نصوص أدبية

قصي الشيخ عسكر: أنا والجار والكلب (3-3)

كان علي أن أكمل اللعبة التي بدأتها. أستطيع أن أتوقف في أية لحظة تعجبني لكني أجد لذة في المضي بعيدا معها.

تشاجرت

ضربت أحدا

ضربني

في الحرب كنت أطلق النار. ربما قتلت. رصاصتي أحدا وربما طاشت، ولا أظنّ أن الجندي أو الضابط الذي قتلته يعرفني حتى يلتقيني في حياة أخرى

أجمل شئ في الحرب أنّ القاتل والمقتول لايعرف أحدهما الآخر

وقد لايفهم أحدهما لغة الآخر فلا انتقام في حياة تالية..

إذن فصل الحرب يُمكِنُ أن يطوى فلا أحد يعرف في أيّ حياة جديدة له من قتله ولا قتل من. وقد جاءت هذه المرّة من رحلتي الطويلة.

هناك شخص أمامي.. شاب مزعج.. وسيم الصورة بذئ اللسان. كنا في الصحراء.. خليط من مصر وتونس والجزائر والمغرب وبعض المشارقة نشتغل في تعدين الحديد، والحرب العراقية الإيرانية في سنتها الثالثة. لا نجتمع إلا في الليل.. يضمنا دهليز طويل.. أسرّة وعند رأس كل سرير خزانة يضع فيها العامل ملابسه، نعمل..

نأكل ونشرب وننام..

في رأس كلّمنا حلم جميل.. أين نذهب بالنقود وهي الصحراء وحدها تمتدّ أمامنا.. كان الجميع يتحدث عن حلمه جهرا.. هناك من يحلم بشقة وزوجة جميلة، خمس سنوات تكفي لأن تصبح غنيّا في بلدك.. أما أنا فكانت أحلامي تختلف عن الآخرين ولم أكن أبوح مافي خيالي لأحد

رتبت الجغرافيا التي تمتد أبعد من الصحراء على وفق هواي

كندا

أمريكا

الدنمارك

ألمانيا..

ستكون رحلتي بهذا الشكل أي بلد من هذه البلدان يقتنصني... لا بأس

كان مدير القاووش الذي يجمعنا يستمع لأحاديثنا ويتعاطف معي. ولم يكن ينغص علي حياتي في القاووش إلا ذلك الشاب المشرقي الوسيم. كل منا يلجأ إلى المذياع الصغير الذي جنب سريره

ولاىشيء سوى حديث الحرب

كان يستفزني إلى أبعد الحدود.. العراقيون الذين غادروا البلد وهم في حالة حرب جبناء. الرئيس صدام بطل العروبة والإسلام.. والله سأجد طريقا يوما ما وأسافر إلى العراق لأحارب.. وفي إحدى الليالي ونحن نلعب الورق سمعته يكلم شابا من فلسطين يقول له بحدة والله لو كان الأمر بيدي لشنقت هؤلاء أخوات القحبة الهاربين من الحرب. حاول جاري الجزائري المعجب بأبو مدين ويدعي أن الجزائر بعد عقد تخرج من الدول النامية إلى المتقدمة، حاول أن يخفف عني، لكن الغضب اجتاح جسدي شعرت برأسي يلتهب يصبح كتلة من نار، فقفزت ناثرا الورق على من حولي واندفعت نحوه:

أنت أخو القحبة. ابن العاهر..

وهكذا جاءت اللكمة في وجهه فترنح وتمايل. رميت بثقلي عليه ورحت أصفعه من دون رحمة

ويبدو أن الحارس الذي عينوه علينا في القاووش كتب إلى الأمن المحلي بالواقعة... الشجار عادي، في ذلك البلد، كثيرا ما كنا نثور ونتشاجر ونشكل تكتلات وصداقات

الحرّ و

والبعوض

وبعض الأفاعي التي تدب في الليل نحو برودة القاووش

والعقارب ومن ثمة الضجر تبدو حوافز للضجر قبل الاغتراب والحنين

وهناك لما حدث الليلة الماضية من شجار طعم آخر، في الصباح جاءت سيارت استدعت إحداهما الطرف الآخر وتحركت في الصحراء بقيت عند مكتب الحارس سيارة أخرى. سائق ورجل أمن. طلب من الحارس الانتظار خارجا وبسط أوراقا أمامي. قال بلهجة ذلك البلد التي لاتُعْرَف أهي جِد أم احتقار؟

لِمَ ضربت ال...

ياسيد

لست سيدا خاطبني بكلمة أخ

يا أخ نحن عرب وأنتم عرب تعرفون ما للشرف من قدر هل تظنني أسامح شخصا يقول. ابن قحبة.. أخو..

لكنه كان يمجد بالطاغية في بلدكم ويعدّه زعيم الأمة ولن نسمح في بلدنا لأحد من العرب أن يمجد قائدا غير أخينا القائد..

أيقنت أن الحارس لم ينس أية كلمة مما سمعه مني أو من الآخر، وربما دوّن ماكان يسمعه من خصمي كل ليلة.. كان يتحدث ببلاهة عن الويسكي ويمكن أن يذهب في العطلة إلى العاصمة فيهربه إلينا من البواخر الأجنبية، أو يصادق إحدى بنات البلد الأكثر تحررا هناك.. ربما ابتسم الحارس وجارى الجميع، قد يدفعه الفضول للعب الورق معنا، ومجاراة الجميع، ولا أشك أنه كتب في مذكرته الجديدة كل مافاه به الخصم من قبل:

كان يتحدث عن الحرب وموقفكم واضح منها.

هذا شخص يأكل من خيرات بلدنا ويشتمنا، والله سوف لن أجعله يرى النور.

هل اكتفيت أخ؟

تفضل وقع.

كان هناك بعض الندم. لم أثر لكونه سب الجميع ومدح رئيس العراق، غضبي انحصر في كلامه البذئ عن الأمهات والأخوات، لقد خجلت حقا ، خجلت إذ وضعت نفسي موضع المخبر ولو لم يكن هناك حارس من أهل البلد لمرّ الأمر بسلام كأيّ شجار، والأدهى أن العيون جميعها بدت تنظر إلي نظرات عتاب كأنها تحملني مسؤولية اختفاء عامل معنا

أكل معنا وشرب

قاسمنا الحر والبعوض والعقارب والحيات

فهل أعود بما حدث في الصحراء ذات يوم إلى السيد مارتن.

4

مرّ على حديثنا في الهاتف بضعة أيام، ثم استقبلني السيد مارتن في بيته، قبل لقائنا أخبرني أنه أرسل تي إلى بيت أخته فسوف يغادر إلى لندن بضعة أيام. الحق لم أرتح للفوضى التي رأيت عليها الصالون بقايا لوز وفستفق على الطاولة المستطيلة وسط الصالون وثمة علبة كوكا كولا وقنينة بيرة فارغة.

فوضى

إهمال

عبث أجمل مافيه أنه ينجلّى في تمثال لبوذا من الفخار اللماع ينتصب على منضدة صغيرة جنب التلفاز بيديه المتشابكتين وعينيه اللتين تشملان العالم بلمحة شاملة بعيدة

كأني شممت رائحة الكلب، أو هو إحساسي الخفي، كان يعود من المطبخ بالقهوة وعلبة من حليب اللوز:

شكرا أشربها سادة

قل ماهو الجديد؟

تذكرت حادثة لي مع شخص. شجار ضربت فيه شابا بقسوة

رائع لعله البداية.

متى حدث ذلك؟

عام 1982 في إحدى الدول العربية.

تناولت رشفة من الفنجان على مضض أو مجاملة فقد زكمتني رائحة البيت والكلب:

إنها حرب الخليج الأولى.

بدا مهووسا بالتفاصيل:

ماهو سبب الشجار؟

كان ذلك الشاب يعد كل من هاجر من العراق خلال الحرب عاهرا ابن عاهر أخا عاهر وتلك إهانة لم أقبلها فوجهت له لكمة قوية بكل ثقلي على فكه. بقبضتي هذه.. ثم جاءت مخابرات البلد الذي نعمل فيه فلم يعجبهم سلوكه لأنه يمجد في شخصا غير زعيمهم

Fantastic

استغربت من انسجامه مع القصة:

حقيقي؟

طبعا.. لعلنا نعثر في قصتك على السبب

ولم هذه الحادثة بالذات؟

هي الأقرب للواقع، راح يضيّق حدقتي عينية، كما لو كان يستعرض الواقعة: وما عرفت عنه فيما بعد؟

يقال إنهم رحلوه أو طردوه.

نسيت أن أسألك عن اسمه هل تتذكره؟

رشاد أنور

فتمتم بعدي بلهجته الإنكليزية وهو يفتح شدقيه مع الحروف فيتقلص مع حركة فمه خده الأيسر:

Rashad Anwar

حسنا ياسيدي سأكتبه لك

لو سمحت

كانت هناك احتمالات تجعلني أظنّ اللعبة لا تطول فصاحبي مثل محقق قدير تتبع الحادثة بوجه واحد، وصاغها حسب رغبته، هاهو يتأمل كلامي ويردد بصوت مهموس رشاد أنور:

هذا كلّ مالدي فهل تجده يستحقّ التأمّل.

طبعا اسمع ياصديقي أنا يهمني كلبي. إنه بمثابة ابني. قد يرحل أبناؤك إلى بلد بعيد، وربما تنفصل عنك زوجتك. الكلبب عندي مثل الابن وفي مبدأ التناسخ أن الأرواح الشريرة تدخل بعد الموت في مخلوقات أقل منها، عقابا لها ، لكي تتطهر وأظن رشاد أنور دخل في جسد تي.

قد أسخر من نهاية اللعبة، وربما تعجبني، هناك واقعتان في حياتي واحدة مع كلب كاد يقتلني والأخرى في أوروبا مع كلب يبدو هادئا مع الجميع ويرحب بكل من يلتقيه ويتنرفز حين يراني، والأدهى نظراته ذات المعنى الغامض لي:

لا أعرف ماذا يجول برأسك فهو مجرد افتراض

إسمع ياصديقي حين أعود من لندن يرجع إلي تي سأخاطبه باسم رشاد أنور وأرى أي انطباع يطرأ عليه؟

أنت تجعلني أشك في أني أنا أو أنت بمستوى كلب أو

فقاطع بضيق: أو حشرة لِمَ لا الطبيعة حسب مبدأ التناسخ تعاملنا من دون فوارق قد ننسى جميع حياتنا الماضية ونحن نعيش حياة جديدة هناك بعض الاستثناءات نتذكر فيها بعض الماضي مثل حالة رشاد أنور.

أضحك في سري في الوقت نفسه أعترف الآن أني انفعلت وكان الأجدر بي ألا ألجأ إلى العنف

لكمتُ رشاد انور وسببت نفيه

أصبح كلبا وبعد سنوات التقاني فعضني

وبعد سنوات أموت فتحل روحي في كائن آخر: من سوء حظّي إني أقرف

أقرف الآن على الأقل من أن أصبح قطا يأكل فأرا

نمرا يفترس خنزيرا

أو أسدا أفترس فرخ الذئب الذي هاجمني عندما كنت طقلا

حيرة فاقعة باهتة

أصبح الحديث معه مملا.. النهاية بهذا الشكل لم تعد تعجبني فنهضت مستأذنا وبسطت إليه يدي

الآن علي أن أغادر

وأنا سأرى إذا ثبت حسب قراءتي أنه رشاد أنور فسأبعثه إلى منظمة الرفق بالحيوان لأنني لا أرغب أن أعيش مع حيوان يتذكر حياته السابقة !

شدّ على يدي فغادرت وقد اكتشفت أني كنت على خطأ فاللعبة التي ظننتها جميلة مليئة بالفنطازيا أصبحت مملة في نهاياتها لاطعم لها.

***

قصي الشيخ عسكر

29\5\2023 الإثنين

انتهيت من الكتابة الساعة 11 ليلا

في نصوص اليوم