شهادات ومذكرات

زهير ياسين شليبه: هكذا عرفتُ الأستاذ الدكتور اسماعيل مكارم!

‏الدكتور إسماعيل مكارم غني عن التعريف، كاتب معروف منتج ساهم مساهمةً كبيرةً في إثراء الثقافة العربية. وبالذات في مجال ترجمة النتاجات الروسية لبوشكين ويسينين وآخرين كُثُر من أصلها إلى لغة الضاد.

عرفتُ الكاتب إسماعيل مكارم طالباً جامعياً جدياً رزيناً بكل معنى الكلمة، دقيقاً بكل دراساته، وسلوكه أيام دراسته في السبعينات في جامعة فارونِش (فارونِج - بالجيم الشامية) الروسية.

في ذلك الوقت كنا نتعلم في جامعة فارونِج، ولم نفكر آنذاك بالنشر ولم  نستسهله كما يفعل الشباب اليوم. كنا نتعلّم وكان شعارنا: أدرس، أدرس، ثم ادرس! المعلّق على بنايات منازل الطلبة.

والآن إطلعتُ على كتاباته صدفةً بفضل صحيفتنا "المثقف" التي أكنّ لها كل الإحترام، بعد فترة فراق طويلة، وجدتُه كما عهدته دقيقاً متأنياً في كل تراجمه.

الدكتور إسماعيل مكارم أستاذ رصين قرأت له القصيدة البغدادية، أعجبتني أولاً كونها عن مدينتي الحبيبة بغددا، ثانياً أني أعرف محبة صاحبها لدار السلام وأهلها وكل العراقيين.

أثّرتْ هذه القصيدة  على مشاعري وإحساسي وأنا أقيم بعيداً عن مدينتي بغداد، وهذا ما توقعته منه لأني اعرفه خير المعرفة  وخبرته، كان يحب العراق والعراقيين ويحب بغداد.

ما أجمل قوله عنها:

بغداد تفتح بيتها مرحبة،

تكاد تنزل من سمائها القبل،

هنا المحبة والإكرام عادتهم

أهل المروءة ما غابوا ولا رحلوا،

معنى ذلك انه يكتب هذه الكلمات بناء على تجربة شخصية عايشها مع العراقيين خبرهم وعرفهم.

وكتب طبعاً "أشعار دمشقية" عن دمشق التي عشقتها أنا وأشتاق لها دوماً

أشعار دمشقية

ورفرفت من ذرى الجولان قبّرة ٌ

تبكي على حالِها والدّمع ينهمر ُ

إني أخاف، هنا الفندالُ والتتر ُ

شِدّي الحزامَ ليبقى السّيفُ والحَجرُ

كذلك اعجبتني قصيدته عن الجولان، وأخرى عن فلسطين، إنها تجسد مواقفه الحقيقية التي عرفتها عنه أيضا في شبابة، فقد التقيته عندما كنا طالبا كما ذكرت وتركته ومنذ ذلك الحين لم التقِ به، وسبحان الله كنت أعتبره مثالي الأعلى فقد كان في السنة الثالثة أو الرابعة من الجامعة بينما أنا في الأولى، وعندما اطلعت على كتاباته رأيتها تتميز بالالتزام القومي وجدية إختيار موضوعات نصوصه وسمّو اللغة والاهتمام بها، وهناك مشتركات بيننا في إختيار الموضوعات كما سنرى.

ويقول عن فلسطين:

لبسوا قناعَ الحَضارةِ،

بَكوا على أمسِهمْ،

قالوا: كنا مُشردين.

أقاموا المَذابحَ،

والحَرائقَ،

وشرّدوا النساءَ،

والأطفالَ،

والشيوخَ،

وسرعانَ ما اتقنوا مهنة َ الجَلادينْ!

نادوا:

لنا هنا أرض ٌ ليسَ فيها شعبْ،

وجَعلوا من شعبنا

إسماعيلَ القرن العشرينْ.

**

وأكثر ما أعجبني طبعاً قصائده المترجمة من الروسية، فكما قلت إنه ترجمَ بوشكين، بالذات قصيدة أبانا الذي في السماوات حيث يحاكي فيها الشاعر بوشكين نصاً من الصلاة الربانية:

ابانا الذي في السماوات،

سمعت في الخلوة البسيطة،

كيف ردد رجل مسن صلاته الجميلة،

كان يرددها بخشوع وأنا استمع،

ابانا أيها الأب الذي في السماوات،

وأتي أن اسمك المقدس الابدي،

يشع في قلوبنا،

سيأتي ملكوتك،

وستكون مشيئتك معنا كما في السماء وأتي كذلك على الأرض

إنها ترجمة رائعة وكذلك قصائد يسينين مثل: رسالة إلى أمي، و المتسولة الصغيرة، أصلا هو من نفس مدينتنا فارونيتش (فارونيج- بالجيم الشامي) التي سكنا فيها وتعلمنا اللغة الروسية، وكنا ككل الشباب آنذاك نحب يسينين، ولا أزال أتذكر كم كان الفتيات والشباب مولعين بأشعاره وتذكرنا بشاعرنا العربي الراحل نزار قباني.

أغلب تراجم الدكتور إسماعيل اختيارات موفقة ورائعة، وكان محباً للتعمق فيها، وأتذكر جيدا أننا كنا في مناسبة سألناه عن أمنياته فأجاب وهو ذاك الشاب الرزين المتفائل المتحمس: أريد أن أؤلّف قاموسَ اللغة الروسية العربية.

وترجم  قصيدة نشيد الرّجال الرّوس للشاعر الروسي المعاصر دميتري دارين، التي تقدم صورة عن واقع الشعر الروسي المعاصر اليوم. ونوردُ هنا مقطعاً منها: 

نشيد الرّجال الرّوس

من كان شاباً شجاعاً

قويا وشريفا،

من يحترمُ أبطال العصور الغابرة،

من تضيق به جدران المنزل،

من هو قادر على مواجهة الصِّعاب،

ولابد لي من  تسجيل إنطباعي وما جلب إنتباهي ايضاً: ترجمته قصيدة "الليلك" للشاعر الروسي المعاصر  نيكولاي مولوتشنيكوف، التي تذكرني بقصيدة بنفس العنوان تقريباً  "الليلك الشتوي"، لشاعرة دنمركية: ليسي سورينسين 1926-2004 لكنها تتسم ببعض الغموض عكس القصيدة الروسية الرومانسية الواضحة.

شجَيرة ُالليلك

لم تتفتحْ بعد أزهارُ الليلك

وأعيادُ أيار سَتأتي قريباً.

كلّ الأشياء تبَشرُ بقدوم الصّيفْ .

أنا لا أشكو هذا الرّبيعَ الطويلْ .

*

آه يا شُجَيرَة الليلك الجَميلة،

لا تأسريني بهذا العَبيرْ.

فهذا الأريجُ يُعْجبُني،

ويُثيرُ الآخرينَ قليلا.. قليلا.

ولنقرأ قصيدة ليسي سورينسين "الليلك الشتوي".

الليلكُ الشتوي

في داخل صقيع الضباب ينمو

عنقود الليلك الطفولي.

تَقَبّلُ الضياع، التخلي

الإستسلامُ لذلك

الذي هو.

ان تكونَ أجمةَ ليلكٍ بدونِ زهرةٍ أو ورقةٍ،

باقةُ أغصانٍ وباقةُ جُذورٍ.

متغيرةٌ تماماً، مثيرةٌ للعجب

بنفسها.

١٩٦٢

وأعجبتني جدا قصيدته النثرية المكرسة لشخصية الغريب، وسبحان الله فقد تناولت أنا أيضا نفس الموضوعة تقريبا بنفس الطريقة: كتبت قصة "المهاجر" و"الاستاذ الغريب" و قصصاً عن شخصية مغتربٍ، وأقول: إنا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب .

لنقرأ مقطعاً من قصيدته "حكاية غريب"

هل للغريبِ هنا قضِيّه؟

هل للغريبِ هنا حقّ السّؤالْ؟

هل للمُهاجِر ِهنا ذاك الإسمُ

أوالعائِلة ُ الكريمة ْ؟

ليس للغريبِ هنا سوى رقم ٍ

وبعض أحْرُفٍ كتبتْ  بدَفترْ .

هل لي ولكَ هنا جُغرافيا أو تاريخْ؟

ليس لي ولكَ هنا

أخيراً وليس آخِراً، أقول، صحيح أني إفترقتُ مع الكاتب الدكتور إسماعيل منذ أكثر قليلاً من أربعة عقود، إلا أننا إلتقينا كما يبدو في مجال الأدب من حيث لا ندري، حيث جمعتني وإياه قصائده ومقالاته.

***

د. زهير ياسين شليبه

في المثقف اليوم