فكان بحق الاستاذ والمفكر والمثقف الذي يشار له بالبنان من قبل القاصي والداني. وكان مفكراً محايثاً قريب جداً من الواقع رغم علو ـ لا تعالي ـ لغته واسلوبه وفكره، فهو يبغض تعالي الفلسفة وفلاسفتها، ويحاول ان يجد لها الف طريق وطريق ليسحبها الى الواقع لتناقش قضايا الانسان وهمومه وواقعه السيء، ولذلك اعد مدني صالح انه كان بحق المفكر الذي عبر عن لحظته الزمكانية بنجاح وامكانية فريدة لا تؤتى الا لمدني صالح، او ممن كان له حظ عظيم من الفكر والثقافة والادب والفنون.

ورحل عن عالمنا مدني صالح بتاريخ 20/تموز/2007، والعراق كان يمر بوضع مأساوي خطير، حيث التطرف والعنف والكراهية غزت المجتمع العراق وغذت عقول الكثيرين، ونحن اليوم نستذكر رحيل مدني صالح في سنويته الثامنة، لا زال العراق يعيش حالة اخطر واسوأ واكثر عنفاً وكراهية وتطرفاً مما سبق، لا ادري ماذا سيقول ويكتب مدني صالح لو امتد به العمر الى يومنا هذا، هل سيكتب عن مقامات العراق واحواله وساسته وسوء ادارته واقتصاده وتهالك مجتمعه وثقافته وتعليمه ومؤسساته، ام سيصمت ازاء هذا الوضع المزمن والمتزمت الذي ليس للمثقف والمفكر والكلمة الحرة الصادقة من ثقل وميزان ومكانة في رؤوس ونفوس الكثير من الساسة والمسؤولين واصحاب القرار.

 786-madani

الاستاذ والمفكر الراحل مدني صالح مع كاتب المقال بتاريخ 15/8/2002 في جامعة بغداد ـ قاعة الادريسي .

 

د. رائد جبار كاظم

 

في المثقف اليوم