شهادات ومذكرات

مجددون في عباءة المحافظين.. المنفلوطي مُجددًا وثائراً

عصمت نصاراجتمع أهل الرأي - علماء ومحدثون - على أن الحقائق تطلب من مصادرها، والأدلة لا تكون سندًا إلا بقوة البرهان المؤيد لها، والحكم على الرجال وتصنيف اتجاهاتهم ونقد آرائهم لا نستدل عليه بالإجماع أو بشهرة الناقد أو مكانته، بل بقراءة ما سطرته أقلامهم وما صرحوا به من أقوال وما تحقق من آثارهم، ومن هذا السبيل نؤكد أنه ليس كل ما رويِ عن «مصطفى لطفى المنفلوطي» (١٨٧٦-١٩٢٤م) يخلو من الذاتية فى النقد والمذهبية فى الرأي والهوى فى الحكم.

فقد ذهبت العديد من الدراسات إلى اعتبار المنفلوطي أحد أئمة الاتجاه المحافظ، وبالغ بعض الكتاب فى وصفه بأنه الرجعيِ فى الآراء والمتقعّر فى اللغة والمقلد فى الأدب، غير أن الواقع يشهد بغير ذلك، وسوف نقدّم فى السطور التالية البراهين التى تؤكد أصالة وطرافة آرائه وتبيان أن كل ما أثير من حوله من اتهامات كان وليد المثاقفات والمناظرات الأدبية والفكرية التى خاضها.

فالمنفلوطي كان حداثيًا غير مُفارق لمجتمعه، فطالما تحدث عن مشكلات الشباب وعواطفهم الملتهبة، وأثر الطبيعة الاجتماعية على العلاقات بين الجنسين وألاعيب الشباب الماكر والمخادع الذى يستحل كل أشكال المجون، ويرتكب الموبقات والفحش فى القول والعمل باسم الحب تارة، والدفاع عمّا يعتقد فى صحته تارة أخري. وانتشله من برَك الرذائل وارتقى بذوقه وأريحَيته حتى أجلسه على عرش الفضائل، وذلك فى العديد من قصصه مثل «غرفة الأحزان» و«التوبة» و«الجزاء»؛ ذلك فضلاً عن أقاصيصه وترجماته الروائية التى دافع فيه عن الأخلاق المثالية، وقد أراد من ذلك غرسها فى أرواح الشباب وسلوكهم.

أمّا عن أسلوبه؛ فكان أقرب إلى اللغة الأدبية القشيبة التى تحفل بالبيان والجرّس فى استخدام البديع دون تكلف أو صنّعة، الأمر الذى كان وراء إقبال الأدباء الشبان على كتاباته النثرية وتفضيلها عن غيرها، فمقالاته لم تكن محاكية للموروث العربي القديم، بل كانت مجددة فى تراكيب العبارات وترتيب الأفكار وتنوع الموضوعات.

وقد حاكيَ أسلوبه معظم أصحاب الأقلام فى الربع الأول من القرن العشرين، محافظين ومجددين مثل «مصطفى صادق الرافعي»، «طه حسين»، «عبدالعزيز البشري».

أضف إلى ذلك وجهته الإصلاحية التى ترمى إلى التوجيه، وليس التلقين أو الحفظ أو إعلان الوصاية أو الحجّر على آراء المخالفين؛ فقد دأب على مخاطبة العقل والإرادات الحرة التى تميَز بين الإلزام والالتزام. وما ينبع من المجتمع ومشخصاته، وما يؤمن به الفرد ويعبًر عن هويته.

وحسبنا ألا ننسى دفاعه عن العدالة الاجتماعية، وانصاف ذوى الكفاءات من العصاميين، والتهكَم على من افتتنوا بمظاهر الحياة المدنية الأوروبية، فراحوا يقلدون قشورها دون لبابَها، وظنوا أن المدنية والتقدم فى تقليد الأغيار، واعتقدوا أن جحد مشخصاتهم التليدة هو سبيلهم إلى العلم والرقي.

وقد حذر فى العديد من أعماله القصصية؛ الطبقة الارستقراطية المصرية التى شجعت أبناءها من الجنسين على تقليد الأجانب فى لغتهم ولباسَهم وعوائدهم، حتى أضحوا مسوخًا لا انتماء، ولا ولاء فى أفكارهم للوطن الذى نشأوا فيه.

ولعل كتابته النقدية الإصلاحية تبدو بوضوح فيما حَوته مقالاته فى «كتاب العبرَات» و «كتاب النظرَات»، تلك التى تناول فيها عشرات القضايا مثل (السفور والحجاب، التجديد والتبديد، الحرية والفوضوية، الشجاعة والتهور، المّدنية والتفرّنج، العلماء والأدعياء، النقاد والنقاض، المصلحين والمضللين، رجالات الصحافة وتجار الكلمة)، وغير ذلك من قضايا اللغة والأدب والفكر والسياسة. وليس أدَل على صدق خطاب الرجل من اجتماع شيوخ عصره على تباينّ وجهاتهم على أنه المعلم الأريب والمفكر الحصيف والمجدد الصادق الذى حمل خطاب «محمد عبده» الإصلاحي، فجدّده وطوّره لاسيّما فى مجال الأخلاق.

فقد اتفق «العقاد» و«سلامة موسي» على أنه أديباً مبدعًاً جمع بين الأصالة والمعاصرة، وإن كتابته كانت أقرب إلى الديكارتية فى العرض والكانطيّة فى المعالجة.

وإذا كان مفكرنا من أخلص تلاميذ الشيخ «محمد عبده» فى حمل رسالته فى ميدان التجديد والإصلاح؛ فإنه قد اتخذ من إحياء الفضائل العربية الإسلامية فى أذهان الشباب وقلوبهم وسلوكهم سلاحًاً للثورة على فساد العادات، وانحطاط القيم التى لوّثَت الثقافة المصرية من جرّاء الجهل والتخلف وضيق الأرزاق والابتعاد عن أصل الدين والتأثر بتقاليد المُحتَل، كما نجح إلى حد كبير فى تقوّيم سلوك المتصّوفة والمُتنطعين فى الدين، وبيّن مع أستاذه أن التصَوّف الحقيقي هو الذى يعبّر عن أخلاق الإسلام ويطبق مقاصده ويرتقى بأخلاق الأمة، إلى عشق اللذّات الروحيّة ومحبة العمل النافع للناس، ونشر روح التسامح فى المجتمع، بمنأى عن الطائفية والعنف الملي والتعصب المذهبي.

وقد أدرك رفيقه «سعد زغلول (١٨٥٩م-١٩٢٧م)» أثر كتابات «المنفلوطي» فى العقل الجمعي، فاتفقا معا على صياغة وبناء برنامج الثورة المصرية، تلك التى انطلقت من أجل الحرية والكرامة والاستقلال.

فقد فطّن كلاهما إلى أن الثائر المستنير الحقيقي، هو المدفوع بفضيلة الشجاعة والحياء والعفّة وإنكار الذات، وليس العنف والفوضى والانتهازيّة، وأن الحرية تطلب من مُنكريها وتُنتَزع بالجهاد من مغتصبيها.

وقد سجّل التاريخ لهذيّن الرجلين فضل إيقاظ وبعث الروح الثورية فى عزائم الشباب.

وقد صرح «المنفلوطي» فى عديد من المحافل بانتصاره للفلسفة وحركة الاستنارة والثورات الأدبية الإصلاحية التى تعمل على تجديد الفكر وتقويم الجانح فى سلوك الفرد والمجتمع وتحديث الغَث البالي من الأفكار والمعتقدات والآراء. وتحارب بالعلم والوعي كل قلاع الاستبداد، دفاعًا عن الحرية.

ولم يتحَرجّ من أن يُشيد بفلاسفة التنوير الأوروبيين وعلى رأسهم «فولتير (١٦٩٤م - ١٧٧٨م)» ذلك على الرغم من اختلافه معه فى الكثير من آرائه العقَدّية، الأمر الذى يؤكد أن «المنفلوطي»، كان يطلب الحكمة من كل صَوّبٍ ودرب، وإنْ امتلكها الأغَيار المخالفين. ومن أقواله فى ذلك (جئنا لنرفع شأن المدنيّة ونكرم الفلسفة إكرامًا ينفعها ويفيدها، جئنا لنكَرم المجاهدين والعاملين المخلصين، وجملة القول إنا ما اجتمعنا هنا إلا لنمجد العاطفة الشريفة السامية، عاطفة السلام العام، إنا نمجد السلام حبًا فى المدنيّة وحرصًا على رونَقها وروائَها؛ فإن السلام فضيلة المدنيّة والحرب رزيلتها، فلا قوة إلا قوة الضمير ولا مجد إلا مجد الذكاء، ذلك فى سبيل العدل وهذا فى سبيل الحق).

وأضاف «المنفلوطي» أن عظمة «فولتير» تتمثل فى حَملته على العنف والاستبداد العقّدي، وتَجبر الساسة الذى مكَنّ رجال الدين وساندهم لخرس الألسنة وسَجن العقول باسم الربّ ومقدساته وقطع الرؤوس والتمثيل بأصحاب الرأي والتنكيل بكل من يخالف السائد من المعتقدات. (تقدَم «فولتير» وحده وأثار حربًا عَوانًا على هذا العالم القوى المخيف، ولم يرَه أكبر من أن ينخَذّل ولم يرَ نفسه أصغر من أن ينتصر. أتدرى ما كان سلاحه؟ ما كان له سلاح غير تلك الأداة التي تجاري العاصفة فى هبوبها وتسبق الصاعقة فى انقضاضها. ما كان له سلاح غير القلم، فبالقلم حارب وبالقلم انتصر، «فولتير» محا الخرافات الدينية والعادات الفاسدة وأرغم أنف الكبرياء، وأذل عزّ الرؤساء، عَلمّ ومَدّن وهَذّب ولقي فى سبيل ذلك من الشدائد والمحَنّ والنفي والقهر ما يكسر النفس فلم تنكسر...، إنّ أولئك القوم «التنويريين» علموا الناس النظر فى حقائق الأشياء والتفكر الموصل إلى إتقان الأعمال وعلموهم أن صَلاح القلب أثر من آثار صلاح العقل فأجادوا وأفادوا، أجل إن الثورة روحهم، والمظهر الساطع المتلألئ بحكمتهم ومبادئهم، فهم فى الحقيقة أبطال الثورة المقدّسة التي هى خاتمة الماضي وفاتحة المستقبل).

وبذلك برهن مُفكرنا «مصطفى لطفى المنفلوطي» على أن عمامته وعباءته الأزهرية لم تحُل بينه والانتصار لحرية العقيدة والعقلانية فى الاجتهاد والبوح بالرأي، ولم يقده ميله للفلسفة وجلاله لفلاسفة التنوير الأوروبي إلى التخلي عن أصول دينه، ووسطيته العقدية المعهودة فى جل الأزهريين المجددين، شأن بعض معاصريه من التغريبيين الذين ساروا فى ركاب فلاسفة الغرب دون نقد أو تمحيص.

«وللحديث بقية»

 

بقلم : د. عصمت نصار

 

في المثقف اليوم