آراء

عبد السلام فاروق: المصير الغامض للسودان

أحداث مريعة مرت مروراً خاطفاً  بالسودان كأنها عاصفة مدمرة لا تعبأ بما تركته خلفها من أنقاض!

ثمة هدنة بين أطراف النزاع دعت إليها واشنطن لإجلاء رعايا مختلف دول العالم ليظل الشعب السودانى يعانى الأمرين بين مطرقة وسندان..ولتبقى الآثار المدمرة لحرب اندلعت ولا يعلم أحد متى ستنتهى..

حصيلة الأيام الأولى

عشرة أيام انقضت منذ بداية المعارك وحصيلة الخسائر تزداد يوماً بعد يوم.. إحصاءات القتلى والمصابين تتفاوت بين تصريحات من هنا وهناك لتصل فى بعض التقديرات إلى نحو خمسمائة قتيل وحوالى أربعة آلاف مصاب وسط بقاء نحو ربع المرافق الصحية خارج دائرة الصلاحية إما لخلوها من العاملين أو لتعرضها لوابل النيران من الجانبين فى قتال انتقل إلى الضواحى والشوارع السكنية وبات خطره محدقاً على كافة المدنيين.. أغلقت المحال التجارية أبوابها وانعدم الوقود فى مناطق القتال. وبدأت المؤونة لدى السكان المحاصرين داخل بيوتهم تنفد شيئاً فشيئاً حتى بدأت مخاوف عودة شبح المجاعات المهلكة قائماً إذا امتد أمد الحرب.

أكثر من هذا أن بعض اللصوص استغلوا تلك الحالة الفوضوية للقيام بعمليات نهب واسعة النطاق للبيوت والمحال،بات الانفلات الأمنى هو سيد الموقف..وامتد الانفلات ليطال السجون التى يتم فتحها واقتحامها لتهريب سجناء من بينهم رموز نظام البشير ! فهل يمكن أن يكون لهؤلاء دور ما فى سير الحرب القائمة إما بالتهدئة أو بمزيد من الاشتعال؟!

العاصمة الخرطوم باتت هى مسرح الأحداث الدامية خلال الساعات والأيام القليلة الماضية التى أبدلت الأوضاع فى العاصمة السودانية وحولت الشوارع إلى ساحات حرب تختفى منها وجوه المدنية والتحضر وتتوالى الانفجارات ويغطى الدخان الأسود الآفاق وتنغلق المتاجر وتتوقف الحياة وتنعدم الخدمات ويخيم شبح الموت على أبرياء كثيرين لا يعلم أحد حجم ما يعانونه جراء اقتتال همجى لا يراعى أية مواثيق أو حرمات ولا يكترث لحجم الدمار والضرر الذى يلحق بالبلاد..

مطار الخرطوم خرج من الخدمة ، وتوقفت الرحلات بكل أشكالها. هذا وحده كفيل بحرمان السودان من حركة التجارة الخارجية لمدة قد تطول، ناهيك عن الشلل الذى أصاب قطاعات واسعة من الاقتصاد السودانى خلال أيام كلفت السودان عدة مليارات بسبب توقف البنوك والمصانع وحركة الإنتاج والنقل. فإذا كان مثل هذا الأثر المدمر قد حدث خلال أيام قليلة، فما الحال إذا استمرت المعارك لعدة أسابيع قادمة أو شهور؟!

خلف كواليس الهدنة

كلما تنفسنا الصعداء لإعلان هدنة بين الطرفين لا نلبث أن نرى الاختراقات تلاحقها من أحدهما ويعود الاقتتال ويستمر الصراع الدامى.. غير أن الملاحظ هنا أن أموراً كانت تدور خلف كواليس كل هدنة كأنها تهيئة لتطور جديد يجرى على مسرح العمليات القائم من هذا الجانب أو ذاك.. فبعد كل هدنة يتغير شكل الحرب من قتال مواقع إلى قتال شوارع، وتتغير الأسلحة لتأتى إمدادات متطورة من أطراف خارجية تتدخل لصالح كل طرف، لدرجة أن يصرح وزير الخارجية الروسي بأن السودان من حقه الاستعانة بقوات فاجنر وكأن الوضع المشتعل بالأساس ينقصه مزيد نار!

الهدنة الأخيرة التى تمت لأجل ترك الفرصة لإجلاء رعايا الدول الأجنبية والإقليمية حدث معها تطور نوعى هو فتح السجون وخروج رموز البشير. فمن الذى قام بتلك المهمة وما غرضه؟ وإذا كانت أطراف النزاع تستغل فترات الهدنة لإعادة ترتيب أوراقها فهل ستظل المعركة محتفظة بنفس وتيرتها وطريقتها أم نجد تغيرات نوعية أخرى فى تكتيكات التحرك ونوعيات الأسلحة وطرق المواجهة؟ لاسيما وقد تغيرت المعادلة بخروج البعثات الدبلوماسية وخلو الساحة تماماً لقتال مفتوح يكون الخاسر الأكبر فيه هو الشعب السودانى ..

الجميع خاسرون إلا هؤلاء

ما لا يدركه فرقاء الحرب أن استمرارها يحقق خسارة مؤكدة لجميع أطرافها .. لابد أن الذخائر ستنفد والقوى ستخور والأرواح ستفقد والدمار سيمتد والقوى الخارجية ستنفضح. وسوف يأتى الوقت الذى يكتشف الجميع أن حجم الدمار أكبر من قدرة الجميع على ملاحقة آثاره لإعادة بناء دولة كانت فى  الأصل تعانى أيما معاناة من أزمات اقتصادية ومجاعات وصراعات وفساد.

فقط عشرة أيام كانت كافية لكشف حقيقة الأوضاع المتدهورة والتى ازدادت تدهورا وتفاقماً فى الداخل السودانى.. انقطاع الخدمات تسبب فى موت بعض المدنيين لنقص الدواء وتوقف المواصلات.. أسعار السلع الأساسية تضاعف، واستغل بعض الجشعين فضاعفوا أثمان الخدمات والسلع عدة أضعاف.. وبدأت حركات النزوح من مناطق المواجهة تزداد لتصل فى بعض التقديرات إلى نحو 3.5 مليون نازح خلال أيام قليلة. ولا ريب أن استمرار الحرب الدائرة واتساع نطاقها سوف يؤثر على كل دول الجوار السودانى بحركات نزوح ولجوء وهروب وهجرة أكبر من قدرة هذه الدول على استيعابها.

غير أن الأطراف الخارجية المحركة للأحداث فى السودان ربما يكون لها رأى آخر بخصوص معادلات الخسارة والمكسب. ولاشك أن إسرائيل والقوى الدولية القديمة هى المستفيد الأول هنا.

حفاة على أرض الذهب

الوضع فى  السودان مؤسف ومحزن، لكن ما قد يزيدك أسفاً وتعاطفا أن هذا البلد فى حقيقته أغنى من كل دول أوروبا مجتمعة بما يملكه من موارد لا يستطيع الانتفاع بها بسبب دائرة صراعات لا يكاد يخرج منها إلا ليدلفها من جديد!

وفقا لتقرير لمؤسسة جولدمن ساكس الأمريكية فإن السودان تتصدر قائمة الدول التى تمتلك أراض صالحة للزراعة غير مستغلة بمساحة تصل إلى نحو 80 مليون فدان وأن تلك المساحة إذا تم استغلالها الاستغلال الأمثل سوف تكون السودان هى سلة غذاء للعالم لا للعرب فقط. المدهش فى الأمر أن السودان اليوم تستورد نصف احتياجاتها من القمح رغم قدرتها على زراعته بكميات وفيرة، وهى إذا كانت تصدر عددا من المنتجات الزراعية المميزة إلا أن هذا أقل كثيراً مما يمكن إنتاجه فى مساحتها الزراعية الضخمة الممتدة. أما عن مساحات الغابات الموفرة للأخشاب بالسودان فحدث ولا حرج. هذا بخلاف كميات من الماشية والثروة الحيوانية تفوق أكبر دولة أوروبية مصدرة للحوم ومنتجة للألبان بمقدار أربع أضعاف! ناهيك عن كميات كبيرة تم اكتشافها من المعادن والثروات الكامنة فى باطن الأرض من بترول إلى يورانيوم إلى ذهب إلى حديد ونحاس ومنجنيز وكروم ورخام وغيرها من المعادن.. السياحة أيضاً بإمكانها أن تكون من مصادر السودان الرئيسية للدخل بفضل ما بها من مناظر برية وساحلية مبهرة بخلاف آثار مهملة ضاربة فى القدم  لا يعرف عنها العالم شيئاً لأنها بلد لم يتم استغلالها سياحياً بعد!

كيف يمكن لبلد بمثل هذه الثروات الهائلة أن يظل شعبه يعانى ويلات الجوع والفقر؟! إنها الصراعات المستمرة منذ عقود مضت لم تدع البلاد إلا وقد تمزقت إلى شمال وجنوب، وها هى اليوم تواجه خطر المزيد من التمزق والانقسام والتشرذم!

المشهد النهائى..متى وكيف؟

أخوف ما أخافه أن يخرج المشهد كله عن السيطرة وتنفلت الأوضاع فى الداخل السودانى وحول حدوده المترامية..خاصة وأن السودان بما عرف أنه يملكه من ثروات فى مستقبل عالمى يواجه أزمات اقتصادية بات اليوم مطمعاً لقوى دولية وإقليمية كثيرة، وهو ما يجعل استنزاف قوة الجيش فى اقتتال داخلى خطراً عظيماً يواجه أمن السودان..فحركات النزوح تزداد، وتتابع مغادرة رعايا الدول الأجنبية معناه أن الأرجح لدى هذه الدول أن المعركة ستطول.

إن ما يحاك للسودان هو ذاته ما كان يحاك لها من قديم من خطط استعمارية لتقسيمها واستنزاف مواردها. ولابد لجميع الأطراف الاستجابة لصوت العقل والحكمة قبل فوات الأوان.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم