آراء

مهدي الصافي: الخطاب السلبي العام في بلادنا

مهدي الصافي(الخطاب الديني والاجتماعي والسياسي وحتى الثقافي)

لايولد الانحطاط الحضاري الا في الامم المنهارة او المهزومة، ولايورث المجتمع الطبائع والاخلاق السيئة الا في البيئات الاسنة، وهي صفة بشرية اجتماعية او سنة كونية، تعالج احيانا قبل فوات الاوان بالانتفاضات والثورات العظيمة او بالمعجزات الخ.

لكل زمن ظروفه الموضوعية الخاصة، تلك التي منها مايتعلق بالتطورات والابتكارات والانجازات العلمية، وبالفكر والفلسفة الابداع، واخرى ترتبط بطبيعة المجتمعات وبالاقتصاد وحركة التجارة والمال والاعمال والتعليم، والقابلية الانسانية للتحضر (اي المتعلقة بقدرة الانسان على التعامل بعقلانية مع التراث او الماضي والحاضر والتفكير بالمستقبل)، وهذا الدوران الزمني لايستثني احد، فلكل الامم والشعوب فرص تأريخية مصيرية للتغير او النهوض، متفاوتة نعم لكنها متاحة للجميع، من يستغلها يبتعد عن الاوحال ويركب سفينة او قطار العبور الى الضفة الثانية، ومن يتخلف عن اغتنامها يدخل في دوامة التيه، تطحنه الاخفاقات والانتكاسات وماكنات الجهل والفوضى...

بلادنا ومجتمعاتنا العربية والاسلامية محاصرة بالخطاب الجاهلي العام، لايرى المسلم اسلاما ناصعا خاليا من التحريف والدس والكذب، بل كما اسميناه سابقا بثقافة الاديان الشعبية، ولايجد نخب اجتماعية تدفع به بعيدا عن التراث القبلي والعشائري المتحجر، المقوض للنهضة المدنية للدولة الحديثة، وكذلك الاخفاقات السياسية الكبيرة في بناء انظمة ديمقراطية تنموية ناجحة، اما فيما يتعلق بتراجع فاعلية النخب او الطبقة المثقفة في صناعة وعي شعبي متقدم، فيرجع الى تأثير المال السلطوي (او الخليجي تحديدا) في انتاج نخب وثقافة رسمية مصطنعة، تمتلك المال والشاشة والاقلام والاعلام، بل واغلب المؤسسات والفعاليات والندوات والمؤتمرات الابداعية مجيرة ومسخرة لخدمة توجهات اصحاب الامول الدعمة لهم (مع انها من المفترض ان تكون مدنية مستقلة)، وهذه الافة لاتقتصر على بلداننا انما اصبحت ظاهرة او حالة عالمية... سنحاول ان نتطرق في هذا الموضوع بشكل مختصر لكل مجال من مجالات الخطاب السلبي العام:

الخطاب الديني: الدين ليس باب لكسب الرزق، واذكر كلام او اعتراف احد رجال الدين (ويكاد يكون الوحيد ممن تكلم بهذا الكلام المباشرمن المسلمين اي الانتقاد الذاتي او الشخصي) بما معناه ان الدين لايحتاج الى مهنة رجل الدين (سواء كان خطيب او فقيه او مرجع او امام جامع)، يتقاضى اجرا على الخطب او المحاضرات الدينية، فهذا الامر لم يفعله الانبياء والرسل ع، ولا ائمة مذاهب المسلمين، ويعدها من الاخطاء الشائعة لكنها مقبولة وتمارس بشكل علني احيانا،

طبيعي هذه ليست نهاية الحقيقة لان تجارة الدين مارستها اغلب المؤسسات الدنية التابعة للاديان السماوية والارضية على مر التاريخ البشري، ولو عدت الى القران الكريم مثلا فالايات تؤكد على مبدأ الثلة والقلة من المؤمنين،

ولكن عندما تنظر الى الواقع، تجد ان اعداد رجال الدين في الوطن العربي والاسلامي كبيرة جدا، ارقاما فلكية غير مسبوقة، وفي زيادة مفرطة باستمرار، وهذا تعارض صريح امام النص القراني، اي لايجوز وفقا للقران الكريم وللعرف ان يرتدي العمامة الدينية (او اللباس المشهور لرجال الدين) من هو غير مشهود له اجتماعيا بالايمان، فكيف يصبح هناك جيش من المعممين والفقهاء والمبلغين (الذين نعتقد انه يفوق عدد رجال الدين المسيحيين في العالم)، ومن الانصاف لابد ان نقول بالفعل كان قبل قرون او حتى عقود عدد رجال الدين المسلمين محدودا واقرب للتعبير القراني، ولكن بعد نجاح الثورة الاسلامية الايرانية، وانتشار التشدد والتطرف الديني في الحروب والمواجهات مع الانظمة العربية والاسلامية المستبدة، والتعبئة الاسلامية التي سخرت للجهاد في افغانستان، فتحت ابواب الدراسة الدينية على مصراعيها، وتحولت بمرور الوقت الى مهنة ووسيلة للمتاجرة، لانه وكما هو معروف ان المؤسسات الدينية تمنع او لنقل لاتشجع طالب العلوم الدينية على العمل وكسب الرزق من عرق جبينه، وهذا امر خاطئ اجبر البعض ممن يحب دراسة تلك العلوم على الانخراط في مسألة تحويلها الى مهنة شبه دائمة،

المهم ان المجتمع الاسلامي يواجه خطاب ديني بائس، يفتقر الى التحليل والاستنتاج والرأي المنطقي العقلي السليم، يهتم بالقشور والمشهور ولايتطرق الى القران والعقائد الاسلامية الاصيلة، لتنقيتها من التحريف والتزييف والاجتهادات او التأويلات الخاطئة، حيث تحول العديد من خطباء المنابر وائمة الجوامع الى حكواتي يستخدم اساليب اللغو والثرثرة، وملاحقة ابسط واتفه التصرفيات والسلوكيات الاجتماعية اليومية المرفوضة، (انتقاد حفلة تخرج لطلاب الجامعة، او الاحتفالات برأس السنة الميلادية، او حفلات غنائية عامة، او الحديث عن لبس الشباب وتسريحات الشعر، التبرج وسفور المرأة، الخ.)، بطريقة سافرة ومتدرجة (بمعنى انه يزحف على الحريات الشخصية باستمرار لانه يبحث عن المواضيع الجديدة لكسر حالة التململ التي قد يصاب بها اتباعه)، وبعض منها فيه تحريض على العنف والارهاب، يتجاوز كل الخطوط والاعتبارات الدستورية والقانونية والاخلاقية دون اكتراث، وكأنه فعلا ممثلا ووكيلا عن الخالق عزوجل على عباده، بينما مايحتاجه المسلم وغير المسلم الاستماع الى القواعد والقوانين الالهية، والقيم الاخلاقية والانسانية التي تدفع بالناس الى الخير والاعمال الصالحة وثقافة التعايش السلمي وقبول حرية الرأي الخ....

الخطاب الاجتماعي: المجتمعات القبلية او العشائرية داخل المدن تعني ببساطة عودتها الى العصور الغابرة، تساهم بتحويلها الى قرى عصرية (اي ترى فيها مظاهر الحضارة التكنولوجية والمدنية لكن الاساس فيها يخضع للاعراف والعادات والقوانين العشائرية)، وهي دليل على غياب وحدة الامة، وضعف الدولة والسلطة القضائية، وهذا يؤكد حاجة ابناء المدن باللجوء الى السلطة العشائرية في الدول والانظمة الفاشلة، اي عندما يكون نظام الحكم بيد مافيات الفساد، وتركيبة الدولة وهيئتها عبارة عن اقطاعيات عائلية ا عشائرية في دولة الزعامات، ينهار المجتمع، وتعجز بعدها المؤسسات الحضارية عن اداء واجباتها ومهامها الرسمية والاخلاقية في انقاذ البلاد والعباد من الفتن والازمات، وهذه التجارب مرت بها اغلب الامم والدول المتحضرة، فهي ليست حالة نادرة او صفة خاصة لامة معينة  (علما ان بعض البيئات يصعب ان تنتقل الى الركب لحضاري كبقية الامم بسبب الموروث المقدس، والتركة الثقيلة المتراكمة من انظمة الاستبداد والتوحش)، مع انه شكل بائس لنموذج كارثي حاولت اغلب الامم او دول العالم الثالث التخلص منه وقبره الى الابد، الا ان قسم منها لازال يرفض الامساك بخيوط الحضارة، جاعلا من كل فعل او عمل ابداعي معين او طريقة جديدة في الحياة عدو خارجي لابد ان يحارب ويمنع بقوة، مستحضرا اساليب الحدود والعقوبات في الاسلام كالرجم والجلد، واتهامات الردة والالحاد والزندقة، غطاءا شرعيا واجتماعيا لاسقاطها على كل مظاهر التطور العلمي والحضاري الحديث، اي كأنه يضع على رأسه عمامة التراث المقدس، لاصدار الاحكام المسبقة المتوارثة لاقصاء ومحاربة التغيير والاصلاح، لايقاف عجلة اعادة الفهم والادراك والتفكير العلمي الخ....

الخطاب السياسي: هو بالاحرى لايوجد خطاب سياسي عربي او اسلامي واضح، فالنخب السياسية لازالت منكمشة وغير جادة في حسم امرها مع ضرورة التحول الى الانظمة الديمقراطية او بناء دولة المؤسسات الديمقراطية المهنية، ولاتملك رؤيا مدنية واضحة لادارة الدولة، لابعاد التأثيرات الخارجية عنها، واستعادة السيادة الوطنية والنفسية لابناء البلد، ولايوجد اي طرح فلسفي او ايديولوجيا علمية للسياسية التنموية الشاملة للدولة والمجتمع، وهي في حالة من التراجع والارباك امام مفهوم علاقة الدين بالدولة، وعاجزة تماما عن التعامل العقلاني مع الحضارة التكنولوجية، والتواصل مع حاجة الشباب والاجيال المتعاقبة الى التغيير، واخراجهم من الانماط الاجتماعية السائدة، ولهذا تجد العوالم الاجتماعية مقسمة بين الثقافات والاراء والتوجهات والطموحات والرغبات، تتلاطم كالامواج فيما بينها، في غياب شبه تام للهوية السائدة المفتوحة او الثقافة العامة للمجتمع....

الخطاب الثقافي:الفلسفة، والفكر، والادب والفنون والابداع والاعلام، والمحاولات الفردية او المؤسساتية للتأسيس لقواعد ثقافية علمية منطقية، ليس لها منظومة قيمية ضابطة او مرجعية فلسفية بارزة او معتمدة، وهناك تشتت وانقسام، وحسابات واعتبارات شخصية او فئوية عالقة في الوجدان المضطرب (وبعضها تنجرف للانتماءات العرقية او الطائفية او الهويات المتعددة الاخرى)، تعمل على تفكيك هذا البناء الهش للثقافة العربية او الاسلامية، التي ظهرت بعد انهيار الامبراطورية العثمانية ورحيل الاستعمار، اذ لايخفى على احد من ان الكثير من المثقفين يحمل الدين الاسلامي او من يمثله، والصراع العربي الاسرائيلي (وظاهرة التطبيع الجديدة)، والتركيبة الاجتماعية القبلية والاثنية، والانظمة الشمولية العنيفة، مسؤولية هذا التراجع الحضاري التي تمر به الامة العربية والاسلامية، وهذا امر نسبي، اي لايمكن ان يتجاهل المثقف الحقيقي مسؤولية الاسرة وانظمة التربية والتعليم، وجميع الفعاليات المؤثرة بثقافة ووعي المجتمع، ومستوى الذكاء والقدرات العقلية والبدنية، ونسب الابداعات والابتكارات العلمية (هل يمكن مثلا مقارنة التجارب الالمانية او اليابانية الناجحة بعد الحرب العالمية الثانية بدول اوربية اخرى لازالت عاجزة عن اللحاق بهما، او بين تجربة نمور اسيا والدول العربية او الافريقية التي ترزح في ذيل قائمة دول العالم الثالث الفاشلة)، وبقية العوامل الخارجية المباشرة (كالحروب والحصار الاقتصادي والتدخلات السافرة في الشؤون الداخلية للبلدان العربية والاسلامية)، من انها تعد من الاخفاقات الذاتية، وهي معاول الهدم الشامل لثقافة وارادة اية امة او شعب، يطمح للنهوض والاستقرار، هذا لاينفي سلبية الخطاب الثقافي الذي رافق تلك التحولات الجذرية للدول العربية الحديثة، فهو ابن البيئة والوعي السطحي (عدا بعض المحاولات الفردية)، انطلق من القواعد الثقافية العامة، تراه تارة يذوب في الفكر الماركسي، يتفاعل بطريقة ساذجة مع الاحزاب الشيوعية، انطلاقة الفقير المحروم المتعطش للحضارة، لكنه اخطأ الطريق وضيع الهدف وتبدلت الغايات، ودخل في صراع داخلي عنيف مع الدين والتراث وعادات وتقاليد المجتمع، كانت سببا في ظهور الاسلام السياسي المتشدد، وتارة اخرى يتجه يمينا، فينتج انظمة شمولية قمعية، واخر تلك الموجات ظهور الحركات الاسلامية الجهادية والارهابية ....

كل عقد يمر من حياة الامم والشعوب تكتشف النخب سلبية الخطاب العام الموجه للمجتمع، لعل مانذكره دائما ان المقارنة العقلانية المنطقية بين الامس واليوم، او بين الماضي والحاضرهي تخضع لمعايير التقييم بين منظومات القيم الانسانية والاخلاقية العقلانية والعلمية الرفيعة، التي تجلب الرفاهية والامن والازدهار للمجتمعات المتحضرة، لا تلك التي ترجعهم الى مربع الجاهلية الاولى، او تفرض عليهم شروط الاستعباد الجديدة للرأسمالية المتوحشة، وتخضعهم للادوات السلطوية الحديثة (شروط يمقراطية مابعد صعود اليمين المتطرف في اوربا ومابعد قيود كورونا)، وبين منظومة القيم القروية او التراثية العقيمة، التي تعرقل مسيرة الشعوب، وتعطل مشروع بناء الدولة الحديثة.

 اللغة بمفهومها الحضاري الواسع هي اساس حضارة الشعوب او العكس (ليس المقصود لغة الشارع انما لغة النخب المثقفة او الخطاب الرسمي للدولة)، تعطي مع بقية الدراسات والبحوث الاجتماعية والنتاجات الثقافية والادبية الدورية الرؤية القريبة من الواقع، وتحدد من خلالها مسارات الوعي للامة، او الانعطافات والانتكاسات الاجتماعية، فهي اساس اي مشروع تنموي، يأخذ بيد الاجيال الى بر الامان، ولكن بشروط عقلانية علمية، لا ان تصبح وسيلة للسلبية والانهزام، وضرورة اجتماعية بدائية، لايتم الاعتناء بها والاستفادة منها، او الاعتماد على مخرجاتها المنطقية، من اجل رفع مستوى التفكير ودرجات الوعي، وجعلها احد اهم اسس المراجعة الفكرية...

هل فكرت الشعوب العربية والاسلامية بمراجعة واعادة تقييم لغة الخطاب العام؟

هل استطاعت النخب المثقفة ان تحدد مكامن الخلل الحقيقي المعرقلة للنهضة والتنمية والتحضر؟

هل هناك حضور للعقل والعلم والمنطق والانسانية والاخلاق في الخطابات العامة الموجهة لشعوبنا؟

هل اللغة فعلا اساس حضارة وتقدم الامم والشعوب؟

قائمة طويلة من الاسئلة تنتظر البحث والتحليل والتشخيص الخ.

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم