نصوص أدبية

ليتنا كنا حمامتين

صالح البياتيجاء الأب فإنتقلنا لغرفة الجلوس، كنت اريد ان اطلب يدها منه، ولدي أحساس انها ستوافق، وأنها تنتظر مني القيام بالخطوة الأولى، ولكن كنت متردد بنفس الوقت، لأنها اصغر مني بعقد ونصف، الفرصة مواتية الليلة لإعلان خطوبتنا،  فقد شجعتني امي، وإزداد إعجابي بها، بعد الحوار الذي دار بيننا قبل مجئ ابيها، قررت ألا أفوت الفرصة، التي قد لا تتكرر مرة أخرى. فقلت:

" عمي، اتشرف بطلب يد كريمتكم، الآنسة سيناء، ويسعدني قبل كل شئ أن أحظى بقبولكم، ولكن أحب أن أسمع رأيها مباشرة، أحب أن يكون القبول أو الرفض نابع من إرادة حرة، ورغبة بالزواج مني، وليس نتيجة للظروف الشاذة التي نمر فيها.."

ساد بيننا صمت متوتر، شعرت أن كلامي لم يكن مسبوكا بشكل جيد، ويخلو من اللباقة والكياسة، أو الأسلوب الفني المتعارف عليه في مثل هذه المواقف الدقيقة.

" فيما يخصني كأب، أقول، يشرفني أن تصبح صهري، أما بالنسبة لسيناء،  فهي الوحيدة التي لها الحق أن تجيب عن السؤال الذي يخصها. نظرت سيناء لأبيها نظرة مليئة بالود والإعجاب. تكلمت بهدوء وثقة كبيرة بالنفس، لم تتصنع الحياء كما تفعل بعض الفتيات.

" قبل أن تبدأ الأزمة، كان ابي يرغب أن تتقدم لخطبتي، وبعد أن وجدني لا أعترض، تكلم مع العم موسى الكيال كما علمت أخيراً، ليعرف بشكل عام تطلعك ونيتك للزواج، أنا نفسي لا أحب أن يكون الزواج نتيجة لظروف قسرية، فرضت علينا فرضا، أو أن يكون سعياً لتحقيق هدف معين."

" حسنٌ، هل لا زالت حالة عدم الإعتراض التي تكلمت عنها قائمة الى الأن؟" توردت وجنتي سيناء خجلاً، لأني فاجأتها مباشرة وأمام والدها.. ظلت صامتة لا تتكلم، فقال العم سبتي ملاطفاً

" السكوت علامة الرضا، هذا هو الجواب، هل اقتنعت الآن."

" تماما، لأقم أدخل الفرح على قلب أمي."

كانت أمي لا تزال صاحية تستمع لما كان يدور بيننا من حديث، قبلتُ رأسها، وقلت لها افرحي يا أم نوح بزواج ابنك أخيراً، ولتذهب الدكتوراه الى الجحيم. قامت أمي وسلمت على الحاج سبتي وشكرته، وقبلت سيناء فردت قبلتها وتعانقتا هنيهة، ثم جلسنا لنحتفي بهذه المناسبة، بشرب الشاي الساخن بإستكانات صغيرة، أعدتها لنا سيناء بطريقتها المميزة، بتحضير الشاي بنكهة حب الهال، الذي فاحت رائحته العطرة في أرجاء الصالة، واتفقنا على الذهاب غداً صباحا لشارع النهر لشراء خاتمي الخطوبة، وأن نلتقي بعد الظهر للغداء في مطعم قريب من مكان إقامتنا..

قضيت ليلتي مسهدا ولكن سعيداً في آن، أفكر بسيناء التي صدمني ذكاؤها وفطنتها في إدارة الحديث، وأفكر أيضاً بما ستؤول اليه الأمور إذا اشتعلت الحرب وبمصير الكيال، وبرسالته التي لم أفتحها بعد، وبوعده إن يتصل بي بطريقة أو بأخرى حالما يصل الى إيران، وفكرت:

لا بد أنه وصل الآن، لقد مر أكثر من إسبوع على اجتماع غرفة تجارة بغداد، وربما يحاول الاتصال بي دون جدوى..

قررت أن أترك الحزب الذي انتميت اليه من اجل بعثة دراسية للخارج، وأن استقيل من وظيفتي في البنك، واشتغل في الأعمال الحرة..

ولكن تصاعد صيحات الحرب، كنباح كلاب لا ينقطع، أربكني، حاولت بكل ما أوتيت من قوة، إيقاف تأثيرها على علاقتنا العاطفية، التي بدأت تنمو بسرعة، بقيت ساهرا أقلب الأمر على أوجهه المختلفة، فأرى كل وجه أشد قتامة من الآخر، حتى أصابني الأعياء، وكرهت الحياة التي عقدتها السياسة وأفسدتها الأطماع، وطمستْ وشوهتْ كل شيء جميل وخير فيها، حتى غدت شيئا آخر مختلفا تماما، عقابا وعبثاً وعبءً ثقيلا، ولكن الأمل بحياة سعيدة مع سيناء خفف من وطأة هذا التشاؤم..

في صباح صيفي حار، كان هواء الغرفة خانقا وراكدا، وكانت أمي مستلقية على السرير، ومن النافذة تسللت أشعة الشمس، فتلألأت حبات العرق من جبينها الأبيض وبين مفرق شعرها كاللآلئ الصافية..

كانت جلسات الإشعاع في مستشفى الطب الذري بين يوم وأخر، وستكون أمي مسرورة غداً، لا نها لن تضطر للذهاب لجلسة شعاعية مرهقة، وسنقضي يوما ممتعا بالذهاب لشارع النهر، لاختيار خاتمي الخطوبة، ثم العودة للشقة للاستراحة قليلاً، ريثما يأتي العم سبتي ليكتمل شملنا، وبعدها نخرج لتناول طعام الغداء، في أحد المطاعم على شاطئ الأعظمية الجميل..

في صباح اليوم التالي، حكت لي أمي ما رأت في المنام، وقد انشرح صدرها وهي تتكلم بهدوء، شعرتُ أن دفقة فرح طارئ غمر وجهها بالنور، رأيته يشع عذباً ناعما كالحرير، قالت، طاف عليَّ ليلة البارحة الأمام موسى الكاظم، مرحبا بإسمه، فشكوت معاناتي من آلامي الفظيعة، فقال لا باس عليك، لقد عانيت كثيراً في حياتك، ولكن سترتاحين قريباً، وسألني عن مكان سكني الآن، فأخبرته، فقال انت قرب الأمام أبي حنيفة النعمان، أذهبي لزيارته، وقولي له، "الأمام يُقرئك السلام" واختفى كما ظهر أول مرة، نوراً مرَّ خاطفاً، أمام عيني اللتين كانتا لا تفارقانه..

"سنزوره بني.؟"

في ضحى يوم جمعة، أدت أمي الزيارة، لمرقد الإمام أبو حنيفة النعمان، وقفت بطول قامتها، عند الشباك الذي يضم الضريح، المزين بكرات فضية، كالتي رأيناها في مرقد الإمام الكاظم، أطبقت امي أصابعها المعروقة على اثنتين منهما، نقلت اليه بصوت خفيض مرتجف، سلام الأمام الكاظم، قالت: الإمام يُقرئك السلام، رفعت يديها وقرأت فاتحة الكتاب، وترحمت عليه، ثم تنحت جالسة في أحد الأركان، خرجت أنا من الباب الداخلية للضريح، وأرسلت نظري بعيداً الى الضفة الأخرى من النهر، حيث تُرى منائر الكاظمية الذهبية، تتماهي مع شعاع شمس الظهيرة، لا يفصلها عن المكان الذي كنت أقف فيه، سوى الماء الجاري، الذي يسميه المندائيين، اليردنة، رأيت الجروف الطينية العالية، والجزر الرميلة، التي تظهر كل سنة في فصل الصيف، تحط عليها النوارس، بدت لي من بعيد، كغيمة بيضاء، ورأيت سرب حمائم تحلق عاليا في مجموعة متناسقة، تطير بين ضفتي النهر، فتقطعه ثم تعود كرة آخرى، هكذا لعدة أشواط من الطيران المتواصل، ولكنها تنحرف لأقصى الشرق عندما تقترب من مجمع المخابرات عند رقبة الجسر، وفي المرة الأخيرة تنهي استعراضها الرائع، وتنزل على أسطح البيوت وتختفي. كنت أراقبها طوال الوقت، فقلت أحدث نفسي، ربما تلك الحمائم الوادعة أذكى من الإنسان، فهي تتجنب الطيران فوق المجمع، قد يكون ذلك لتجربة سابقة مرت بها، حينما كانت تحلق فوقه، فسمعت صوت إطلاقات نارية، أرعبتها فكفت عن الطيران فوقه تجنبا للخطر..

 وعند الليل، قصدت الجامع، كانت معي سيناء، وكان الجو في تلك الليلة الصائفة حارا، تلطفه نسمات باردة، تهب من النهر القريب، كانت أعمدة النور العالية، تحيل المكان الى نهار ساطع، تنير الأروقة والصحن الواسع، حتى رصيف الشارع، امتلأ الصحن بالزائرين، كنا عند جلوسنا في الشرفة كل أمسية، نرى البرج الاسطواني الشكل، المصنوع من الألمنيوم الذهبي اللون، ونرى الساعة الكبيرة التي تتوج رأسه من جهة الشارع، كان الوقت يشير الى الثامنة، الهدوء والأمان كانا سمة المكان في الليل، قبتان ومنارتان، الواجهة الأمامية عند المدخل عالية، عبارة عن مستطيل كبير بداخله مستطيل أصغر، يشكلان إطارا يمتاز به فن العمارة الإسلامي الرفيع، في بناء الجوامع والأضرحة، وعلى الجانبين، يتكرر الشكل الهندسي المستطيل، ولكن بارتفاع أقل، و ما يميز الجامع أيضاً، الكتابة الضوئية لكلمة الله، وتحتها كلمة النبي محمد بضوء الفلورسنت البراق، تراهما عن بعد، الواجهة العالية والسور الخارجي، كلها مشيدة بالطابوق الذهبي البغدادي الصنع، ومزخرفة بالخزف القاشاني الأزرق الجميل.

تذكرت عندما رأيت الحمائم تعود الى أبراجها ظهيرة اليوم، فقلت لسيناء:

" ليس في هذه الدنيا ما هو أذكى وأروع وأجمل وأنبل وألطف من الحمائم، لأنها أسعد المخلوقات على الإطلاق، فهي تعود لأبراجها آمنة ومطمئنة، ليتنا يا سيناء، كنا حمامتين، وفكرت في نفسي، وليتهما ذكر وأنثى، لتكتمل سعادتنا."

في المساء عندما جلست لوحدي في شرفة الشقة، كنت لا زلت سابحاً في لجة أفكاري، حول ما شاهدته اليوم وقبله منذ أيام، قلت أحدث نفسي، لا بد أن هذه الأضرحة كانت في بداية ظهورها الأول، كسائر القبور، ثم أنها تطورت، فشيدت فوقها قباب متواضعة، ثم مع تقادم الزمن تحولت الى مزارات، للتبرك والسلام على أرواح الثاويين فيها، منذ مئات السنين، وبمحبة صارت مقامات ذوات شأن رفيع، وإلا لما كانت من قبل والى اليوم، مقصداً يشد اليها الرحال، لولا أنها أماكن لرفع أسم الله وأداء الصلاة فيها، للتقرب وطلب الشفاعة والرزق والشفاء.

 

صالح البياتي

حلقة من رواية: بيت الأم

 

 

في نصوص اليوم