شهادات ومذكرات

طه جزّاع: قرندل الذي يدِقُ الكبة ولا يأكل

في مثل يومنا هذا من شهر تموز 2007 غادر عالمنا مدني صالح عن 75 عاماً، لكنه مازال يشغل المشهد الفلسفي والثقافي، وبقيت مقالاته ومقولاته ومقاماته وبحوثه وكتبه في الفلسفة والأدب والنقد والدرس الأكاديمي محط اهتمام تلامذته في الندوات والمؤتمرات الفلسفية وعلى صفحات الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية، وكثيراً ما كانت حياته وفلسفته ومواقفه مدار الحديث والاستذكار في مجالسهم الخاصة والعامة، فالرجل الذي كان في حياته بعيداً متعففاً عن الاحتفاء والاحتفال بشخصه، مكتفياً بنفسه عن الغير، آنفاً من دون تكبر، متواضعاً من دون ضعف، قوياً من دون طغيان، لم يكن يرغب أن يكون في موضع الاحتفاء والتكريم، ومدح المادحين، انسجاماً مع قناعته التي مفادها: الاكتفاء بالذات وحدها.. وذات مرة اعتذر عن حضور مناسبة احتفالية، فكتب لي رسالة قال فيها: وأرجو منكم أن تقبلوا مني استغلال هذه المناسبة لإعادة الاعلان عن نفسي بأني غير احتفالي غير منبري غير خطابي، إلاّ الاحتفال الدائم بالاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير.. لم يخرج عن ذلك إلا مرة واحدة حين دعوته للكتابة في جريدة الزوراء، وكنا في العام 1998 حين زارني يوماً ومعه مقاله الأول، وطلب مني بوضوح أن أقدمه للقراء بما يشبه « الزفة « احتفاءً وفرحاً بإطلالته عليهم بعد طول اعتكاف.

ومنذ رحيله، كُتبت العديد من المقالات والانطباعات، سواء من تلامذته المباشرين أو غير المباشرين، أو من عموم الكتاب والمتفلسفين ممن قرأوه أو سمعوا به أو صادفوه يوماً هنا أو هناك، وكلها تأتي في باب المديح والعجب والتعجب من هذا الرجل الظاهرة الذي تم الاحتفاء به بعد رحيله حين لم يرغب بالاحتفاء به في حياته، ومما أذكره أنه أُخبر يوماً أن هناك فكرة لإطلاق اسمه على مدرسة في الرمادي لكونه قد أكمل الدراسة الثانوية فيها، فما استساغها ولا تقبلها ولا شجعها، إنما سخر من هذه الفكرة ورفضها بشدة، وتهكم من واقع يحتفي بإسمه، وهو معتكف في غرفة متواضعة بقسم الفلسفة، شأنه شأن قرندل الذي هو من صنف «الذين يدقون الكبة ولا يأكلون، والذين يلطمون ولا يأكلون، والذين يزرعون ولا يحصدون».. ويعرف تلامذة مدني صالح المقربون أنه لم يكن في الصف الدراسي خطيباً، ولا متجبراً، ولا عنيفاً، ولا متسلطاً، ولا هازئاً، إلا من أولئك الذين يأكلون من دون أن يدقون، أو يلطمون، أو يزرعون، لذلك قَرَب إليه من تلامذته أولئك الذين كانوا ينتمون إلى الصنف القرندلي يومذاك، وهم أقرب الأصناف إلى نفسه، لأنهم يدقون ويلطمون ويزرعون، بلا ضجيج، ولا مباهاة، ولا ادعاء، ولا تزاحم على المكاسب والمراتب.. شأنهم شأن الذين يحضرون في موسم الزرع، ويغيبون في موسم الحصاد، أو هم من أخوة الحاج عَذاب/ فرايدي بمواجهة الصاحب المستر روبنصن كروزو المتفوق على الحاج فرايدي وعلى قرندل! .. « ومثلما يأكل روبنصن كروزو من مال فرايدي ويطعمه منه متفضلاً يأكل الصاحب المستر من مال الحاج عذاب ويطعمه منه متفضلاً «.. وبعد أن غاب مدني عن مسرح الحياة، طفحت بيادرهم في مواسم الحصاد، وفاءً وتبجيلاً لمعلمهم الروحي الذي ما كان ليسمح للقرندليين وهو حي، بحمل مناجلهم في مواسم الحصاد، تعففاً، وتواضعاً، وزهداً، واكتفاءً بالذات عن الغير، فقد حصد بعد رحيله ما لم يحصده غيره، وحصاده كان بمناجل تلامذته الذين أحبوه بتطرف، والتطرف هو: « سيد المواقف كلها في الصدق وأن تصدق الصدق كله، وفي الوفاء وأن تفي الوفاء كله، وفي الإخلاص وأن تخلص الإخلاص كله، وفي الحب وأن تحب الحب كله.. وإلا صرنا صيارفة في الصدق وفي الوفاء وفي الإخلاص وفي الحب، وصرنا صيارفة ضد كل طبائع الفضيلة والعدل والجمال ومنطق الاخلاق»  على رأي مدني صالح.

***

طه جزّاع – أستاذ فلسفة / بغداد

في المثقف اليوم