شهادات ومذكرات

مرافئُ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي (3-27)

لطيف عبد سالممِن الأسئلة الَّتِي تتردد كثيراً عَلَى ألسن أساتذة الأدب وَالنقاد وَالشعراء ما يتعلق بِمَنْ سيخلفه فِي قصيدة العمود، وَالَّتِي يجيب عَلَيها السَماويّ يحيى بعبارةٍ موجزة بليغة، وقع كلماتها الجميلة وَالمؤثرة الَّتِي تنبع مِنْ جمال الروح، يعكس استلهامه لروح الشعر بمستوى أخلاقي عالٍ، حيث يقول فِي هَذَا الصَّدَد ما يلي: " هذا السؤال أكبر من حجمي "، مضيفاً أيضاً بعد برهة " لو سألت مَنْ سيخلفني على بيتي وسيارتي ومكتبي ودراهمي المعدودات لأجبت : زوجتي وَأبني علي وبناتي الشيماء ونجد وسارة، أما الشعر، فما أنا فيه أكثر من مجرد كلمة غير ذات معنى، كلمة تحاول أن تكون جملة مفيدة في ديوان الشعر العربي ". وَفِي مناسبة أخرى يشير السَماويّ إلى مَا لَهُ صلة بِهَذَا الموضوع قائلاً : " أظنني سأغفو إغفاءتي الأخيرة وأنا مجرد كلمة، لستُ أفضل شاعرية من غيري، فالشعراء كلهم يُكمِل بعضهم الآخر ". وَمَا أظننا نغلو فِي القول إنَّ شُّعراء اليوم أشد حاجة إلى التمعن بِمَا تضمنته تلك العبارات مِنْ معانٍ كبيرة، وَالَّتِي سجلها مَنْ ذاعَ صيته ونقش اسْمه فِي سجلِ كبار شُّعراء العربية، وأعني الشَّاعِر واسع الشهرة السَماويّ يحيى الَّذِي تسلق جبل الشِّعْر باقتدار وشموخ، وَالَّذِي قيل فِي شاعريته ودماثة خلقه وحسه الوطني وتواضعه الكثير، وَلعلَّ مِنْ بَيْنَ ذلك مخاطبة الشَّاعِر ناهض الخياط لَه بالقول " الشاعر الكبير المتألق يحيى السماوي، أنصب خيمتك يا شاعرنا ليؤمك الشعراء من كل مكان ". كذلك وصفه الشَّاعِر يحيى الكاتب بالقول " الشاعر الكبير يحيى السماوي فخر الكلمة الصادقة والمواطنة الصالحة "، فضلاً عَمَا سجل عَنه الكاتب ذات مرة مَا نصه " وأنا إذ أغبط الكتاب والنقاد كيف يدخلون في مضامير النقد الأدبي ليجـدوا ضالتهم وأنا لست ناقداً، لكنّني وجدت نفسي هائماً في روحه وشخصيته وشعره وتواضعه؛ ولأن الحظ أسعفني لألتقيه أكثر من مرة ولأسعد بمجالسته والاستماع الى عذوبة كلامه وبعض من تجربته، سيما تتبعت بعضا من أماسيه الجميلة الممتعة، وأكتب هذه المرة بيد مرتعشة؛ مرتهبا مضماره الذي لا يقربه إلا الحريفون والخبراء "، ويضيف الكاتب أيضاً " ولأنه أكرمني بزبرجدة مكتوب عليها - ثوب من الماء لجسد من الجمر - فتقبّلتها بقبول حسن، ودفنتها بين أضلعي قبل أضالع مكتبتي البالية المتواضعة؛ خوفاً من عبث أطفالي، ولكي أقرأها بإمعان، فوجدت فيها ما يمتعني ويحسسني بروح الشاعر العظيمة الراقية في الانسانية والأدب والثقافة ". ويختم الكاتب حديثه بالقول " لك نصب في قلبي، تقبل تحياتي الاخوية قبل الادبية؛ لأنك إنساني بحت ". وَتدعيماً لما ذكر آنفاً، لَعَلّه حريّ بِنَا التأمل بتمعن فِي دراسةِ الكاتب الأب يوسف جزراوي الموسومة " الكبير يحيى السماوي .... كالحجر الذي رفضه البناؤون وأصبح رأسًا للزاوية "، وَالَّتِي أقتطع مِنها جزءاً يعكس بعضاً مِنْ وريقات العمر التي تساقطت فِي المنفى، حيث يقول جزراوي " ..... طالت فترة وقوفنا على ايقاع المطر المنهمر بشدة في ليلٍ حالك السواد، كانت عيناه جميلتين لكنهما متعبتان، ذاته جريحة، جسده مُنهك، يلتوي بأكمله ألمًا من حصى الكلية اليسرى، تبللت ثيابنا وامتزجت شجوننا المنهمرة مع زخات المطر المُتساقطة، أحاديث لا تعدو أن تروي واقعًا مُحزنًا ". وَعَنْ جاذبيته المبهرة يقول الكاهن البغدادي جزراوي الأب مَا نصه " حين استلمت منه خيط الحديث، ايقنتُ أنَّ الرجلَ متمسك بحبال الرجاء بانتظار غدٍ جديد، تشرق فيه الشمس لتُزيل لعنة الظلام، غير أنّني اعترف هنا أنَّ قدرته على الإصغاء كانت قد أدهشتني، وأن نقاء حواره سحرني، فالرجل يحظى بكفاءةٍ أدبيةٍ عالية ومسحةٍ إنسانيّةٍ قلّ نظيرهما، جعلتا منه دُرة الحديث ومركز الحوار، فكان كالبدر في سماء سيدني التي أمطرت غيومها طويلاً ".

أضـنـاهُ لــيــلُ صــبـابـةٍ فــسَــرى

لـم يــنـتـظـرْ شــمـســاً ولا قــمـرا

 

ألــقـى الى الإعــصـارِ أشــرعــةً

مُــسْــتَـنـفَــراً لــم يــتـَّـخِــذ حَـذرا

 

نــصـحـوهُ أنْ يُــلــقـي الى قَــدَرٍ

أمـراً فــقـال ســأقــحَــمُ الــقَــدَرا

 

فـاسْـــتـخْــبــلــوهُ فــقـائِـلٌ نَــزِقٌ

لا يـرعــوي فاســتعـذبَ الـعَـثَـرا

*

لأيـامِ الصِّبا يشتد بالمرء الحنين، فما مراتع الصبا إلا عصية عَلَى النسيان كما جاء فِي الأثر، فلربما تدمع العين عند استرجاع الذكريات؛ لأنَّ مرحلةَ الصِّبا لا يمكن لبريقها أنْ يعاود الظهور أبداً، وَلَعَلَّ فِي قول الشَّاعِر المصري محمود سامى البارودى " 1839 – 1904 م "، الَّذِي يُعَدُّ بحسبِ المتخصصين أول ناهض بالشِّعْر العربي من كبوته ما يؤكد ذلك :

ذَهَبَ الصِّبَا وَتَوَلَّتِ الأَيَّامُ *** فَعَلَى الصِّبَا وَعَلَى الزَّمَانِ سَلامُ

وَفِي زمانٍ تغير فِيه حتى دفء أرصفة أزقة المدن، وَاختفى عبير " درابين " محلاتها خلف أستار خيام العولمة، قد يصبح عثور كاتب هَذِه الدراسة عَلَى ملامح الوجوه الَّتِي تركها السَماويّ يحيى ذات حزن أمراً صعب المنال؛ إذ قد تكون الذاكرة لبعض الشخوص الَّتِي عاشت تلك الحقبة الزمنية متعبة بفعل قساوة مَا تعرضت مِنْ معاناة، أو أنَّ أقدارها جعلتها بفعل مرارة أفعال الطغاة تبحث عَنْ لقمة العيش وَحالها رهين بِمَا جاء فِي لامية ابن الوردي :

ودَعِ الـذِّكـرَ لأيـامِ الصِّبا * * * فـلأيـامِ الصِّبـا نَـجمٌ أفَـلْ

وَبعد أنْ تعرفنا عَلَى مَا اكتنزته ذاكرة بعض تلك الشخصيات عَنْ السَماويّ يحيى فِي المباحث السابقة، وَمَعَ مشارفة آخر فصول الدراسة عَلَى الإنجاز، وجدت أيضاً مَا هو حافظ لكثير مِنْ حكايات الصبا واليفاعة، ألا وهو ابن مدينته وأحد أصدقاء طفولته الكاتب جبار المكتوب، وَالَّذِي بعث ليّ شهادته الَّتِي نصها تالياً " تعجز الكلمات عن وصف علاقتي مع صديق العمر الشاعر الكبير يحيى السماوي الَّذِي تمتد صداقتي معه سنوات طويلة، حيث عشنا في مدينة ومنطقة واحدة، فالسماوي أخي الذي لم تلده امي، فقد عرفته وعشت معه منذ أيام الصبا، ووجدته طوال مراحل حياته العمرية مثلما كان فِي صباه ويفاعته : وفياً، مسامحاً، محباً ومحبوباً من قبل زملائه وطلابه وأصدقائه، صبوراً على المحن والصعاب، بشوشاً مبتسماً لا يعرف البغض قطعاً؛ إذ أنَّ جمال قلبه النابض، جعل حب الناس والدفاع عن قضاياهم يسري في ضميره ووجدانه، فلم يعرف عنه البخل يوماً في اي موقف سواء لقريب أو بعيد، فهو إنسان صادق في زمن قل فيه الوفاء؛ إذ ارتبط روحاً وعاطفة مع الإنسانية ". ويضيف المكتوب أيضاً " يحيى السماوي شاعر الخبز والتنور، الشخصية الكثيرة العطاء، المملوءة بالوفاء، فقد أشبع حياته بالطيب والأمل والحب والتفاؤل، حتى أصبح نخلة باسقة من بساتين السماوة الثرية برطبها والحاملة شعراً وأدباً وبلاغة وخلقاً وسلوكاً ونوراً وصفاء ". وعَنْ الصداقة مِنْ وجهة نظر السَماوي يقول المكتوب " الصداقة عنده من أفضل العلاقات الانسانية؛ إذ ينظر إليها بوصفها شيئا عظيما مقدسا ، ويعتبرها كنزا لا يقدر بثمن، فهو يشعر بالوجع عندما يرى انسانا يتألم، ويطير فرحاً اذا كان سعيدا، بالإضافة إلى أنه لا ينسى أيا من معارفه مهما طالت مدة الفراق، فصديقه أخ له يحترمه ويتفقده ويحترمه سواء كان صغيراً أو كبيرا ".

قـد كان يعـرفُ مَـسْـلـكـاً رَفِـهــاً

فـاخـتـارَ دربـاً مُـوحِـشـاً خَـطِـرا

 

فـإذا غـفـا صُــبـحـاً عـلى دِعَــةٍ

فَـزَّ الضُّحى يـسـتعجِـلُ الـسَّـفـرا

 

مــا كــان ذا مــالٍ .. ولا فَــرَسٍ

يومـاً وليس الـمُـسْـرفَ الـبَـطِـرا

 

لـكـنـهُ في الـعِـشـقِ ذو سَـــرَفٍ

يُعطي ويُـرخِصُ دونهُ الـبَـصَـرا

 

هـو بـيـنَ بـيـنَ فـنِـصْـفـهُ شَــبَـحٌ

جِـنٌّ ونـصـفٌ يُــشــبـهُ الـبَــشــرا

 

خَبَـرَ العواصِفَ والـسـيـولَ فـتـىً

غضَّ الهوى واسْـتـنـبََـتَ الحجـرا

 

إنْ حاصَـرَتـهُ الــنـارُ صاحَ بـهــا

زيدي اللظى والعـصفَ والشَّـررا

 

والـيـومَ شـاخَ الـماءُ واكـتـهَــلـتْ

كـاســاتُـهُ .. والـمِـعـزفُ انـتـحـرا

 

أوَلــيـسَ مـجــنـونـاً يــمــدُّ يــداً

لـلـنـجـمِ مَـنْ في كـهْــفِـهِ قُــبـِرا ؟

 

ألفى الأسى في العـشقِ مُــبـتــدأً

فـاخـتـارَ أنْ يـغـدو لــه الـخَـبَـرا

 

عِــقـدانِ والــبـلـوى رديــفــتُــهُ

طحَنـتْ حـشـاشـتـهُ وما ضَجِـرا

 

بـيـن الـضلـوع تـقـومُ نـخـلــتُـهُ

أنّـى مـضـى وأقـامَ أو حَــضـرا

 

مـاهـزّهـا يـومـاً ولا عــرفــتْ

قـلــبــاً لـهُــدهُــدِ وجهـهـا نُـذِرا

 

دهــرٌ عــلى شـــوقٍ يـُـكـابــدُهُ

سِــرّاً فــمـا أفـضـى ولا ذكَــرا

*

عَلَى الرغمِ مِنْ حداثة معرفتي بالأديب إحسان أبو شكاك الَّذِي ولد فِي مدينة السَماوة وَمَا يزال يقطن فِيهَا، إلا أنيّ وجدت فِيه مِن السجايا مَا جعلني أشعر أني أعرفه منذ سنوات طويلة، الأمر الَّذِي جعلني متحمساً للحديث معه منذ بداية لقائنا فِي شارع المتنبي، وبخاصة حين علمت أنَّه كان أحد طلبة السَماويّ يحيي في المرحلة الثانوية، إلا أنَّه تردد حين رجوته أنْ يسجل مَا يحفظه فِي ذاكرته عَنْ أستاذه وَصديقه الحميم السَماوي يحيى؛ بالنظرِ لخجله أمام هيبة أستاذه والاحترام الكبير الَّذِي يكنه له، لكن يَبْدُو أنَّ طيبةَ أبو شكاك ألزمته الاستجابة لرجائيّ، حيث بعث ليّ شهادته الموسومة " الشاعر الكبير يحيى السماوي .. إنسانا "، وَالَّتِي يقول فِي مقدمتها مَا يلي " معيشتي ما بين أهل مدينتي الطيبين جعلت ذاكرتي تكتنز الكثير من سفر حياة أغلب مبدعيها، وتحفظ الجميل من سجاياهم في قلبي، وحين رجاني أخي الباحث لطيف عبد سالم تسجيل شهادتي في السماوي إنساناً، ترددت بادئ الأمر؛ لصعوبة الكتابة عن رجل له هيبة ووقار في عيوننا ونفوسنا - نحن أهل السماوة - منذ أن كنا شباباً نتتلمذ على يديه في مرحلة الدراسة الثانوية، وأمام هذا الاختبار الصعب، وجدتني منقاداً لزيارة المكان الذي كان الشاعر ذات زمان مغرماً به، ألا وهو شارع النهر المطل على نهر الفرات في مدينة السماوة، والذي حمل اسمه " شارع الشاعر يحيى السماوي ". وقد شعرت وانا أقف قرب عمود أزرق بفخرٍ كبير لم أشعر به طوال حياتي؛ لأن اسم استاذي الودود سابقاً وصديقي الحميم حالياً يظلل هامتي وهو ينتصب على ذلك العمود، فقد أعادتني الذاكرة إلى أيامٍ كان خلالها السماوي يبدي حرصه الدائم على النصح بضرورة تمسك طلبته بالتفوق والنزاهة، فقد تعلمنا من أبويته - وصداقته معاً - أيام الدراسة أنَ نكران الذات هو الفرق بين الأنانية من جهة والتضحية والإيثار من جهة اخرى، ولا عجب في ذلك ما دام يحيى السماوي يحمل هذه الصفة بجدارة ".

وَمِن بَيْنَ مَا سجله أبو شكاك فِي شهادته مَا نصه " تذكرت ومضته الرائعة التي قال فيها :

سُئل عاشق ما تتمنى أن تكون ؟

قال : أتمنى أن أكون ناعوراً أسقي آنية الآخرين وأكتفي بأنيني

وأنا سُئلت فقلت : أتمنى أن تكون لي أخلاق التنور، فالتنور يمنح خبزه للآخرين ويكتفي برماده ..

ومضة السماوي هذه التي لمْ تفارق صورتها مخيلتي منذ أن سمعتها، تعبر بصدق عن نقاء قلب السماوي وتفصح عن إنسانية أفكاره التي تفجرت منذ فجر الشبيبة وهي مملوءة هيبة ومودة وجمالا ".  

ويختم أبو شكاك شهادته قائلاً " عرفت الأستاذ يحيى السماوي مدرساً متمكناً في مادة اللغة العربية قبل أن أعرفه شاعراً نادرا شفيف الروح، قصائده ندية كالورد، فقد كان مدرساً خلوقاً هادئاً متسامحاً متواضعاً، واباً حنوناً وصديقاً ودوداً لجميع طلبته، فمن أعمق ما كنا نشعر به - نحن طلبة درسه المحبب لنفوسنا - هو شفافيته وسلاسة أسلوبه الذي أسر عقولنا بفضل لهجته ونظراته التي تتفحص ذواتنا الخفية، فنراه يحنو على طلبته من شريحة الفقراء، حيث كان - كما شاهدت بعينيّ - دائم الشعور بهم، فضلا عن مساعدة من يشعر بحاجته منهم إلى المال ".

*

سَــئِـمَ الـسـنيـن تـمـرُّ مـوحِـشـةً

لـو تُـخْـزلُ الأعمارُ لاخـتـصَـرا

 

سـلــواهُ جـرحٌ راح يـنـبــشـــهُ

لِــيُـطيـلَ في أوجاعِـهِ الـسَّـهَــرا

 

ولــربّــمـا يــغــفــو عـلى أمَــلٍ

أنْ يـلـتـقـيـهـا في سـريـر كـرى

 

حسناءُ لا أحـلـى إذا ضـحِـكـتْ

سَكَرَ المدى وأخو الـتـقى سَـكـرا

 

عـشِـقــتْ ربـابـتـهُ فـحـيـثُ شـدا

رقصتْ وفاضَ حُـبـورُها غُـدُرا

 

تـلـهــو وتـجـهــلُ أنّ مُـنـشِـدَهـا

نـذرَ الــفــؤادَ لـهـا ومــا جَـهَـرا

 

عَـشِـقـتْ ربابـتـه ومـا عَـلِـمـتْ

أنْ حــبّـهــا مَـنْ حَـرَّكَ الـوَتَــرا

 

كـم حَـجَّ فـي صـحـوٍ وفي حُـلُـمٍ

وتـلا رســائِـلَ سـعــفِـهـا سُــوَرا

 

يـشـكـو ولـكـنْ فـي ســريـرتِـهِ

دامي المُـنى يـسْـتـنـطِق الصُّوَرا

 

ولـربّـما صـلّـى الـعـشـاءَ عـلى

وِتْـرٍ وصامَ وفي الضُّحى فَـطَرا

 

صَـبٌّ أغـاظَ الـصّـبـرَ تـحـسَـبُـهُ

فــرطَ الــتـجـلّــدِ جـامِـداً حَـجَـرا

 

قـد غـادَرَ الـنـهـريـن وهـو فـتـىً

صـافـي الـمـرايا كالـنـدى خَـفِــرا

 

حَـمَـلَـتْـهُ قـسْــراً عـن شــواطِـئِـهِ

زُمَــرٌ تـرى فـي الظـلـمِ مجدَ ذُرا

 

ضـاق الـعــراقُ وكـان ذا سَــعــةٍ

ودجـى وكان الـمُـشمِـسَ الـنـضِــرا

 

أزرى بـهِ الأوغـادُ فـاحــتــبـسـوا

عـن حـقـلـهِ الـيـنـبـوعَ والـمـطـرا

 

عـرضـوا عليـهِ ظِـبـاءَ واحـتِـهـمْ

والـجــاهَ والأنــعــامَ فــاعــتــذرا

 

فـأبـى سـوى أنــثـاهُ يـسـكــنـهــا

وطـنـاً مـن الأحـلامِ لـيـسُ يُـرى

 

ويحي عـليَّ كـتـمـتُ حشـرجـتي

أحسـو مُضـاغَ الجمـر مُصطـبـرا

***

ثَمَّةَ لقاء جمعني قبل سنوات بالسَماويّ يحيى فِي مقهىً بغدادي عَلَى شاطئ دجلة، وَبينمَا كنا نتجاذب أطراف الحديث عَنْ الظروف الراهنة إذ خطر عَلَى باليّ مَا جعلني أسأله سؤالاً مفاده : يا سيدي حتى ربيعنا غدا صيفاً قائظاً، وربما يصبح فِي القادم مِن الأيام زمهريرا، فما الذي تبغيه مِنْ كتابة القصيدة فِي ظلِ هَذَا الواقع؟، فأجابني بثقة وَمِنْ دُون تردّد قائلاً : " في القصيدة أعوّض ما فاتني من كرامة، نعم حينما أهان بصفعة شرطي، أتعرف ما معنى أن يبصقَ بوجهي شرطي الأمن؟ كل انهزاماتي تذوب في القصيدة، أرسم الحياة التي أريدها بأدق تفاصيلها، أعوّض حطامي، أحلامي الذبيحة، أعوّض الشباب الذي ضاع في المعتقلات، السجون، فصل المطاردة، النقل القسري، ما كان معتماً الآن صار قوس قزح، الغد أصبح يتسع للفرح، فعلى الأقل أصبح بإمكاني أن أغفو مطمئنا أن أطفالي لن يُجلدوا ذات الجلد الذي جلدت فيه، ولن تعد من ضفيرة أختي مشنقة لمجاهد "، فازددت تَيَقُّناً أنَّ السَماويّ يحيى إنْسَان يعيش فِي وجدانه وطن.

 

لطيف عبد سالم

 

في المثقف اليوم