شهادات ومذكرات

لمى ابوالنجا: الطريق للنجوم

من أكثر المواقف إرباكاً التي أواجهها وبشكل مستمر هي الإجابات عن تلك الأسئلة البسيطة والسطحية والتي على ظاهرها البسيط إلا أنها شديدة الخصوصية والعمق ولايهم السائل الفضولي أن يعرف الحقيقة وغالباً ما ينتظر منا إجابات بسيطة وسطحية كذلك..

هل يعقل أن فتاة مثلك وبكل هذه الصفات والمزايا لم تجد شريكاً مناسباً حتى الآن؟

سألني هذا صديقاً مثقفاً خلوقاً محترماً تجاوز الخمسين من العمر فضولياً جداً، في الحقيقة ليست المرة الأولى التي أجد نفسي فيها بمواجهه مباشرة مع هذا السؤال الملعون الذي بات ومع مرور الوقت يلتصق بي كإسمي كهوية جديدة علي تعريف نفسي من خلالها..

ماذا أجيب؟ وماهي حدود الصراحة التي علي البقاء مختنقة بداخلها. هل أقول أن التربية الدينية المتشددة وفروض التضحية والنزاهه وأوهام العفة والعار والفضيحة والضغوط الإجتماعية أضاعت لي بوصلتي وبات كل ما حسبته حباً إكتشفت وعلى كبر أنه مجرد روابط صدمات وعقد سيكولوجية عميقة ولم أكن قادرة على التمييز بين من يرغبني وبين من يحبني ومن يلتصق بي ككائن طفيلي يمتص الحياة من روحي بالقدر الذي يلزمه أن يعيش ثم يلفظني قلباً خالياً مجرّداً فارغاً من كل شيء يتجرع سمّاً آخر، أن شقائي قد كتب منذ أن ولدت أنثى بهذه البقعة الموبوءة من الأرض المعادية للحب وللعاطفة ولكل ماله علاقة بالجمال، جمال الوجه وجمال الجسد جمال التدفق الأنثوي عمق النظرات عذوبة الصوت ودفء المشاعر وأن علي ستر كل ما أودع بداخلي من رغبات وألحفها تحت طبقات السواد..

أأقول أن كل ما لاقيته من تنمر وإستخفاف من أخواتي وقريباتي وصديقاتي بدافع الغيرة أو السخرية جعلني أستخف بكل شيء وبكل ما بدا لي من بعيد أملاً بدفئاً حقيقاً نقيّاً عذباً وكأنه صورة غير موجودة سوى في أحلام يقظتي، وأنني أمضيت خمسة عشر عاماً تائهةً في صحرائي باحثة عن إنتماء يروي ضمأ فؤادي وكلما خلت أني لمسته هرب بعيداً، أصبحت أتخلى وأمضي نحو الجمود والبرود والجفاف أركض إلى الصقيع باحثة عن الدفء بين الثلوج حتى إن مت برداً، أن أتخلى وأترك قبل أن أُترك وأنني حينما واجهت كل ذلك واستطعت أن أضع يدي على موضع الجرح لتطهيره أضرمت به النار..

هل يعقل أن بنت مثلك مفعمة بالحياة وبالطاقة أن تكون إنعزالية منطوية على نفسها؟

لا تعلم كم تطلب مني الظهور بهذه النسخة للعالم ولا كم من المرات تخفيت خلف ابتساماتي كم من الساعات قضيت على سريري سارحة في اللاشيء أحلم بالذهاب إلى اللامكان، هناك أموراً نظن أننا نسيناها كتوبيخ معلم في المدرسة أمام الطلاب وإحراجه إيانا ورد فعل بارد من والدينا حينما انتهينا من رسمة سيئة لنريهم إياها، عندما جلسنا قرب أمهاتنا خجلين من التعبير عن الحاجة للحنان فتجاهلننا راكضين إلى إخوتنا المدللين، وعن الخذلان حينما ركضنا إليهن بعينين غارقتين بالدمع نشكو من ظلم الأولاد في الحي الذين كسروا زجاج سيارة جارنا فصفعن خدنا لتأديبنا عن ذنب لم نقترفه تفادياً للإحراج أمام المعازيم وإثباتاً لحسن التربية، عندما أخبرنا أخواتنا النممات بأسرارنا ففضحوها عند الجميع وعندما أردنا مرافقة إخوتنا الكبار للبقاله فرفضوا رفقتنا، عندما هجرنا من نحب لغيرنا وكيف أخفينا إنكسارنا في سبيل الكرامة، كم من المرات كان علينا أن نفعل كل شيء لانريده نقول مالانشعر به ومالايمثلنا حتى نظهر بالصورة المثالية التي ترضي أهلنا لأننا كنا نعتقد أننا لسنا جديرين بالحب وبالقبول بأخطاؤنا وبنواقصنا وعيوبنا.

تلك المواقف العابرة لاتعبر إنما تتغلغل عميقاً في الذاكرة المنسية وتظهر في تكويننا في علاقاتنا وفي كل ما من شأنه ربطنا بالآخرين، ولأنني وبمعجزة ما توصلت إلى قبول مطلق لتلك العثرات المخجلة القبيحة في النفس وكشفت عنها بلا خجل ،مشيت فوق مناطق الخطر بقدمين عاريين بعد الكثير من الصراخ والصراع والألم وتقلبات المزاج أصبحت شخصاً محاطاً بالسحر والغموض والجاذبية، كيف يمكن الجمع بين نقيضين؟ كيف لإنسان أن يخلق بطينٍ من الجنة وآخر من الجحيم؟ تلك الإنفصالات المتكررة بين المتناقضات وسرعة الإستشفاء العاطفي أعطبت قلبي الذي وصل إلى حد مرونته الأقصى تدفعني شيئاً فشيئاً للجنون.

كيف تملكين هذا القدر من الفهم للآخرين؟

لا أدري.. أمتلك قلباً بركانياً ملتهباً تتطاير منه العواطف كالشرر تلسع كل من إقترب منه بنيران وردية دافئة ترسم حروقاً ناعمه ولكنها موجعه، يلفت إنتباهي في الآخرين دائماً مالايرى ومالايلفت أحداً أسمع الصمت بين العبارات، أنتشل الأنين من بين الركام، ألتقط كل رمشة عين سريعة خاطفة عند المحاولات البائسة لإخفاء شيئاً ما، إن الحياة بهذا القدر من الحساسية والإتصال بكل شيء بكل هذا الإنكشاف الساطع للحقائق أقسى بكثير مما هي عليه..

النجوم الساطعة في السماء الذي يبهرنا جمالها..هي في الحقيقة ومنذ آلالاف السنين تحترق والوصول إليها موت محقق.

لذلك ياصديقي ليس كل ما يلمع بريقاً..ثمة مايلمع توهجاً

والطريق إلى تلك النجوم الساحرة ...مظلم

***

لمى ابوالنجا – أديبة وكاتبة سعودية

 

في المثقف اليوم