شهادات ومذكرات

جواد عبد الكاظم محسن: حسين علي محفوظ كما رأيته

jawad abdulkadomتعرفت إلى العلامة الدكتور حسين علي محفوظ أول ما تعرفت إليه من خلال المجالس الأدبية التي كنت أغشاها وأنا في بداية عهدي بمرحلة الشباب، وقد حدثني كثيرا عن علمه وفضله الأديب مهدي عبد الحسين النجم من دون أن يلتقيه، وكان يصفه بـ (انسكلوبيديا تمشي على الأرض)، ثم رحت أقرأ عنه وله كل الذي يقع بيدي ؛ فأعجبت بشخصيته الموسوعية وأسلوبه الرقيق في الكتابة، وصرت أنقل ما ينقل لي من أخبار عنه، ووجدته بع حين كما تنبأ له الشيخ راضي آل ياسين سنة 1949م (الأستاذ حسين علي محفوظ أحد أولئك الأفذاذ قليلي العدد، وإنه أحد العباقرة الموهوبين الذي ينتظرهم مستقبل زاهر) .

1108-jawad

ولما توثقت صلتي بالسيد سلمان هادي آل طعمة حدثني عن علاقته به، وأرني إجازته له، ورسالة منه، ودار بيننا الكثير من الكلام الطيب حوله .

وفي إحدى لقاءاتي بالدكتور صباح نوري المرزوك أخبرني أنه من طلبة الدكتور حسين علي محفوظ في الدراسة الجامعية، وأنه راسله قبل ذلك، وقال واصفا لحظة اللقاء بينهما عندما دخل الدكتور محفوظ القاعة مرحبا بالطلبة الجدد وراغبا في التعرّف إليهم، فنهض الطالب الأول وقدم نفسه، وتلاه الثاني والثالث حتى بلغ الدور إلى المرزوك، فنهض وقدم نفسه ..

- صباح نوري المرزوك .

فالتفت الدكتور محفوظ نحوه متسائلا :

- الحلي ؟

فأجابه المروزك :

- نعم .. الحلي .

وتجددت وتوثقت العلاقة بينهما في هذه الحقبة، وغالبا ما كان الدكتور محفوظ يردد في مجالسه عند ذكر اسم الدكتور المرزوك أمامه :

- أنه من طلبتي الأوفياء ..

***

وقبيل منتصف شهر آذار سنة 2001م أعلمنا المرحوم الوجيه مهدي عبد الهادي الصالح بأنه دعا جماعة كبيرة من الشخصيات البغدادية لنزهة ووليمة طعام في أحد بساتينه القريبة من مدينة المسيب يوم الأربعاء 21 آذار بمناسبة عيد الربيع، وسيكون من ضمن المدعوين العلامة الدكتور حسين علي محفوظ .

وطرنا من الفرح أنا ومهدي النجم وبشير ناجي علي وآخرون ممن يعرفون فضله ومكانته العلمية، وبقينا على أحر من الجمر ننتظر حلول اليوم ووصول القوم ..

وقبل حلول الموعد بيوم واحد التقينا لمراجعة التحضيرات اللازمة للاستقبال وحسن الضيافة، ودار الحديث عن الشخصيات التي ستحضر، وتركز الحديث حول شخصية العلامة محفوظ، وأعلمنا مهدي النجم بأنه نذر على نفسه أن يقبل يده عند أول لقاء به، وأنه سيفي بنذره غدا !! ولكن بقينا في قلق من حدوث طارئ – لا سمح الله - قد يمنع العلامة محفوظ من الحضور .

في يوم الدعوة بكرنا جميعا في الذهاب إلى بستان الوجيه مهدي عبد الهادي الصالح ويسمى (الطعس)، وبدأ الضيوف بالتقاطر في الوصول، وكنا نرحب بهم ونرشدهم إلى المكان المناسب أو من إجابتهم عمن سبقهم في الحضور، وكانوا بالعشرات، وحلت اللحظة الحاسمة حين قدمت السيارة التي تقل العلامة محفوظ، وهرعنا جميعا باتجاهها يتقدمنا مهدي النجم وخلفه أنا وبشير ناجي والآخرون، وما أن نزل من السيارة حتى انكب مهدي النجم مقبلا يده وتبعناه فيما فعل ..

توزع الضيوف على شكل مجموعات داخل بيوت بنيت من القصب أو داخل السوابيط المتناثرة بين أشجار النخيل والفواكه وأوراد الجوري العطرة وغيرها، وامتلأت السواقي أمامهم بالماء الجاري، وجلنا على الحلقات لنطمئن على توفر جميع احتياجاتها وراحة ضيوفنا، وكانت لنا جلسة في حلقة اهتم أصحابها بالشعر والحديث عنه، وقد غرد فيها غالب العلوش بإحدى الجواهريات العذبة، وهو يحفظ الكثير من شعر الجواهري وكان من أصدقائه ومحبيه ورواته، إذ أنشد قصيدته الشهيرة عن لبنان ومطلعها :

لبنان يا خمري وطيبي    هلا لممت حطام كوبي

ثم انتقلنا بين تلك المجموعات المؤنسة حتى انتهى بنا المطاف في مجموعة العلامة الدكتور حسين على محفوظ حيث طاب بنا المقام عنده والحديث معه، وقد سره جدا جلوسنا حوله وإقبالنا عليه، فصار يسألنا ونحن نجيب، وسأل عن المسيب، فكان من أخبره باهتمامي بجمع تراثها وتدوين تاريخها، فشعر بالارتياح لما سمع وقال :

- كلما التقيت أهالي مدينة من المدن دعوت الشباب منهم إلى ضرورة البحث في تاريخ مدنهم وتدوين تراثها خشية من الضياع في المستقبل .

وأضاف :

- وأتمنى لو جاءني هؤلاء الشباب الباحثون لوجهتهم الوجهة الصحيحة في كيفية هذا الجمع والتدوين .

وحدثنا عن اهتمام الأجانب بذلك وضرب مثلا ببناية قديمة في مدينة ألمانية جعلت متحفا للسواح، ولشدة اهتمامهم بهذه البناية كان القائمون بالمحافظة عليها يجمعون التراب الذي ينهال منها ويضعونه داخل شذرات زجاجية في الخواتم وتعرض للبيع !! ونقل لنا بأسى شديد عن حجرة قديمة في المرقد الكاظمي المطهر تؤرخ جانب من عمارته ألقيت ضمن الأنقاض وذهبت ضياعا عند تجديد جانب من عمارته يومذاك، وقال لو أخبروني قبل رميها وضياعها في تلول الأنقاض خارج بغداد لذهبت بنفسي مفتشا عنها وحملها على صدري وإنقاذها والاحتفاظ بها كأثر ثمين .

وتنوع الحديث مع العلامة محفوظ حتى وصل عنه، فأبدينا إعجابنا بمؤلفاته النفيسة وبحوثه القيمة، وأعلمته بجمعي وحفظي لسلسلة كتابات قصيرة كان قد دأب في منتصف التسعينيات على نشرها أسبوعيا في جريدة الجمهورية بعنوان (ثمرات)، فطفح السرور على وجهه، وقال :

- لقد فقدتُ مسوداتها، كما لا احتفظ بأعداد الجريدة التي نشرتها .

قلت له :

- إنها مجموعة لدي كاملة، وأطلب إذنكم في إعدادها ونشرها في كتاب خاص بها حين تسنح الظروف مستقبلا .

قال :

- لك ذلك وهو من دواعي غبطتي ..

وكانت لنا صورة تذكارية جميلة مع العلامة محفوظ حين دخلنا بيت القصب بعد وصول أشعة الشمس إلينا، وقبل أن يغادرنا طلب منه آخرون التقاط صورة جماعية معه، فأجابهم لذلك، ومازلت احتفظ بتلك المجموعة من الصور التذكارية الجميلة ..

***

بعد الغزو الأمريكي وسقوط النظام سنة 2003م اتصل بي الصديق عبد الرضا عوض وأخبرني بنيته في زيارة العلامة محفوظ في داره بمدينة الكاظمية، وسيكون معه الدكتور صباح المرزوك، ويرغب أن أكون معهم، فوافقت على ذلك، بل فرحت به جدا، فذهبنا صباحا، واستقبلنا خير استقبال مرحبا بنا، وجلسنا في ظل ظليل في حديقته الواسعة، وما هي إلا لحظات حتى جاءنا من خارج الدار شاب يحمل كؤوس الماء وأقداح الشاي، وكنت قد علمت بأن العلامة محفوظ يعيش لوحده في الدار بعد وفاة زوجته، واستقرار ابنه في الخارج بعد إكمال دراسته، وأن الجيران وهم من فضلاء أهالي مدينة الكاظمية المقدسة ينهضون بكل احتياجاته الخاصة وضيافة من يزوره وجلهم بل كلهم من العلماء والأدباء والمثقفين .

وبقينا لأكثر من ساعة في هذه الزيارة، وكانت أحاديثنا متنوعة، وسمعته يسأل عن كل من يعرف من أهل الحلة وخارجها، وقال قلقت كثيرا عليكم، وحمد الله على سلامتنا وسلامة غيرنا ممن يعرف من الأدباء والباحثين وعامة الناس، وكان لقائي هذا به هو آخر اللقاءات إذ توفي رحمه الله وطيب ثراه يوم الاثنين 19 كانون الثاني 2009م، وقد ترك وراءه مكتبة عامرة بمحتوياتها القيمة والنادرة، وله فيها ألف وخمسمئة أثر بين كتاب ورسالة وبحث ودراسة .

 

في المثقف اليوم