نصوص أدبية

ناجي ظاهر: روح الياسمين

أرسلت أمي ذات صباح نظرة ذات معنى، وقالت:

- اسمع يا ولد.

أحسست في صوتها برنة غريبة، لم أسمع مثلها، سوى مرتين في حياتي، كانت الأولى قبل نحو الثلاثة عقود، يوم طلبت مني أن أستيقظ، فاستيقظت لأجد أبي وقد مات. وكانت الثانية يوم أخبرتني أن أختي المقيمة في بلدة أخرى، بعيدة عن الناصرة، قد احترقت.

دقّ قلبي بخشية:

- نعم يا أمي.

- اسمع يا ولدي. لقد كبرت وأنا لا أريد أن أكون عبئًا على أحد. يوم الخميس سأذهب إلى البلدة، سأزور مكتب الشؤون الاجتماعية، وسوف أسأل هناك ما إذا كان بإمكانهم أن يرسلوا إليّ مَن تقوم بمساعدتي. إذا كان بإمكانهم مساعدتي سأبقى في هذا البيت، أما إذا لم يكن بإمكانهم، سوف أطلب أن يأخذوني إلى ملجأ للعجزة، في مدينة طمرة، تأميني الشخصي يغطي تكاليف مكوثي، لا أريد أن أضايق أحدًا. سأبقى هناك حتى أموت.

سكتت أمي وران صمت على الغرفة. فهمت من صوتها أنها تريد أن تقول كلامًا آخر غير ما قالته. ترى ماذا أرادت أن تقول؟ أتراها أرادت أن تمتحن قدرتي على فراقها؟ أم أرادت أن ترسل كتاب عتب إلى أختيّ، المقيمة في بلدة أخرى وتلك المقيمة بالقرب منها، وربما إليّ والي زوجتي المتمرّدة وأخوي وزوجتيهما؟

سألت امي:

- لماذا تقولين هذا الكلام؟

فردّت:

- أنت تعرف أنني قضيت عمري لا أحتاج أحدًا، وها هو المرض يهدمني. عِلة الموت يا ولدي لا علاج لها.

- لكنك مريضة يا أمي، ولست أول مَن يمرض ولا آخر من يمرض. ثم إن الله خلق الطب والدوا.

- أي دوا يا ولدي وأي طب. الموت هو مصير كلّ إنسان.

فهمت ما أرادت أن تقوله، إلا أنني تغابيت شأني في مثل هكذا مواقف:

- أعطني يا أمي يومين أو ثلاثة أيام حتى أفحص ما يمكن أن أفعله.

هزت أمي رأسها علامة الموافقة. وسمعتها وأنا أخرج من بيتها تتمتم كلامًا مفاده: لمن سأتركك يا مُهجة قلبي، لزوجة ظالمة أم لحياة لا طاقة لك بتحمّل ظلمها؟

مضيت أحمل أحزاني وتخوفاتي، مضيت خارجًا من البيت، لا أعرف إلى أين أتجه ولا ماذا أفعل. أمي فجّرت حزنًا خشيت منه طوال أيام حياتي وها هي تدفعه لأن يطرق أبواب قلبي.

سرت في الشارع كان حزينًا إلى أقصى درجات الحزن، مددت دي إلى شجيرة ياسمين استرخت على سور أحاط به الجيران بيتهم. شعرت أن الياسمين حزين. ترى سيأتي يوم أيها الياسمين ولا أراك، ترى أتكون هذه آخر مرة أم من أواخر المرات، لولا وجود أمي في هذا البيت ما أتيت إليه، وما أتيت إلى هذا الحي. وتصوّرت دمعة تهمي من عيني الياسمين، وبغصة في حلقي. إلى أين سأذهب تاركًا هذا الياسمين؟ إلى أين سأذهب. في الماضي كانت هناك شجيرة ياسمين، تسترخي على بيت أصدقاء لي في بلدة مجاورة، بقيت الشجيرة فترة من الزمن بعد رحيل بعضهم عن دنيانا، وبعضهم الآخر عن بلادنا، وبعضهم الآخر إلى عالم الشيخوخة أو المرض. بعد فترة من الزمن جاء من اجتثها، كي يقيم بيتًا جديدًا هناك. صدقيني يا أمي أن الشجيرة ما زالت ماثلة هنا في الذاكرة وان رائحتها ما زالت تعبق في روحي كلّما مررت من هناك. فاطلبي يا أمي من شجيرة الحارة أن تبقى حتى لا تتكرر الأحزان، اطلبي منها أن تتريث قليلًا. اطلبي منها.

ومضيت لا أعرف إلى أين أذهب، وبي رغبة في أن يبقى الياسمين، في أن ينشر رائحته الذكية في البيت والحارة والبلدة. ماذا بإمكاني أن أفعل؟ وإلى أين أذهب في هذا الصباح؟ ماذا أفعل يا إله الكون.. يا فاطر الليل والنهار. ماذا افعل؟ أذهب إلى أختي في البيت القريب؟ أستجديها أن تحدب على أمي كما رعتها أيام كنّا صغارًا؟ أم أذهب إلى زوجة أخي؟ أم أذهب إلى زوجتي؟ إلى أين اذهب وماذا أفعل؟ ماذا افعل وأنا أعرف الأجوبة مسبقًا؟ أأبقى بانتظار أن يأتي يوم الخميس؟ وان تنتهي الأشياء من تلقاء ذاتها؟ أم أحرق روحي رجاء ضوء لا يأتي؟

أعرف أن أمي أرادت أن تحضّرني للحظة الأصعب في حياتي، وإلا لماذا هي اختارتني من بين الجميع لتخبرني بما أخبرتني به؟ أعرف أنني أعزّ عليها وأنها تعيش حتى هذا الوقت، ولم تسأم تكاليف الحياة من أجلي أنا طفلها ابن الستين. هي لم تُخفِ إحساسها وقالت لابنتيّ الشابتين يوم تكرّمتا وزارتاها، إنها تحبني أنا أبوهما، وأنها لولا وجودي إلى جانبها لكانت ماتت منذ فترة بعيدة.. من زماااااان.

يا الله أتكون أمي حملت كلّ هذه الأحزان ولم تُرني بعضها إلا بعد أن هدها المرض؟ أم أنها أرادت أن تقول لجميع أفراد العائلة، إنها عاتبة عليهم، ولا تريد منهم إلا أن يتركوها تغادر عالمهم هذا بصمت؟ بالضبط مثلما عاشت طوال أيامها ولياليها بينهم؟.. ما أقسى هكذا إحساس، ما أقسى أن تكتشف أن إنسانًا عزيزًا عليك يعاني، بعد فترة من المعاناة. آخ يا أمي، ماذا بإمكاني أن أفعل، أنا الرجل المخلوع المُبعد المهزوم ليل نهار، إذا ذهب صدرك من أين أجد صدرًا آخر يتّسع لي، لأحزاني وشقاواتي.

أحقًا أمي تريد أن تحضرني للحظة القاسية المُرّة؟ ولم لا؟ إنها تحبّني ولا تريد أن ترى دمعة في عيني حتى لو كان هذا بعد رحيلها. أنا اعرف كم هي رحيمة بي، وكم يؤلمها ألمي. أعرف هذا جيّدًا. هي إذن تريد أن تكتشف مدى رغبتي في بقائها. كيف غاب هذا عن ذهني المكدود؟ كيف؟ ما أغباني، ما أغبى الإنسان فيّ؟ لماذا لم تخطر في بالي هذه الخاطرة؟ فعلًا أمي تريد أن تعرف مدى رغبتي، أن تمتحن قوة إرادتي، فهل أوافق على أن أبتعد عنها؟.. هل بإمكاني أن أعيش بدونها؟ إذا كان بإمكاني، وهذا يتجلّى في موافقتي على ذهابها إلى مكتب الشؤون الاجتماعية يوم الخميس، فإنها ستذهب من هذا العالم مطمئنة، وإذا لم أوافق، فإنها ستبقى على مضض و.. من أجلي.

في تلك اللحظة فقط، عرفت إلى أين سأذهب، الآن.. الآن وليس غدًا سأذهب إليها، إلى أمي، سأذهب إليها هناك في بيتها، وسأقول لها، أنت لن تتحرّكي من هذا البيت، ستبقين هنا ما بقي الياسمين، وأنا وليس سواي من سيساعدك، أنا مَن سيكون إلى جانبك يا أحب الناس إلى روحي ويا أقربهم إلى قلبي.

***

قصة: ناجي ظاهر

(الناصرة في 23-7-2006)

في نصوص اليوم