آراء

بكر السباتين: مفاجأة من العيار الثقيل في الحرب الأوكرانية

الحرب الأوكرانية التي تشتد خطورة مُتْخَمَةٌ بالمفاجآت؛ لأن التكتيكات العسكرية فيها سريعة الإيقاع في ظل استراتيجيات حربية متصاعدة ومتغيرة وتستخدم فيها الأسلحة النوعية وصولاً إلى القنبلة العنقودية التي يكون حصادها في الغالب من المدنيين، وقد يصل التصعيد الأعمى إلى درجة استخدام الأسلحة النووية التكتيكية المحتمل! حيث تتوفر لدى الطرفين.

لكنها -أيضاً- استراتيجية تتشابه في الأهداف المرحلية لدى طرفيِّ النزاع، فروسيا الاتحادية من جهة.. وأوكرانيا إلى جانب الناتو من جهة أخرى.

كونها تقوم في هذه المرحلة على مبدأ إطالة أمد الحرب بغية استنزاف كلِّ طرفٍ لخصمه، وبالتالي إخضاعه لشروطه القاسية في أية مفاوضات محتملة.

وحسب بلينكن الذي قال-في مقابلة مع شبكة "c n n"- : "لن ينتهي الأمر خلال أسبوع أو اثنين، نظن أنه سيستمر عدة أشهر".. أي مدة مفتوحة.

وتتجلى أهم الشواهد على تَطَوّرِ الاستراتيجيتين نحو حرب الاستنزاف، بذلك الهجوم الأوكراني المضاد المتعثر والمدعوم من قبل الناتو، حيث فشل بسبب انتشار حقول الألغام الروسية الذكية التي حوّلت ميدان المعركة إلى مصيدة للدبابات المتفوقة.

فأوكرانيا تحاول يائسة الضغط على الروسيين باستهداف العمق الروسي أو ضرب مواقع في شبه جزيرة القرم مثل الجسر الذي يربط القرم بالبرّ الروسي ناهيك عن الهجوم الأوكراني يوم أمس الاثنين بمسيّرتين على مبنى وزارة الدفاع الروسية في موسكو فأصاب مبنى مجاور.

وذلك بهدف زعزعة الأمن في روسيا لحشر بوتين في الزاوية وتهيئة الظروف لانقلاب بعض قوى الداخل عليه تأسياً بتمرد فاغنر المبهم.

وهذا لا يعني بأن أوكرانيا باتت قادرة على الصمود في وجه القوة الروسية الضاربة والقادرة على التحكم بقواعد الاشتباك؛ بل أنها خاضعة لضغوطات أمريكية دؤوبة تسعى لإطالة أمد الحرب كهدف أمريكي بغية تقسيم الاتحاد الروسي، وهذا ليس خافياً على أحد.

فمنذ بداية الهجوم المضاد الأخير قتل أكثر من 24 ألف جندي أوكراني من النخب إلى جانب تدمير 20% من العتاد الغربي المتفوق على نحو دبابة ليوبارد الألمانية وأبرامز الأمريكية.. حيث أن نفاد الأسلحة النسبي في مستودعات الغرب وعدم القدرة على مواكبة غزارة الانتاج الروسي للأسلحة النوعية، دفع الناتو لتحويل المعدات المتضررة نسبياً إلى مراكز الصيانة في بولندا.

وإذا أخذنا في الاعتبار عزوف الشباب على الالتحاق بالجيش الأوكراني وترك مجموعات من الجنود مواقعهم في جبهات القتال، فإن ذلك تسبب بهبوط الروح المعنوية التي يجاهد الإعلام الغربي لرفعها من خلال بث الأضاليل.

وفي ذات السياق قال كبير المستشارين في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، فرانز غادي: إنّ “القوات المسلحة الأوكرانية لا تزال تفتقر إلى المهارات اللازمة للقيام بعمليات واسعة النطاق".. عازياً سبب فشل القوات المسلحة الأوكرانية في هجومها المضاد- رغم الدعم الغربي المفتوح- إلى عدم القدرة على التصرف بشكل متزامن مع الأسلحة المشتركة، إذ أن طبيعة الهجوم لن تتغير إلا إذا أصبحت الهجمات أكثر منهجية.

وهذه شهادة خطيرة من مركز دراسات مؤيد لأوكرانيا في حربها الطاحنة مع روسيا.

مقابل ذلك تنتهج موسكو نفس استراتيجية الاستنزاف إزاء الغرب فتقوم باستهداف أوديسا التي تضم ثلاثة مواني تستخدم عادة في نقل الحبوب إلى العالم وأوروبا بالتحديد، وتدمير- كذلك-أكبر صوامع الحبوب في المدينة، وغلق منافذ تصدير هذه المادة الغذائية الأهم على صعيد العالم من أوكرانيا بإنهاء اتفاقية الحبوب المبرمة في يوليو 2022، بين روسيا وأوكرانيا التي تمت بوساطةٍ من تركيا والأمم المتحدة، وبموجبها، سُمِحَ للسفن المحملة بالحبوب في الإبحارُ نحو وجهاتها عبر البحر السود الذي تحول بفعل هذا القرار إلى بحيرة روسية مقفلة، فلا يُسْمَحُ بتوجه السفن نحو ميناء أوديسا بذريعة أنها كانت تُسْتَغَلُّ في نقل الأسلحة إلى أوكرانيا ومنصات لإطلاق المسيرات من على متون بعضها، فاستهدفت مؤخراً جسر القرم وقاعدة التدريب الروسية في شبه الجزيرة، ويُعَدُّ هذا بالنسبة لروسيا من الخطوط الحُمْر.

القرار الروسي الاستراتيجي وضع العالم وخاصة أوروبا على محك أزمة قمح ستؤثر سلبياً على الجميع ما لم يفي الغرب بمستحقات روسيا من الاتفاقية على نحو: وقف الحصار عن الشركات الغذائية والأسمدة والأمونيا الروسية إلى جانب رفع الحظر عن البنوك الزراعية المعنية بتطوير هذا القطاع المؤثر عالمياً وإعادتها إلى نظام سويفت.

ويبدو أن استهداف القرم كان ضمن استراتيجية الناتو الجديدة التي تقررت مؤخراً في مؤتمر الناتو الذي انعقد في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، بغية إنهاك روسيا بعد أن تبين لهم استحالة تحقيق الأهداف الميدانية لأكرانيا، لاستحكام الجيش الروسي خلف مزرعة واسعة من حقول الألغام الذكية واستخدام صواريخ 3أم-54 كاليبر التي تطلق من السفن والغواصات بحراً وبراً فيما يصعب رصدها.

وتؤكد مجلة فوربس الأميركية أن "القوات الأوكرانية تكبدت خسائر كارثية خلال محاولتها تجاوز حقول ألغام روسية في مالايا توكماتشكا بجنوب أوكرانيا، وأن المراقبين تفاجؤوا بتلك الخسائر".

ووفق ما جاء في غازيتا الروسية: فإن " هذا الهجوم الفاشل أسفر عن خسارة في صفوف الأوكرانيين تعادل كتيبة كاملة".

وبالنسبة للغرب فكانت الصدمة تكمن في عدم تأثر الاقتصاد الروسي بِحِزَمِ العقوبات التي فُرِضَتْ عليه حتى بإخراج روسيا من نظام سويفت؛ وتجلت العافية في الاقتصاد الروسي أكثر بتحرك روسيا في إطار مجموعة بريكس بإصدار عملة موحدة للمجموعة ستطرح في مؤتمرها المقبل بجنوب أفريقيا في أوغسطس 2023، ما سيشكل ضربة لمكانة الدولار عالمياً.

ووفق ما قاله نائب رئيس مجلس الدوما الروسي ألكسندر باباكوف فإن هذه العملة الجديدة ستُنشأ على أساس استراتيجي، وليست قائمة على الدولار أو اليورو، وإن تأمينها سيكون بالاعتماد على الذهب والسلع الأخرى مثل المعادن النادرة.

وهذا قد يضع تفسيراً منطقياً لدراسة الغرب خيار حظر التعامل مع الذهب الروسي عالمياً مع أن هذا الخيار قد يربك الصناعات الدقيقة التي لا تستغني عن المعادن الروسية النفيسة.

ويأتي هذا خلافاً للأزمات المتفاقمة والاضطرابات التي تشهدها بعض دول الاتحاد الأوروبي- فرنسا على سبيل المثال- بسبب التضخم الناجم عن دعمها للحرب الأوكرانية التي خرجت من عقالها وتحولت إلى حرب استنزاف مفتوحة على المجهول.

أما المفاجأة غير السارة بالنسبة للناتو على هامش الحرب الأوكرانية فتكمن في أن الناتو الذي وضع كل ثقله في الحرب الأوكرانية بات يستشعر خطراً داهماً آخر في منطقة بحر البلطيق.

وكان بوتين يتحرك بذكاء قل نظيره! ضمن الاستراتيجية الروسية في جانبها المبهم، على اعتبار أن روسيا أخرجت قوات فاغنر من أراضيها متبرئة من افعالها بعد الانقلاب الفاشل.

لذلك قال رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما (البرلمان الروسي) أندريه كارتابولوف في وقت سابق: إن بريغوجين قائد قوات فاغنر أُبلغ بأن قواته لن تشارك في العمليات العسكرية بأوكرانيا بعد رفضه توقيع عقد مع وزارة الدفاع الروسية.

لكن فاغنر لم تصفّى؛ بل انتقلت للعمل في بلاروسيا وتعاقدت مع الجيش هناك لتدريب أفراده.. وهذا الأمر جعل البولنديين في حالة تأهب خوفاً من تعرض بلادهم لهجوم مباغت من جهة بلاروسيا.

وقد تزامن ذلك مع تحذير بوتين لأي جهة قد تستهدف الأراضي البلاروسية على اعتبارها جزءاً معنوياً من الاتحاد الروسي.. ثم يأتي تنصل لوكاشينكو الذي قدم الحماية لجماعة فاغنر منوهاً في آخر لقاء له مع بوتين في سان بطرسبورغ في أن هذه القوات تريد الذهاب لبولندا، ولولاً ضغوطه لتوجهوا إلى وارسو.

وشدد لوكاشينكو - خلال اللقاء- على أن تجزئة أوكرانيا وضم مناطقها الغربية إلى الأراضي البولندية أمر غير مقبول بالنسبة لبيلاروسيا، مؤكدا أنه إذا لجأت بولندا إلى هذه الخطوة فإن بيلاروسيا ستقدم الدعم لسكان المناطق الأوكرانية الغربية بكل الطرق المتاحة.

ولكن! ماذا لو أن روسيا باغتت الغرب من خلال مجموعة فاغنر لدرء الخطر المحدق بكالينغراد الروسية المحاصرة بحكم الجغرافيا! من خلال السيطرة على ممر سوالفي البري "ثغرة النيتو في بحر البلطيق" والذي يُحَدُ ببلاوسيا من جهة الشرق، والحدود الشرقية المشتركة الليتوانية البولندية في الجهة المقابلة؟.

ويشكل هذا الممر الطريق البري الوحيد بين كالينغراد وروسيا عبر بلاروسيا؛ لذلك تسعى روسيا من خلال مليشيات فاغنر إحكام السيطرة عليه لقطع الطريق عن الناتو الساعي لعزل كالينغراد الروسية في مرحلة ما.

وتجدر الإشارة إلى أن سكان تلك المنطقة هم سلافيون شرقيون يتبعون الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، ولو تم ذلك فلدى روسيا وبلاروسيا ما يثبت عدم تورطهما في ذلك على اعتبار أن جماعة فاغنر -كما اسلفنا آنفاً- مليشيات مستقلة وتعتمد على المرتزقة وتسعى للانتقام من بولندا التي تحولت إلى مركز لوجستي داعم لأوكرانيا، ما تسبب بمقتل أكثر من 20 الف مقاتل من رجالها في باخموت! فهل ينجح بوتين في ذلك؟.

وهذا من شأنه تهديد الناتو في بحر البلطيق ما لم تنفذ تركيا وعودها بالسماح لستكهولم بالدخول في الناتو.

***

بقلم: بكر السباتين

25 يوليو 2023

في المثقف اليوم