شهادات ومذكرات

الإمام عبد الحميد بن باديس وريادة النهضة العربية (2)

علي القاسمي4. النهضة الجزائرية:

4.1. متطلبات المرحلة:

إن مثل هذه الإجراءات الشريرة المبنية على دراسات علمية استغرقت زمناً طويلا واضطلع بها كبار المؤرخين والمستشرقين وعلماء النفس، وخطط لها عتاة السياسيين والمبشرين، ونفذها قساة القادة العسكريين والمحنكين من الإداريين، لا يمكن مجابهتها وإلغاؤها باستخدام القوة، أو بظهور بطل جرئ مغوار يبهر الأنظار، بل تحتاج إلى حركة فكرية اجتماعية شاملة ذات أسس قويمة، تتغلغل في جميع شرائح المجتمع الجزائري، وتعمل بصبر وأناة على تغيير حياة الشعب الاجتماعية والنفسية والعقلية، وتطوير مسلَّماته، ورسْم أهدافه، بحيث يصبح الشعب يداً واحدة وعلى استعداد تام لتقديم التضحيات من أجل بلوغ الغايات، ويردد كل فرد فيه بحماسة وإخلاص الشعار الذي صاغه ابن باديس بحكمة وبلاغة: " ديننا الإسلام، ولغتنا العربية، ووطنا الجزائر"، وكل كلمة فيه ضربة معول قاصمة لأسس السياسة الاستعمارية.

ولكن مثل هذه اليقظة الجبارة والحركة التنويرية بحاجة إلى قيادة مخلصة متفانية، منزهة عن الأطماع، مسلَّحة بالمعرفة، ومدربة على استخدام الوسائل اللازمة. وقد تجسدت هذه القيادة المثالية بالإمام عبد الحميد بن باديس وجمعية علماء المسلمين.

4.2. النهضة في الجزائر قبل الإمام عبد الحميد بن باديس:

عرفت الجزائر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين النهضة العربية كما في المشرق. فقد ظهر فيها من العلماء الأفذاذ مَن حارب الجهل والبدع والخرافات، مثل الشيخ عبد القادر المجاوي (1266ـ1332ه/ 1848 ـ 1913م) الذي ألف العديد من الكتب المدرسية والتربوية مثل " إرشاد المتعلمين" ، وطالب بتعليم المرأة، وشرح منظومة في محاربة البدع والفساد الاجتماعي. ويقول عنه الدكتور عمار طالبي:

" ومن غريب المصادفات أنه في السنة نفسها التي توفي فيها عبد القادر المجاوي [بمدينة قسنطينة]، ابتدأ عبد الحميد بن باديس حركته التعليمية بمدينة قسنطينة، فاتصلت حلقات الإصلاح متطورة إلى مرحلة القوة والنضج" (15)

وقد أخذ عن الشيخ المجاوي عددٌ من علماء الجزائر المصلحين منهم الشيخ أحمد الحبيباتي، والشيخ حمدان الونيسي أستاذ عبد الحميد بن باديس.

ومن رجال النهضة والإصلاح في الجزائر الشيخ أبو القاسم الحفناوي (1269 ـ 1361ه / 1852 ـ 1942م)، صاحب كتاب " تعريف الخلف برجال السلف". ومنهم الشيخ محمد بن مصطفى الخوجة (1282 ـ 1334ه / 1865 ـ 1915م)، وهو شاعر وعالم دين حقق بعض كتب التراث مثل كتاب " الجواهر الحسان في تفسير القرآن" للشيخ عبد الرحمن الثعالبي. ومنهم الشيخ عبد الحليم بن سماية (1284 ـ 1352ه / 1866 ـ 1933م). الذي كان شاعراً وأديباً له أثر في النهضة الأدبية في الجزائر. وقد لازم الشيخان الخوجة وسماية الإمام محمد عبده عندما زار الجزائر العاصمة وقسنطينة سنة 1903م وعقد اجتماعات مع بعض المثقفين والأدباء الذين أيدوا أفكاره النهضوية الإصلاحية. كما صدرت بعض الصحف الوطنية العربية خلال تلك الفترة. (16)

نستخلص من ذلك أن الجزائر هي الأخرى عرفت تباشير نهضة عربية إصلاحية تستخدم التأليف وتحقيق التراث والصحافة لبث الفكر الإصلاحي والوعي الوطني، ولو على نطاق أضيق مما عرفته الشام ومصر، لاختلاف الظروف.

4.3. الإمام عبد الحميد بن باديس:

ولد الإمام عبد الحميد بن باديس في مدينة قسنطينة في الشرق الجزائري سنة 1308ه/1889م لأسرة مشهورة بالعلم والقضاء والزعامة، تنتمي لقبائل صنهاجة الأمازيغية. ولهذا يرد اسم الإمام أحيانا بصيغة " عبد الحميد بن باديس الصنهاجي" (17).

حفظ ابن باديس القرآن الكريم في سن الثالثة عشرة، فخيره أبوه بين مواصلة التعليم أو التجارة، فاختار طريق العلم، وواصل تعليمه في الجامع الكبير في قسنطينة وكان من شيوخه المصلح حمدان الونيسي (ت 1920م) الذي اضطر إلى الهجرة إلى المدينة المنورة، والذي أوصاه بعدم الاقتراب من الوظيفة. وفي سنة 1908م، سافر إلى تونس للدراسة في جامع الزيتونة، وكان من شيوخه هناك محمد النخلي القيرواني (ت 1924م)، ومحمد الطاهر بن عاشور (ت 1973م) صاحب التفسير المشهور " التحرير والتنوير"، وهما من أنصار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأفكارهما التحريرية والتنويرية.

بعد أربع سنوات نال شهادة العالمية وأمضى سنة في التدريس في الزيتونة. ثم عاد إلى قسنطينة، وشرع في التدريس في الجامع الكبير. ولكن السلطات الاستعمارية أوعزت إلى المتعاونين معها بمنعه من مواصلة التدريس، فقرر سنة 1913 السفر إلى الحجاز للحج إلى بيت الله، وللقاء شيخه الونيسي في المدينة. وأمضى ابن باديس ثلاثة أشهر هناك حيث كان يلتقي بانتظام بالشيخ محمد البشير الإبراهيمي (1306 ـ 1385ه/ 1889 ـ 1965م) الذي كان يتابع دراسته العلمية في المدينة المنورة. وبعد ذلك عاد ابن باديس في نفس السنة 19َ13م إلى الجزائر ماراً بدمشق وبيروت ومصر والتقى بعلمائها من رجال الإصلاح والحركة التنويرية، مثل الشيخ بخيت (ت 1935م) مفتي الديار المصرية ونصير الشيخ محمد عبده في حركته الإصلاحية.

5. اليقظة الفكرية في الجزائر:

5.1. التخطيط لليقظة الفكرية:

لم تكن النهضة التي قادها عبد الحميد بن باديس عمل عاطفي ناتج عن انفعال شخصي، بل كانت مبنية على أيام وليالٍ طويلة من التأمُّل والتفكير والنظر في الأهداف والتخطيط المحكم للطرائق والوسائل. يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي عن لقائه مع الشيخ عبد الحميد بن باديس في المدينة المنورة سنة 1913م:

" كان من تدابير الأقدار الإلهية ومن مخبآت الغيوب أن يرد عليّ بعد استقراري في المدينة المنورة سنة وبضعة أشهر، أخي ورفيقي في الجهاد بعد ذلك، الشيخ عبد الحميد بن باديس، أعلم علماء الشمال الأفريقي، ولا أغالي، وباني النهضات العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية للجزائر،

كنا نؤدي فريضة العشاء الأخيرة في كل ليلة في المسجد النبوي ونخرج إلى منزلي، فنسمر مع الشيخ ابن باديس، منفردين إلى آخر الليل، حين يفتح المسجد فندخل مع أول داخل، لصلاة الصبح، ثم نفترق إلى الليلة الثانية، إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها بالمدينة المنورة.

كانت هذه الأسمار المتواصلة كلها تدابير للوسائل التي تنهض بها الجزائر، ووضع اللبنات للبرامج المفصلة لتك النهضات الشاملة، التي كانت كلها صوراً ذهنية تتراءى في مخيلتنا، وصحبها من حسن النية، وتفيق الله ما حققها في الخارج بعد بضع عشرة سنة، وأشهد الله على أن تلك الليالي من سنة 1913 ميلادية، هي التي وُضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي لم تبرز إلى الوجود إلا في سنة 1931م." (18) (الخطوط تحت السطور من إضافتي).

5.2. شخصية الإمام ابن باديس:

إن هذا النص في غاية الأهمية بالنسبة لي لإثبات ما أذهب إليه بشأن النهضة الجزائرية وريادتها. فهو بالإضافة إلى دلالته على فصاحة الشيخ الإبراهيمي، وبلاغته، وصفاء روحه، وتواضعه، وصدقه، وإشارته إلى ما حصل بين الرجلين الفذين من توافق عقلي وتواؤم روحي، يدل كذلك على ما يلي:

أ‌) إن ابن باديس عالم جليل لا يُضاهى في علمه ولا يُدانى. فعلى الرغم من أن الشيخين، ابن باديس والإبراهيمي، كانا في سن واحدة، ويتابعان الدراسة الإسلامية ذاتها، وينتميان إلى أسرتين عريقتين في العلم والجاه، فقد كان الشيخ الإبراهيمي يدرس في المدينة المنورة على علماء أجلاء منهم والده الذي غادر الجزائر مضطراً وهاجر إلى المدينة المنورة للتدريس فيها؛ على الرغم من كل ذلك، يقول الإبراهيمي، وهو من هو في علمه وفضله: إن "ابن باديس أعلم علماء الشمال الأفريقي، ولا أغالي".

ب‌) إن نص الشيخ الإبراهيمي ينضح بالمحبة والإخلاص والوفاء للشيخ ابن باديس ما يدل على أن ابن باديس زعيم مطبوع، ذو شخصية قوية جذابة محببة. يؤثر في سامعيه وقارئيه بسهولة وعمق، ويستثير إعجابهم ومحبتهم وإخلاصهم. وفي هذا يقول صديقنا الدكتور عمار الطالبي في كتابه القيم ذي المجلدات الستة الذي خصصه لحياة الإمام ابن باديس وأعماله:

" إنه شخصية عجيبة، مجدد للنفوس البالية، وباعث للضمائر الخامدة، والقلوب الهامدة، باث للعلم، محرك للعقول، مرجع الثقة للناس، زارع بذور الثورة، مشيع فكرة الحرّية، مبيِّن المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها..." (19)

ت‌) إن مقارعة الاّستعمار الفرنسي لم تكن ممكنة بهبّة سياسية فقط وإنما تحتاج إلى نهضة على جميع المستويات " العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية "، وأساسها جميعاً التعليم، أو كما ورد في عنوان أحد مقالات الشيخ ابن باديس : " صلاح التعليم أساس الإصلاح."

ث‌) إن النهضة الجزائرية جاءت بعد تأمل وتفكير وتخطيط من حيث الأهداف والوسائل. وأحسب أن هذا التأمُّل والتفكير والتخطيط للنهضة الجزائرية لم يستغرق الشهور الثلاثة التي أمضاها الشيخان معاً في المدينة المنورة، بل طوال حياتهما، فهي نهضة تقوم على منج ونظام، وتهدف إلى تحقيق أهداف معلومة وغايات مرسومة.

ج‌) إن الأهداف السياسية لم تكن غائبة عن فكر ابن باديس وجمعية العلماء المسلمين، كما هو واضح من نص الشيخ الإبراهيمي. ففي مقال للشيخ ابن باديس نشره في جريدته البصائر سنة 1937، يقول: " لا بد لنا من الجمع بين السياسة والعِلم، ولا ينهض العلم والدين حق النهوض إلا إذا نهضت السياسة بحق." (20)

ولكن الإمام لم يكن يجاهر بأهدافه السياسية مباشرة وبوضوح، تحاشياً للإجراءات الزجرية التي تتخذها السلطات الفرنسية الاستعمارية، فتغلق المدارس العربية والصحف العربية، وتمنع تدريس اللغة العربية، وتلاحق أعضاء الجمعية. ومع كل حذره ورمزيته في التعبير عن أهدافه السياسية، كانت السلطات تمعن وتبالغ في إجراءاتها القمعية وعقوباتها اللاإنسانية.

إذا لم يكن الإمام ابن باديس يمارس السياسية في مستواها المعتاد، فإنه كان يمارسها في مستواها الأسمى والأصعب. فقد كان يمارس سياسة السياسة. يقول الخبير في تاريخ الجزائر، الأستاذ ناصر الدين سعيدوني، في كتابه " الجزائر":

" وإذا كان الجناح الاستقلالي قد رفع راية الاستقلال، فإن جمعية العلماء وضعت الأسس التي يقوم عليها الاستقلال، وهو إحياء الشعب الجزائري في إطاره العربي الإسلامي. إنه من السهل إقامة دول، ولكن من الصعب إحياء أمم، وهذا الصعب هو ما قامت به جمعية العلماء." (21)

6. الإمام ابن باديس والعروية:

.6.1. أقواله وأشعاره في العروبة والعربية:

عندما كنتُ أشتغل على تأليف كتابي " معجم الاستشهادات" الذي استغرق جمعه سنوات التسعينيات العشر كلها، وهو معجم يشتمل على الأقوال والأمثال والحكم والقواعد القانونية المقتبسة من الشعر والنثر قديماً وحديثاً، والمرتَّبة ترتيباً موضوعياً (22)، لفت نظري تعلّق (عبد الحميد بن باديس الصنهاجي) بالعروبة واللغة العربية، ولم أكن آنذاك قد تشرّفت بدراسة نهضة الإمام ابن باديس وجمعية العلماء المسلمين، بل تعرفت إلى اسمه الكريم من أقواله التي يُستشهَد بها والتي جمعها مساعديّ من الكتب والدوريات العربية. فكنتُ أتساءل في نفسي ـ بسبب جهلي ـ : ما لهذا الشيخ الصنهاجي والإصرار على العروبة والعربية؟

ومن أقواله وأشعاره التي يُستشهَد بها:

أـ شـعـب الجـزائر مسلمٌ     وإلى العـروبة ينتَسـبْ

مَن قال: "حـادَ عن اصلهِ"       أو قال: " ماتَ "، فقد كذبْ

أو رامَ إدمـاجـاً لـهُ       رامَ المُحـالَ من الطلـبْ

ب ـ أشعبَ الجزائرِ روحي الفدا         لما فيك من عزةٍ عربيـهً

بنيتَ على الدينِ أركانـها         فكانت سلاماً على البشـريهْ

د ـ الحمـدُ للهِ ثمَّ المجـدُ للعربِ         مَن أنجبوا لبني الإنسانِ خيرَ نبي

ونشروا ملَّةً في الناس عادلةً         لا ظُلمَ فيها على ديـنٍ ولا نَسَـبِ

ه ـ نحنُ الأولى عـرفَ الزمـا           نُ قديمَنا الجمَّ الحسـبْ

ومعينُ ذاكَ المجدِ فـي           نسلِ العروبة ما نضَـبْ

و ـ ورجعنا إلى الوطن بقصد خدمته، فنحنُ لا نهاجر، ونحن حرّاس الإسلام والعربية والقومية في هذا الوطن.

و ـ إلخ.

6.2. أسباب تأكيد الإمام على العروبة والعربية:

عندما وفقني الله لدراسة فكر الإمام ابن باديس، وزادت تجربتي في التعليم والتنمية البشرية، وقفتُ على بعض الأسباب الحقيقية لأقوال الإمام في العروبة والعربية، ومنها:

أ‌) إن اللغة العربية، كما يفهمها الإمام ابن باديس ، وهو مصيب كعادته، ليست لغة جنسٍ بشريٍّ محدَّد، ولا لغة عرقٍ إنسانيٍّ معيَّن، بل هي لغة ثقافة، هي الثقافة الإسلامية. فقبل الإسلام كان للعرب الذين يسكنون في شبه جزيرة العرب أو الذين نزحوا منها إلى الشرق الأوسط وإفريقيا، لغات ولهجات متعددة كالحميرية والنبطية والعربية والأكادية والآرامية والكنعانية والقبطية والأمازيغية وغيرها ، ولكن عندما نزل القرآن الكريم باللغة العربية، أصبحت هذه اللغة لغة الثقافة العربية الإسلامية، ولم تعد لغة عرق بشري مخصوص، بل لغة جميع المنتمين إلى الإسلام وثقافته. فهي اليوم لغة مليار ونصف المليار من المسلمين من جميع الأجناس والأعراق، يؤدّون صلاتهم وشعائر دينهم بها، ويفهمون حقائق عقيدتهم من خلالها(23). ويشرح الإمام ابن باديس ذلك بأسلوب جزل سهل واضح مقنع في خطاب مفتوح وجهه إلى معلمي الفرنسية الأحرار بالعمالات الجزائرية الثلاث، في جريدته " البصائر" في عددها 110 سنة 1933 م، يقول فيه:

" وأنتم تعلمون كذلك أن الأمة الجزائرية أمة إسلامية الدين عربية اللسان، يستحيل عليها أن تتخلى عن ذلك الدين ويستحيل أن تفهم حقائق ذلك الدين إلا باللسان العربي، وأن الإسلام والعربية هما أول ما تعهدت فرنسا بحفظه وعدم مساسه من مقومات هذه الأمة ومقدساتها، من أول عهد احتلالها لهذا القطر، فما بالها منذ سنوات بدأت تتنكر للإسلام ولغته، وتضيّق في تعليمهما الخناق؟"(24)

وهكذا يُصبح الإسلام والعربية أساس وحدة الشعب الجزائري، ومن مقومات هُويته الوطنية التي تميّزه عن فرنسا الاستعمارية.

ب‌) كانت السياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر تقوم على ثلاثة أسس: تنصير الجزائريين، وفرض الفرنسية لغة وحيدة في الجزائر، وإدماج الجزائريين باعتبار أن الجزائر أرض فرنسية. فكان ردّ الإمام على قدر التحدي، ردٌّ ينسف الأسس الاستعمارية، وقد صاغه ببلاغة وعمق، كما أسلفنا، في شعار: " الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا."

ت‌) طبقاً لسياسة " فرق تسُد " التي مارسها المستعمرون الفرنسيون، فصلوا العرب عن إخوانهم الأمازيغ، وزعموا أن الأمازيغ من أصول أوربية، في حين أن الحقائق العلمية والتاريخية واللغوية تثبت بجلاء أن الآشوريين والكلدانيين في العراق، والآراميين في الشام، والأمازيغ في شمال إفريقيا، هم في الأصل من الجزيرة العربية، وأن كتابة اللغة الأمازيغية المعروفة باسم " تفيناغ" ما هي إلا " تفينيق" فهي مشتقة من الكتابة الفينيقية الكنعانية العروبية، أسوة بجميع كتابات لغات العالم، كالعربية والإغريقية. فما أسماء حروف الألفباء الإغريقية: (ألفا ، بيتا، جاما، دلتا، إلخ.) إلا أسماء حروف الأبجدية الفينيقية: (الأليف، والباء، والجيم، والدال، إلخ.) التي كانت تدل على (الأليف، والبيت، والجمل ، والدلو، إلخ.). ولهذا كان رد الإمام مصيباً علمياً وسياسياً:

شعب الجزائر مسلم   وإلى العروبة ينتسب

ث‌) عندما كلفني (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي) بمراجعة الترجمة العربية لـ (تقارير التنمية البشرية) التي يصدرها سنويا ، وهي تقارير تُكتب بالإنكليزية بمقره في نيويورك وتُترجم إلى اللغات الرسمية الأخرى في الأمم المتحدة: الإسبانية، والروسية، والصينية، والعربية، والفرنسية، تعلّمتُ منها أن التنمية البشرية تعني اضطلاع الدولة، من حيث الأساس بثلاثة مجالات, وتحقيق تقدم فيها، وهي:

ـ الصحة، وتقاس بمعدّل متوسط العمر للمواطنين عند الولادة،

ـ التعليم، ويقاس بمعدل التمدرس، ونسبة الأمية،

ـ الدخل الفردي، ويقاس بكفايته الفعلية ليعيش المواطن بصورة تليق بالكرامة الإنسانية.

ولكي تحقق الدولةُ التنميةَ البشرية في البلاد، ينبغي أن تعمل على احترام حقوق المواطنين، وتطوير البنيات التحية، وتوفير الخدمات الصحية الجيدة، وتعمل على إيجاد مجتمع المعرفة القادر على الوصول إلى المعلومات بسهولة ويسر، واستيعابها، وتمثلها، والإبداع فيها، وتبادلها. وهذا يتطلب من الدولة توفير التعليم الجيد بلغة وطنية مشتركة في جميع أنحاء البلاد، وعلى نفقتها. وقد اتبعت هذه الوصفة دول كانت في الستينيات أفقر من البلاد العربية، مثل كوريا وفنلندة وماليزيا، فأصبحت اليوم من الدول المتقدمة. واللغة الوطنية المشتركة هي عماد عملية التنمية البشرية. وكان الإمام زعيماً بعيد النظر لم يكن يعمل للفترة الراهنة بل كذلك لجزائر المستقبل المستقلة، التي يبغي أن تكون لها لغة مشتركة موحِّدة واحدة، مثل فرنسا.

ج‌) ليس التأكيد على اللغة العربية وقفاً على النهضة الجزائرية، بل كانت أساساً من أسس النهضة العربية الشاملة في جميع الأقطار العربية. ولم تكن النهضة الجزائرية في معزل عن النهضة العربية الشاملة، وقد مر بنا كيف تأثر الإمام ابن باديس بالإصلاحيين الإسلاميين مثل جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا من خلال شيوخه ومجلة المنار. ولا يغيب عن بالنا أن الشيخ الإبراهيمي أمضى ست سنوات في الحجاز (من 1911 ـ 1917م) عندما كان شريف مكة الحسين بن علي يدعو إلى استقلال الدول العربية ووحدتها (25)، وأن الشيخ الطيب العقبي (1889 ـ 1965م) وهو من مؤسسي جمعية العلماء المسلمين، والذي كان قد نشأ في الحجاز لأن عائلته هاجرت إليها، كان يكتب في الصحف المشرقية بوصفه من رواد النهضة العربية في الحجاز، ما جعل العثمانيين ينفونه إلى (الروم ايلي) و (الأناضول) في تركيا، ولم يعد إلى الحجاز إلا بعد الحرب العالمية الأولى بعد أن أمضى سنتين في المنفى ، فاستقبله الحسين بن علي الذي أصبح ملكاً على الحجاز وعيّنه محرراً لجريدة (القبلة). ولم يعد العقبي إلى الجزائر إلا في سنة 1920(26) .

وقد أمضى البشير الإبراهيمي أربع سنوات في سوريا (1917 ـ 1921)، عندما كان فيصل بن الحسين بن علي ملكاً على سوريا، وعمل الإبراهيمي في دمشق أستاذاً في المدرسة السلطانية، وهي مدرسة عليا، وشارك في تأسيس المجمع العلمي العربي الذي تولى تعريب الإدارة السورية. وكان على صلة برواد النهضة العربية في الشام الذين كانوا يدعون إلى استقلال البلدان العربية ووحدتها، ولا شك أنه تأثر بهم. بيد أن الناقد الجزائري الدكتور عبد الملك مرتاض يقول:

" ونحن وإن كنا نقر بهذا التأثر إقراراً، إلا أننا نميل إلى أن الإبراهيمي قد يكون تأثيره هناك أكثر من تأثره. والآية على ذلك أنه انتصب للتدريس بالمدينة [دمشق] وسنه يومئذ لا تجاوز الخامسة والعشرين." (27)

ورأي الدكتور مرتاض هذا يدعم رأينا في أن النهضة العربية وروادها لم تكن مقتصرة على الشام ومصر. فحتى في الحجاز والشام نجد مساهمة جزائرية في النهضة العربية من لدن علماء جزائريين كالعقبي والإبراهيمي، وقبلهما الأمير عبد القادر الجزائري (1808 ـ 1883) الذي مارس التدريس في عدة مدارس بدمشق منها الجامع الأموي نفسه منذ استقراره بدمشق سنة 1856 حتى وفاته؛ وكان إصلاحياً يدعو إلى الإسلام الحق ليس بأقواله فحسب بل كذلك بأفعاله، كقيامه بحماية المسيحيين وإيوائهم في منزله أثناء الفتنة بين الدروز والمسيحيين سنة 1860، ثم الإصلاح فيما بينهما. (28).

هذا التفاعل الجزائري مع الحركة العربية في المشرق، وهذه المشاعر العروبية لدى الجزائريين يتجليان في برقية الإمام ابن باديس إلى علوبة باشا رئيس المؤتمر البرلماني العربي لدراسة وضع فلسطين عام 1938، إذ تقول البرقية: " نحن معكم. جمعية العلماء. ابن باديس."، وتتجلى لدى الشيخين الإبراهيمي والعقبي عند نكبة فلسطين سنة 1948م إذ أسسا باسم جمعية العلماء (لجنة إغاثة فلسطين) فأسرعت جميع الهيئات والأحزاب الجزائرية إلى المشاركة فيها.

ولهذا كله، كان الإمام ابن باديس يشدد على أهمية االعربية بوصفها لغة الأمة العربية الإسلامية التي كان جميع رواد اليقظة الفكرية يأمل في نهضتها ووحدتها.

ح‌) إضافة إلى جميع تلك الأسباب التي ذكرناها، فثمة سبب ذاتي يفسِّر لنا تعلُّق الإمام ابن باديس باللغة العربية. ويكمن هذا السبب في كون الإمام شاعراً مُجيداً وكاتباً فذاً وخطيباً مفوهاً لا يتردد ولا يتلعثم. وعلاقة الشاعر والكاتب والخطيب باللغة ليست كعلاقة الأمّي بها. وكلما ارتفعت منزلة الكاتب في الإبداع، ازدادت علاقته باللغة حميميةً، واشتد تعلُّقه بها حتى يصبح نوعاً من العشق والهيام. فهذه العلاقة بين المبدع واللغة أشبه ما تكون بعلاقة الموسيقي الفنان بآلته الوترية، التي تزداد وثاقة بمرور الأيام ورقي الإبداع، حتى يحسّ الموسيقي بأن آلته امتدادٌ لأصابعه وذراعيه وجسده كله، وأن نبض أوتارها من نبض قلبه وعروقه.

وكان الإمام ابن باديس يمارس فعل القراءة والكتابة في ليله ونهاره، وقد توثقت علاقته باللغة العربية ومحبته لها منذ أيام دراسته الأدب العربي على الشيخ ابن عاشور في جامع الزيتونة بتونس وهو فتى يافع. يقول الإمام عن تلك الدراسة:

" وإن أنسَ فلا أنسى دروساً قرأتُها من ديوان الحماسة على الأستاذ ابن عاشور وكانت أول ما قرأتُ عليه، فقد حببتني في الأدب والتفقُّه في كلام العرب، وبثتْ فيّ روحاً جديداً في فهم المنظوم والمنثور، وأحيتْ مني الشعور بعزِّ العروبة، والاعتزاز بها كما أعتز بالإسلام."(29)

بيدَ أن محبة الإمام ابن باديس للإسلام والعربية تخلو من التعصب أو الاستعلاء العرقي أو اللغوي، فهو يرى في الإنسانية جمعاء أسرة واحدة، أو كما يقول:

قومي همُ، وبنو الإنسانِ كلِّهمُ   عشيرتي، وهدى الإسلامِ مطَّلبي

فاعتزازه باللغة العربية ناتج من كونها لغة الإسلام الذي جاء للبشرية سلماً وعدلاً، أو كما يقول:

أشعبَ الجزائرِ روحي الفدا         لما فيكَ من عـزة عربيـة

بنيتَ على الديـن أركانـها         فكانت سلاماً على البشرية

 

د. علي القاسمي

 

في المثقف اليوم