شهادات ومذكرات

علي حسين: ذكريات مع كتب مملة

الروائي الذي قرر أن يُشغل النقاد " 300" عام

لا يمكنك أن تكون من عشاق الرواية دون أن تتعثر برواية " يوليسيس "، وسيطلب منك مؤلفها المواطن الايرلندي جيمس جويس أن تكون صبورا، ولا يهم أن تتململ احيانا، وترمي الكتاب جانبا في احيان اخرى، وربما تعصر دماغك وأنت تقرأ كلماته، بينما يُخرج لك ابطال الرواية السنتهم ساخرين لأن معرفة كيف يكتب جيمس جويس رواياته هي دليلك للدخول إلى عالم الرواية الحديثة. عندما تعثرت للمرة الاولى برواية جيمس جويس، كنت تحت تاثير مسرحيته " منفيون " التي كتبها جويس عام 1918- صدرت ترجمتها العربية في اوائل السبعينيات ضمن سلسلة المسرح العالمي –،وهي المسرحية الوحيدة التي كتبها جويس، وكانت تجربة صعبة لابطال منعزلين يبحثون عن ذواتهم، وكنت اتمنى ان اقرأ روايته يوليسيس التي يتم ذكرها أكثر من مرة في المقدمة التي كتبها المترجم امين العيوطي.

مجلة الكاتب المصري كانت نفطة الانطلاق نحو جويس، فقد عثرت فيها على مقال كتبه لويس عوض بعنوان " جيمس جويس " وفيه ينبهني الى ان صاحبنها الذي سخرت من مسرحية يعد " إمام القصة في القرن العشرين ومجددها " قال عنه ت.س. اليوت انه اعظم من كتب بالانكليزية بعد الشاعر جون ميلتون مؤلف " الفردوس المفقود "، ويخبرني لويس عوض بما فعله برنادشو عندما قرر ان يجعل من رواية يوليسيس طعاما لنار المدفأة وهو يردد :" إن هذا الكتاب يثبت ان رجال دبلن وغلمانها لا يزالون على ما كانوا عليه في أيامي من قذارة في التفكير لا سبيل الى ازالتها ". هذه اذن رواية يوليسيس التي اصابت روائيا شهيرا مثل  د.ه.لورنس بالملل.

ألم يسبق لك أن وقعت في سوء فهم مع كاتب الى حد كنت تخشى الاقتراب من كتبه، وإلى عدم الرغبة في مواصلة قراءته، وبكلمة واحدة ان تشعر بالخوف منه ؟ سيفهم قصدي كل من جرب قراءة يوليسيس او رواية البحث عن الزمن المفقود أو حتى السيدة دالاواي، مثل هذه الروايات كنت اسمع زبائن المكتبة يتكلمون عنها دون أن يقرأونها كاملة، الكثير منهم جرب قراءة يوليسيس، لكنه بعد عدة صفحات يقرر اعادة الكتاب الى الرف، ألم يخبرنا جويس نفسه ان القراء والنقاد سينشغلون بحل الغاز روايته لمئات السنين.

في الثاني من شباط عام 1922 اعلنت مكتبة " شكسبير ورفاقة " التي اسستها السيدة الامريكية " سيليفا بيتش " عام 1919 في باريس عن اصدار طبعة كاملة من رواية جيمس جويس " يوليسيس ". كانت سيليفا بيتش قد قابلت جيمس جويس عام 1920 في احدى الحفلات الادبية وتصف لنا لحظة مشاهدتها للكاتب الايرلندي في كتابها " شكسبير ورفاقه " – ترجمة رياض حمادي " قائلة :"كان متوسط الطول نحيفا منحنيا قليلا، وبملاحظة يديه ستجدها هزيلتين للغاية يضع خاتمين في اصبعيه الوسطى والثانية، من يده اليسرى، مرصعين بحجرين ثقيلين، وعيناه ذات اللون الازرق القاتم. كانتا في غاية الجمال. لكني لاحظت العين اليمنى لها مظهر غير طبيعي، وان العدسة اليمنى لنظارته كانت اكبر سمكا من اليسرى. كان شعره كثيفا، رملي اللون، مموجا، ومنسدلا من جبينه العالي المسطر فوق رأسه الطويل. يعطي جويس انطباعا بالرقة والشفافية. كانت بشرته فاتحة جميلة، فيها قليل من النمش، ومتوردة الى حد ما. انفه جميل الشكل، وشفتاه رفيعتان ومحددتان بعناية. سحرني صوت جويس بنغماته الحلوة التي يلفظها كمغني تينور. نطقه واضح على نحو استثنائي ".

في نهاية عام 1917 أنهى جيمس جويس الفصول الأولى من يوليسيس واستعد لطباعتها على الآلة الكاتبة، وكان قد عرض ذلك على ناشرة مجلة " الفيردي"  وهي مطبوع صغير كان له تأثير في الحياة الأدبية، أن تحاول إصدار الرواية على شكل حلقات، وبما أن الآنسة ويفز صاحبة المجلة، كانت تؤمن إيماناً راسخاً بعبقرية جويس، فقد وافقت فوراً على نشر الفصول الأولى،  إلا أن الرواية لم تلاقِ النجاح المطلوب بسبب غرابة أحداثها، والتعقيد الذي تعمده جويس في لغتها، كما أن الحكاية تروى بطريقة معقدة جداً، لأنها تصوير لنشاط الإنسان في هذا العالم وليس مجرد وصف لجماعة من الأفراد في مدينة دبلن. وقد كان جيمس جويس يرى في أوديسة هوميروس الرواية الكاملة الأدب من خلال شخصية يوليسيس، وكان يحلم بأن  يعيد بعث هذه الشخصية في القرن العشرين ليعرض من خلالها الإنسان بكل جوانبه، فهو جبان وبطل معاً، حذر ومتهور في أن واحد، ضعيف وقوي في الوقت نفسه، زوج وعاشق أيضاً، كريم وبخيل معاً، طالب ثأر ومتسامح وسخيف، ولهذا فقد حاول جويس أن يجعل مغامرات بطله ليبولد بلوم تسير على غرار ذلك النموذج في ملحمة هوميروس، لذلك يمكن للقارئ أن يجد في كل الأحداث التي يمر بها بلوم خلال يومه الطويل في دبلن، ما يقابلها في مغامرات يوليسيس في الأوديسة، فبلوم هو كل إنسان عاش في هذا العصر، ودبلن هي العالم مصغراً. بعد أن شعر جويس بأن الرواية لم تنل حظّها في لندن، طلب من صديقه " عزرا باوند"، أن يساعده هذه المرة في نشر الرواية في الولايات المتحدة الأمريكية.، تظهر الحلقة الأولى من الرواية في نيويورك في العاشر من آذار عام 1918. وقد لقيت الفصول الأولى نجاحاً كبيراً، لكن هذا النجاح لم يبدّد قلق باوند على الرواية، حيث كان متيقناً أن بعض أقسام يوليسيس سوف تُمنع من النشر. وكما توقع قامت دائرة البريد الأميركية بمصادرة وحرق المجلة التي نشرت فصول الرواية بعد ان قال الرقيب ان الرواية تحوي على ألفاظ بذيئة تسيء الى المجتمع، وقام سكرتير جمعية نيويورك لمحاربة الرذيلة برفع شكوى رسمية ضد الرواية، ليصدر قرار المحكمة باعتبار الكتاب مثيراً للقرف.

كان السؤال الذي طرحته سليفيا بيتش عند لقائها الاول بجيميس جويس هو: ما هي اخبار يوليسيس؟.. قال لها انها تعاني مزيدا من القمع .. كانت الرواية تخوض معارك في لندن ايضا حيث كانت المطابع الانكليزية متحفظة على اسم جويس.

ارتبطت سليفيا بلتش بعلاقة صداقة مع عائلة جويس، كانت تذهب الى بيتهم باستمرار.. وتقول في مذكراتها انها استغريت من استمتاع جيمس جويس لوصف زوجته " نورا " له بالكسول الذي لا يرجى منه خير. لم تكن زوجة جيميس جويس تحب قراءة الكتب، قالت مرة انها لم تقرأ ولا صفحة من " يوليسيس. تتذمر من زوجها الذي لايكف عن الكتابة، والذي يبحث دائما عن الورق وقلم الرصاص الذي " يخرمش" به على حد تعبيرها. كان جويس من جانبه يعتبر نورا افضل الحظوظ التي حالفته في حياته. كان في الثانية والعشرين من عمره عندما التقاها للمرة الأولى في ذلك اليوم عام 1904 على أحد جسور دبلن، كانت فتاة متوسطة الجمال، تعمل منظفة للغرف في أحد الفنادق. وما أن رآها حتى قرر أن تكون له، وأن يكون لها! وفي ما بعد سوف تحضر في معظم أعماله. وستكون مؤثرة فيها بشكل كبير، وستوحي له بكتابة مونولج (ليوبولد بلوم) الشهير الذي أنهى به روايته" يولیسیس".

جيميس جويس المولود في الثاني من شباط عام 1882 بمدينة دبلن في ايرلندا، أكبر الأولاد لعائلة من اثنى عشر فرد، عاشت سنبنها الاولى في بحبوحة وثراء، إلا ان ادمان الاب على الخمر والقمار  نقلها إلى الفقر، ارادت والدة المتدينة ان يصبح ابنها قسيسا، فادخلته مدرسة اليسوعيين، لكنه وهو في الثانوية اخذ يشكك في المعتقدات الدينية، فانتقل لدراسة اللغات، واخذ يقبل على قراءة الادب اليوناني وخصوصا ملاحم هوميروس، واغرم بدانتي وكان يحفظ بالايطالية مقاطع كاملة من "الكوميديا الإلهية ". عام 1905 حاول جويس نشر اول اعماله " ناس من دبلن "، قدمها إلى خمسة عشر ناشرا. الجميع رفض طباعتها إلا بعد اجراء تغيرات عليها خوفا من الرقابة، لكنها ستصدر عام 1906 من مطبعة صغيرة، وستواجه الناشر مشكلة بعد ان قررت الرقابة مصادرة الكتب المطبوعة، عام 1916 حاول جويس نشر عمله " صورة الفنان في شبابه مرة اخرى ستواجه بالرفض إلا بعد ان تتم مراجعتها وهو الامر الذي كان يرفضه جويس دائما.

عاني في حياته التي بلغت " 59 " عاما – توفي في الثالث عشر من كانون الثاني عام 1941 في سويسرا -  من مشكلات صحية، فقر دائم للدم والام في المفاصل، وخضع لخمس وعشرين عملية جراحية في عينيه انتهت الى اصابة احداهما بالعمى التام.

 ذات يوم ستقول سيلفيا بيتش لجويس: " هل تسمح لشكسبير ورفاقه ان تحظى بشرف نشر يوليسيس؟ لم تتوقع ان يوافق كاتب كبير ان تنشر روايته دار نشر صغيرة، لكنه سيعود اليها في اليوم التالي ليعلن موافقته. بعد ايام ستنشر سليفيا بيتش اعلانا في احدى الصحف بان رواية " يوليسيس " ستنشر كاملة. ونص الاعلان على ان الطبعة محدودة بالف نسخة وستوقع من قبل الكاتب وان باب الحجز مفتوح على نسخ من الرواية، ثم وضعت في الاعلان صورة صغيرة لجيمس جويس يبدو نحيلا وملتحيا.. لم تتوقع بيتش ان الاعلان سيحفز الناس على الاقبال لحجز نسخ من الرواية.. ففي الاسبوع الاول تراكمت الاستراكات. ترك لها عزرا باوند اشتراك بمبلغ محترم يحمل اسم الشاعر الشهير ويليام ييتس، كما حجز ارنست همنغواي عدة نسخ. وهناك نسخ حجزها سكوت فيتزجيرالد ولم يكن قد اصدر غاتسبي العظيم بعد – صدرت عام 1925 – ونسخة حجزها الناقد ارشيبالد ماكليش. ورفض برنادشو الاشتراك  قائلا :" انني سيد ايرلندي مسن، فانت كنت تتصورين بأن اي ايرلندي،، سيدفع 150 فرنكا في مثل هذا الكتاب، فانت تعرفين القليل عن ابناء بلدي "

انتشرت أخبار " يوليسيس سريعا في باريس وازداد الطلب عليها، لكن بعد مرور عدة شهور، بدأ المشتركون بشعرون بالقلق، وكانت سيلفيا بيتش معرضة لتهمة خداع الجمهور. وكان من بين من طالبوا بسرعة تزويدة بنسخته الروائي الانكليزي " د.ه.لورنس ".. لكن الطباعة ستتأخر، وكانت احدى المشاكل تتعلق بالغلاف حيث اصر جويس ان يكون لون الغلاف ازرق مثل لون بحر ايجه اليوناني.. وايضا واجهتهم صعوبة في تنضيد الرواية، لغرابة خط جيمس جويس والمفردات التي استخدمها، ويتذكر جويس ان احدى الضاربات على الآلة الكاتبة، قرعت جرس شقته ذات يوم وما ان فتح الباب حتى القت الصفحات في وجهه.. ظلت الطباعة تتقدم ببطء. وستتعرض اجزاء من الرواية المخطوطة الى التلف حين التقط زوج احدى كاتبات الطابعة اوراقا منها وما ان قرأها حتى القاها في النار وهو يشتم الكاتب. تمت الاستعانة بنسخة مخطوطة موجودة عند احد اصدقاء جويس في نيويورك.. في هذه الاثناء تعرض جويس لآلام في عينه توجب اجراء عملية جراحية له، في ذلك الوقت كان يعاني من مشاكل مالية، الافلاس يحاصره، يعمل في تدريس اللغات لاعالة عائلته، لكنه توقف عن العمل بسبب يوليسيس التي كان يخصص لها سبعة عشر ساعة كل يوم لمراجعتها، قررت الناشرة سيلفيا بيتش ان تمنحه بعض السلف المالية على حساب الرواية لاعالة عائلته المكونة من اربعة افراد. كان عيد ميلاد جويس يقترب وقررت صاحبة " شكسبير ورفاقه " ان تصدر الرواية في عيد ميلاده المصادف الثاني من شباط، وهذا ما حصل حيث وصلت نسختان من الرواية صبيحة الثاني من شباط عام 1922 الى مكتبة شكسبير ورفاقه، لتسرع سيلفيا بيتش الى شقة جويس تسلمه النسخة رقم واحد، اما الثانية فقد احتفظت بها في المكتبة. هاهي يوليسيس اخيرا بين يدي جيمس جويس بغلافها الازرق اليوناني، تحمل العنوان واسم المؤلف بحروف بيضاء وبعدد صفحات " 732 ". ستصل بعد ايام الالف نسخة الى المكتبة التي تم بيعها في غضون شهر. تمت إعادة طبع الكتاب بسرعة، ولكن بسبب المنع الذي صدر ضد الرواية ، لم يكن من الممكن نشرها في بريطانيا أو أمريكا. كانت الطبعتان الثانية والثالثة، قد نفذتا في تشرين الاول عام 1922، تم مصادرة عشرات النسخ المهربة الى امريكا وبريطانيا.ستصدر الطبعة الرابعة والخامسة والسادسة بغلاف مختلف اللون.عام 1933 صدر قرار المحكمة بالسماح بنشر يوليسيس في الولايات المتحدة الامريكية، وقد قال القاضي في قراره ان :" "الكلمات التي يتم انتقادها على أنها قذرة هي كلمات يعرفها جميع الرجال تقريبا  ". وخلص القاضي إلى أن جويس فنان عظيم في الكلمات وان الكتاب لا يمكن اعتباره إباحيا. في عام 1936 سحبت المحاكم البريطانية اعتراضاتها على يوليسيس ، لتصدر طبعتها الاولى في لندن .

هل يمكن تلخيص رواية " يوليسيس " ؟، قبل ذلك ساروي حكايتي مع الرواية. في منتصف السبعينيات عثرت في دار الكتب القديمة التي كانت تقع في شقة وسط شارع الرشيد على نسخة من يوليسيس بعنوان " عولس " ترجمة محمد لطفي جمعة الذي عرفت فيما بعد بأنه مترجِم ورِوائي، موسوعي، ويجيد العديد من اللغات، كتب وترجم في الفلسفة والاقتصاد والادب وكتابه الشهير " تاريخ فلاسفة الاسلام " يعد مصدرا مهما. الجزء السهل في كتاب محمد لطفي جمعة هو المقدمة التي كتبها للرواية وفيها يدافع بحرارة عن جيمس جويس حيث يصف روايته بانها " قصة رائعة، لا أول لها ولا نهاية ولا وسط، لانها قصة الحياة بفرحها وحزنها وعبرتها، قصة كونية رائعة خالدة ".بعدها يكتب بحماس مفرط :" جاهل من ظهر جاهل، سواء أكان في الشرق او الغرب من يزعم ان عولس ليس كتابا كاملا، راعى فيه مؤلفه تسلسل الزمان ووحدته، بل من يقول ذلك اعمى منه واضل سبيلا من يقلده قبل أن يقرأ تلك الملحمة الكبرى قراءة درس وفحص وتمحيص ".

قالت الرواية اشياء لم افهمها حقا، وكان لا بد ان استعين باحد زبائن المكتبة المترجم يوسف عبد المسيح ثروت سألته :" هل قرأت عولس؟ اكتشفت ان السؤال كان غبيا عندما ابتسم بضيق وهو يصحح لي الكلمة  : يوليسيس وليس عولس، واضاف : نعم. تحدثت معه عن جيمس جويس كان عندي فهم ضبابي للغاية عن هذا الكاتب المحير، معلوماتي مستمدة من مقدمة مسرحيته " المنفيون " كنت ارددها امام المترجم القدير مثل الببغاء، اضافة الى انني لم اقرأ من رواية " عولس " سوى صفحات قليلة. كنت اريد ان اقول شيئا لا يكشف عن جهلي ويظهر انني قارئ جيد، كما افعل مع معظم زبائن المكتبة، حدق في الكتب المرصوصة على احد الرفوف، كما لو كان يدرك جيدا انني وفعت في مأزق مع هذه الرواية قائلاً: من الصعب وضع طريقه لقراءة رواية مثل يوليسيس. قد يكون من الأسهل قراءة فصل واحد في كل مرة، مع مراجعة لادب جويس . فلت له: إلا يمكنك قراءتها بالكامل، قال وهو يمد يده لسحب احد الكتب : يعتمد ذلك على مدى قدرة دماغك على استيعاب الرواية. ثم اضاف : الترجمة التي نشرت للرواية ليست كاملة، أنها طويلة جداً، إنها رواية استثنائية لانها تروي لنا احداث يوم واحد فقط. بعدها قدم لي نصيحته الذهبية اقرأها باعتبارها رواية، صحيح انها معقدة بموضوعاتها، فهي وقبل كل شيء درس كبير في الاتقان الفني، إذا لم تتمكن من اكتشاف روعة الجانب الفني فيها، عليك ان تتركها لتعود لها بعد ان تصبح ناضجا. استغرق الأمر مني سنوات حتى اصبح قارئا ناضجا، واعود من جديد الى يوليسيس وهذه المرة بترجمة طه محمود طه، والذي اتحفنا قبل صدور ترجمته بموسوعة ثمينة عن جويس واعماله كانت مفتاحا للدخول الى يوليسيس من جديد رغم ان المترجم طه محمود طه ينبهني الى ان " عوليس " رغم انها لا تزال تثير اهتمام النقاد والادباء وحجزت لها مكانا في بحوث علم النفس، فانها تحتاج الى مفاتيح ليتمنك القارئ من الخوض في هذه المتاهة التي ما زالت ترفض البوح باسرارها. اعود الى يوسف عبد المسيج ثروت وهو يقدم لي نصيحة جديدة خلاصتها ان القراءة الجيدة لعمل مثل يوليسيس يتطلب البطء والتركيز، فالقارئ الجيد هو من لا يفوته شيء في النص. واضاف ان مثل هذا القارئ يتوقف عند كل كلمة أو عبارة ذات دلالة، وينظر إلى ما قبلها وما بعدها بيقظة، عليه ان يكون حريصا على ان لا يباغته الكاتب فيمرر عليه اشياء في غفلة منه. يصف نيتشه القارئ المثالي بانه شديد الفضول. في الترجمة الاخيرة التي قام بها الشاعر والمترجم القدير صلاح نيازي يضع عبارة مهمة "بالبحث المتأني تجد طريقك الى جيمس جويس ". يكتب جويس  انه استقى نظريته في الكتابة من جملة لتوما الاكويني يقول فيها :" ان الاشياء الثلاثة التي ينبغي توفرها في الجمال هي : الاكتمال.. التوافق.. الاشعاع ".عندما أعدت قراءة " يوليسيس " بترجمة صلاح نيازي وقعت تجت تاثير سحر ابطالها، وكنت الآن ارى دبلن التي يعيد جويس بنائها، شارع شارعا، قال جيمس جويس إن إعادة بناء دبلن اذا دُمرّت يوماً، يمكن ان تتم من خلال روايته " يوليسيس". اكتشفت انني عندما قرأتها للمرة الاولى لم اكن قادرا على ممارسة القراءة البطيئة، ولم اكن أريد اصلا أن امارسها، وكنت اشعر بالضيق حين اكتشف ان هذه الرواية ليست عملا واقعيا مسليا. لكن هل كانت قراءاتي آنذاك خاطئة ؟، اعترف يانني اشعرفي مرات كثيرة بشيء من الحنين عندما اتذكر ذلك المراهق وهو يصدق كل ما يقرأه، يكتب جيمس ميلر :" ان لم يقرأ المرء العمل الادبي قراءة بريئة اولاً، فهو يحرم العمل مقدما من فرصة في ان يكون له تاثير ذو قيمة على القارئ " – عن الادب ترجمة سمر طابه -.  

يعتبر كثيرون "يوليسيس" رواية القرن العشرين، وفيها اختار جويس ثلاث شخصيات تعمق في تصوير حياتها خلال احداث يوم واحد.

في النهاية إذا اردت ان تصبح قارئاً جيدا، عليك أن تكون اكثر شبها بجيمس جويس وهو يصر على اتقان الكتابة الجيدة. انه درس تعلمته ببطء وعلى مدى اكثر من اربعين عاما.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم