شهادات ومذكرات

قاسم حسين صالح: د. صالح الطائي داعية العقيدة العلمي (2)

تعرّف (العقيدة) بأنها المعلومات التي تربط بالعقل ويتقبّلها ويعتقد بها بنحو قطعي يقيني، فتصبح محكمة ومشدودة ومربوطة، لأنها ماخوذة من الفعل (عقد) الذي يعني الاحكام والشد والربط كقولك (عقدت الحبل). ويضيف الفقهاء بان العقيدة الصحيحة هي الثوابت العلمية والعملية التي يجزم ويوقن بها المسلم. ويحددون جوهر العقيدة الاسلامية بـ(التوحيد) الذي اتخذوه عنوانا لعلم العقائد كلها. ويرى آخرون ان العقيدة هي ما يعقد عليه الانسان قلبه، ويؤمن به ايمانا جازما ، ويتخذه مذهبا ودينا يدين به. ويرى فريق آخر بان العقيدة تعني الايمان الجازم، والحكم القاطع الذي لا يتطرق اليه شك، وانها ما يؤمن به الانسان ويعقد عليه ضميره، وتطمئن اليها نفسه ، ويتخذها مذهبا ودينا بغض النظر عن صحتها من عدمها.. فيما يرى الدكتور صالح أن العقيدة في اللغة منحوتة من الفعل (ع ق د) في قولهم عَقَدَ البيع، وعَقد اليمين بمعنى: وثقّه وأكده. ويضيف بأن الاعتقاد هو التصديق، والتصديق هو الإيمان، والإيمان يعطي المعنى الاصطلاحي للعقيدة، ومعناه التصور اليقيني عن الخالق والمخلوق (الكون/الإنسان/ الحياة/ الموت/ النشور/البعث الجزاء. ويتفق معهم بأن جوهر العقيدة هو (التوحيد).

و(العقيدة) لها اكثر من معنى، فهي تعني فلسفيا وسياسيا وتعليميا (ايديولوجية).. وتتعدد افكارها من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، ومن الغيب المطلق الى العلم المطلق.لكن العقيدة ان ارتبطت بالدين فانها تخص (الله) والكون والوجود والحياة والموت.. وما له علاقة بها وما بينها.

ومع كثير من آراء أخرى بعضها يعتبر العقيدة ضرورة عيش وبعضهم يراها وهما، فأن خلاصة ما يقصده العلماء والفقهاء والدكتور صالح بـ(العقيدة) هي الفكرة التي يؤمن بها الأنسان وتتجسد في سلوكه، افعاله، تصرفاته.. وطريقة تعامله مع الناس.وقد تكون الفكرة (العقيدة) صحيحة وقد تكون خاطئة، وقد تكون حقا وقد تكون باطلا.. لكن صاحبها يعتبرها صحيحة وحقا.. ما يعني سيكولوجيا ان المؤمنين بالعقيدة يتوزعون على صنفين:

الأول، صنف يتطابق سلوكه، افعاله، تصرفاته مع محتوى عقيدته، سواء ذلك كان حقا (عمر بن الخطاب، وعلي بن ابي طالب) مثالا، او باطلا (بن لادن، وابو بكر البغدادي) مثالا.

والثاني، صنف يتناقض سلوكه ، تصرفاته، افعاله مع ما تدعو له عقيدته.. يجسده قادة احزاب الاسلام السياسي الذين استلموا الحكم في عدد من الدول العربية، وعملوا بالضد من تعاليم الشريعة الأسلامية بأن استفردوا بالسلطة والثروة.

العقائد.. والحروب الكبيرة

تفيد قراءتنا للتاريخ ان (العقائد الدينية) كانت هي السبب في نشوب حروب كبيرة راح ضحيتها مئات الملايين.. افدحها ما حصل بين المسيحيين الكاثوليك والبروستانت بين (1618- 1648) من حروب شرسة راح ضحيتها اكثر من ثمانية مليون قتيلا ، وآخرها ما حصل في العراق بين عامي (2006 - 2008) واصطلح سياسيا واعلاميا على تسميتها (حرب طائفية) فيما هي في جوهرها (حرب معتقدات) وصل عدد ضحاياه في يوم واحد من شهر تموز 2007 (مئة) قتيلا، ولسبب في منتهى السخافة ، ما اذا كان الآخر اسمه (حيدر او عمر!).

من هذا الأدراك ، كان توجه الدكتور صالح الطائي لأعادة قراءة العقيدة في الأسلام، ومن معرفته الغزيرة بتنوع المعتقدات بين المذاهب الأسلامية. فعلى سبيل المثال هناك اكثر من ثمان مدارس وفرق اسلامية بينها: المعتزلة، الأشعرية، الظاهرية، الأثرية، المرجئة، الكرامية، الأثنا عشرية.

اوائل من نقد المعتقدات

يعد ّ المعتزلة (ظهروا بداية القرن الثاني الهجري في البصرة) من اوائل الذين (تمردّوا) على ما يعدّه كبار علماء المسلمين خروجا على المعتقدات، وأول من قام بتفعيل للعقل الأسلامي في حرية التفكير وتغليب (العقل على النقل)، وأول من تجرأ على نقد العقائد التي تعتمد التقديس والتسليم بما يعدّ تراثا، مستخدمة المنطق في نقد قضايا دينية وحياتية يومية. وامتازت بأن اعتمدت خمس عقائد: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ويقصد به فكرة الموقف من الحاكم الجائر.. الفاسق هل يجب القيام عليه او السكوت عنه والخضوع له.

وثاني من نقد العقائد في الاسلام هم (القرامطة) الذين حظوا باهتمام كبير من الكتّاب العرب والأجانب ووضعوهم في موقفين متضادين:

الأول، يعتبرهم زنادقة وكفرة اعتمدوا عقيدة اخفاء ما يؤمنون به واظهار انفسهم انهم مسلمون. والثاني يعتبرهم اول حركة اشتراكية في الأسلام، وأن قرمط .. مؤسس مذهب القرامطة وصف بأن افكاره مشابهة لافكار ماركس. وان القرامطة هم (شيوعيو الأسلام) بوصف المفكر الأيطالي بندلي جوزي، فيما نرى أن افكار قرمط كانت اكثر عملية في التطبيق من افكار ماركس الذي جاء بعده بمئات السنين. وما ميز قرمط (الذي كان يشتغل بترقيع اكياس الطحين واسس مع ابو سعيد الجنابي دولة القرامطة في البحرين " 855- 924 م") انه كان من صنف الذين تتطابق افعاله مع اقواله في تحقيق العقائد الأسلامية الداعية الى العدالة الأجتماعية، لدرجة انه طلب من اتباعه التنازل عن ممتلكاتهم لصالح الجماعة، وان يتبرع كل واحد منهم بدينار، فاستجابوا لأنهم كانوا واثقين من انه سينفقها على الفقراء. والأهم عقائديا وسيكولوجيا في هذا الأجراء هو ان العقيدة التي تنمّي شعور الجميع بالشراكة في المال، تنمّي لديهم الأدراك بأن القوة الأقتصادية هي السبيل الى النصر.

وثالث الذين احدثوا التغيير في محتوى العقائد وطرائق التفكير هم اخوان الصفا (ظهروا في البصرة في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي) واعظم انجاز احدثوه انهم استوعبوا الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية وعملوا العقل فيها لينتجوا منها فلسفة اسلامية هدفت الى التقريب بين الاديان والفلسفة. وبغض النظر عن مواقف علماء الاسلام التقليديين الذين وصفوهم بالهرطقة والالحاد والزندقة فان ما يعجبك فيهم انهم كتبوا في وصف الناس ما يعد سابقة في علم النفس كقولهم في الصداقة:

(واعلم بأن بين الناس من هو مطبوع على خلق واحد او عدة اخلاق محمودة ومذمومة .. وان بين الناس من يتشكل بشكل الصديق ويتدلس عليك بشبه الموافق، ويظهر لك المحبة وخلافها في صدره وضميره). ومن جميل ما قالوا وينطبق على واقعنا الان: (واعلم ان في الناموس اقواما يتشبهون بأهل العلم ويدلسون بأهل الدين :لا الفلسفة يعرفونها ، ولا الشريعة يحققونها، ويدّعون مع هذا معرفة حقائق الاشياء.. وهم لا يعرفون انفسهم التي هي اقرب الاشياء اليهم).

طبعا ، ليس بمستطاع الدكتور صالح الطائي ان يكون مثل الحسن البصري فيؤسس فرقة ويقيم مجالسا في الكوت كمجالس البصري في البصرة. ولا مثل حمدان بن الأشعث (قرمط) فيؤسس فرقة ويقيم دولة (ويا ويله حتى لو فكّر!)، ولا مثل اخوان الصفا.. فيتسابقون على وصفه بالألحاد والزندقة والتبشير بأن من يقتله يدخل الجنة.. لكنه يستطيع ان يحدث نقلة او تغييرا، او دافعا نحو اعادة النظر بالعقائد في الاسلام ومذاهبه.. بمنظور علمي معاصر وطرح يناسب سيكولوجية الشخصية العراقية.. مع مفارقة مدهشة: ان المعتزلة والقرامطة وأخوان الصفا .. شيعة، وان الدكتور صالح الطائي.. شيعي ايضا!.. لكن موقفه ومواقفهم من (العقيدة) مختلف.

العقيدة.. من منظور الطائي

يتفق الدكتور صالح مع علماء الدين الأسلامي بأن جوهر العقيدة هو (التوحيد).لكنه يرى أن للتوحيد مبان أساسية يقوم عليها يوجز اهمها باحترام: الذات، والموجودات، و الآخر ومعتقده، طالما أنه يلتقي معك في الهدف الأسمى (التوحيد)، فيما يرى في الفرعيات انها نتاج مسائل معقدة من أهمها أثر الارتباط بالدنيا على الإنسان، اذ يرى ان الأنسان كلما كان قريبا من الدنيا مشغولا بها مهتما بتحصيلها.. كان بعيدا عن روح التوحيد، وكلما وظف هذه المخرجات لاستحصال الخير والمنفعة للجميع دون تمييز، كان أقرب للوحدانية بل ومنغمسا فيها إلى حد الشوق.

ويجري الطائي مطابقة بين ما قاله وبين نفسه فيجد انه (إنسانا عقائديا طالما أني وظفت المخرجات لخدمة هدف إنساني لا أبغي من وراءه نفعا شخصيا أو مكسبا دنيويا.)

وحين تسأله : وأين تضع عقيدتك في الكون؟ فأنه يجيبك: (الذي أعتقده أنها قربتني من جميع الثقافات التي أصبحت احترمها مثلما أحترم ثقافتي).

ذلك ان صالح يؤمن أن كل صاحب عقيدة مهما كان نوعها ومهما كانت تصوراتها عن الكون واللاهوت إنما هو كرة صغيرة وضعتها الدنيا على محيط دائرة عظيمة يقف عليه الجميع دون استثناء، وكل واحد منهم اختار له مسارا محددا يسعى من خلاله للوصول إلى المركز.

ويحدد صالح موضوع الأختلاف في (المركز).. فالآخر قد لا يؤمن بوجود شيء أو قوة عظمى في المركز فيما يقينه هو يدله على أن (الله) هو المركز، ويضع له احتمالين: فإن كان الله يجزي على المشقات التي تحملناها في سيرنا إليه فانه سيكون من الفائزين، والآخرمن الخاسرين.وان لم تكن هناك قوة فانه قد يتعادل مع الآخر او يكون هو خاسرا وخصمه فائزا.. ليصل الى مبتغاه الأنساني المتحضر بأن العقيدة التي لا تترجم إنسانيتك ليست عقيدة صحيحة، والعقيدة التي لا تجعلك تحترم الآخر (المؤمن والملحد) ليست عقيدة صحيحة.

ويقر الطائي بأن الكهنة ورجال الدين لهم رأي آخر يتقاطع مع هذه الرؤية، وانه غير معني بما يفكرون!.ويستشهد بما حصل في العراق بعد 2006 معتبرا ان العقائد الصحيحة بريئة من كل ما حصل ولا يد لها فيه ولا تقره ولا تشجعه ولا تشرعنه بالمرة.ويصف الذين حملوا السلاح تحت راية (الله أكبر) بانهم لا يعرفون الله، وأنهم (من أصنام الإسلام السياسي الراديكالي المنحرف الذي صادر الدين وروح العقيدة).

ويذكّر بان الذي حصل بالعراق بعد 2006 كان قد حصل في العام السادس للهجرة، وانه اذا كانت هناك في هذا التاريخ مدرسة واحدة فإن المدارس الأخرى ولدت من رحمها وتحمل نفس توجهاتها ولكن بالضد. ويقرر بأن الذين أيدوا معاوية والذين أيدوا أعداءه.. كلهم واهمون، ولا يرتبطون بروح العقيدة، وقد حاول علي بن أبي طالب أن يوضح لهم وهمهم ولكنهم حاربوه وقتلوه.

القضية الأهم ان الدكتور صالح الطائي الذي وصفناه بانه (داعية التنوير الإسلامي العلمي) التقط أخطر إشكالية فكرية هي (النص المقدس) ليحلل ويناقش أثره في صناعة:(عقيدة التكفير، عقيدة التهجير، عقيدة المثلة وقتل البشر، وعقيدة قتل المرتد).و انه اثبت أن كل هذه العقائد التي تؤمن بها المذاهب الإسلامية على اختلافها إيمانا منقطعا، وترفض مناقشتها تحت اي ظرف.. لا أصل ولا اساس لها في العقيدة! وانها ولدت بسبب المماحكة والتنافس بين المذاهب وبتأثير سياسي خالص، قاده الاسلام السياسي.. وتصريحه العلني بـأن (الدين الذي نتعبد به اليوم ليس الدين الذي جاء به محمد، لأنه تعرض الى كثير من التغيير الذي تسبب في تشويه صورته الإنسانية).

وما نرجوه ونأمله، ان تمنح المنابر الدينية والجامعات الأسلامية والأعلام.. الفرصة للدكتور صالح لأشاعة التنوير العلمي في اخطر سبب راح ضحيته مئات الملايين (العقائد الدينية والمذهبية) التي ما تزال تهدد العراق باقامة دولة الخلافة، وما يزال العراقيون يسكن قلوبهم الخوف والقلق من أن يعيد قدح زنادها من اشعل فتيلها لحظة يشعرون بخطر يهدد مصالحهم وامتيازاتهم وتفردهم بالسلطة والثروة، ليهب لنصرتهم قطعان آمنوا بعقيدة (دينية، مذهبية) دون تفكير، فيفزعون لنصرتهم مع انهم يعرفون انهم افقروهم واذلوهم.. وتلك هي دعوة الدكتور صالح عبد حسن الطائي، ان نفهم العقائد كما جاء بها صحيح الأسلام ليعيش العراقيون في وطن يمتلك كل المقومات لأن يعيش اهله برفاهية وكرامة.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم