آراء

رشيد الخيّون: علي ناصر محمد.. ذاكرة وطن

لم يبق من جمهوريّة اليمن الديمقراطية الشعبية سوى العَلم، الذي يُرفع بعدن اليوم، وأحاديث الذكريات، يُدلي بها الأحياء المتقاعدون مِن جيل الثّورة والدولة. يتسامر بها الرفاق المتقاتلون ببلدان الاغتراب. سيتعجب من عاش واقعة الاثنين 13 يناير 1986، عندما يرى صورةً، بعد (37 عاماً)، تجمع علي سالم البيض وأبو بكر العطاس، يتوسطهما المحكوم بالإعدام في زمنهما، علي ناصر محمد، وسيقول: ماهو ثمن الدّماء وهدم البناء، ولم يبق سوى الصّدى؟!

لم يؤرخ للدولة الذّائبة، وكأنها نسياً منسياً، بهذه التّفاصيل الدّقيقة، وبهذا الجهد الموثق مِن ظهورها(1967)، وحتى ذوبانها(1990)، غير رئيسها وأمين حزبها الأسبق عليّ ناصر محمَّد، في «ذاكرة وطن»(دار المدى 2020)، فما صدر غيره كان ذكريات ودراسات.

كان علي ناصر محمد، ومِن لحظة إعلانها في 30 نوفمبر 1967 حتَّى 13 يناير 1986)، في موقع المسؤولية: محافظاً، وزيراً، ثم جُمعت له المناصب الأولى: أمين الحزب ورئيس هيئة الرئاسة ورئيس الوزراء، أُخذ منه الأخير، قُبيل مذبحة المكتب السّياسيّ(1986). لذا أتى كتابه موثقاً بالمحاضر والرَّسائل والأسماء، وكأنه نقلَ معه عصر 13 يناير 1986، محمولاً في ذاكرته، وهو يعبر إلى اليمن الشَّماليّ، أرشيف الدَّولة كاملاً، بينما كان يعتقد ما هي إلا ساعات ويعود.

أصفُ «ذاكرة وطن.. جمهورية اليَمن الديمقراطية الشعبيَّة 1967-1990»، بصفحاته الستمئة، بـ«مُتحف دولة». حوى قرارات التَّأسيس، وصراع الجبهتين: التَّحرير والقوميَّة، إلى بناء الحزب الاشتراكي، الوزارات والانقلابات، ومَن قُتل ومَن نجا. كيف تشكلت الدَّولة مِن(23) سلطنةً، كان لكلِّ منها علمٌ وحدودٌ. بدأت تُعرف المحافظات بالأرقام. كيف كان الصِّراع بين اليمين واليسار، والأخير واليسار المتطرف، الذي كان المقهى الحديث عنده مشروعاً برجوازيّاً.

انعكس الصِّراع العقائدي العالمي على رمال ساحل أبين مِن عدن حتى المكلا، والتَّأثر بالعصبية العقائديّة، وكانت عربياً على أشدها، حتى نالت الغزل، فقال أحدهم وشاع: «عيناك مطرقة وأنفُكِ منجلٌ/ والبعدُ عنكِ موقفٌ تكتيكيّ/ والخصرُ فيكِ مُنظَّمٌ ومؤدلجٌ/ لم يرتبط بمخططٍ أمريكيّ». زمن كان فيه إنشاء الوهم أمضى مِن واقع البناء.

غير أنّ ذلك لا ينفي، ما كانت تتمتع به عدن وتوابعها بالأمان، وثبات الأسعار، وقوة التّعليم واختلاطه، والسيطرة على تعاطي القات، ولولا الشّعارات التي أخذتها بعيداً، ما صارت مجرد «ذاكرة وطن». كانت تهمة «انفصاليّ» جريمةً، والمؤتمرات الحزبيّة تعبأ بالعداء للدول المصنفة آنذاك بالرَّجعيّة، على حِساب بناء الدّاخل.

أشار عليّ ناصر محمّد إلى الثَّوريّ الأردنيّ نايف حواتمة في تكريس التطرف، ليس مستغرباً أنّ تكون لحواتمة كلمة بعدن، لصفته التنظيمية في «حركة القوميون العرب»، والجبهة القوميّة الحاكمة بها فرعٌ لتلك الحركة. تحت هذا التثوير تمت التضحية بعقلانيّة قحطان الشّعبي(ت: 1982) وفريقه، بما عرف بـ«الخطوة التصحيحيَّة»(1969)، وتواترت النِّزاعات، التي أعطيت مسميات: «اليسار واليمين»، «الطُّغمة والزّمرة»، والتّسمية الأخيرة نتاج القاضيّة(13 يناير 1986) لتسهل الدّخول في الوحدة، التي كان يتحمس لها الجنوب(الثّوريّ)، يقابله تردد الشّمال(الرّجعيّ)، فالوضع بينهما يتبع ما بين المعسكر الاشتراكيّ والمعسكر الرأسماليّ.

تستغرب كيف ذهبت دَولةٌ أدراج الرِّياح، ويتلاعب بها شخص غريب عليها مثل حواتمة، تهمه راية الثورة لا الدولة. رأينا حواتمة وقد حضر دفن قتلى(1986) بعدن، وكأنه يواري تطلعاته. كانت النَّتيجة أنْ تتحول دولة ذات قوام وثروات إلى كتاب «ذاكرة وطن»، وهو بمثابة ضريحها، فحرب صيف(1994) لم تبق ولم تذر، إلا ما حفظته الصّدور، كصدر مؤلف الكتاب.

أقول: لأنني عراقي مأخوذ بالقلق والشَّجن، شعرتُ كأنّ الرَّئيس قد استوحى عنوانه مِن شعار قتلى ساحات التّظاهر بالعراق: «نريد وطن»، خشية مِن ضياع عراقهم، في خضم المأساة، فيمسي مجرد «ذاكرة وطن»!

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

في المثقف اليوم