آراء

علي فضيل العربي: أقدام على منصّات التتويج

جاء في الحديث الشريف: "علّموا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل". وقيل: "العقل السليم في الجسم السليم ". أجل، الرياضة البدنيّة تحافظ على سلامة الجسد، وتنشّطه وتقوّيه وتمرّنه على مجابهة الصعاب وما تعترضه من طواريء ثقال. ولها أيضا أثرها الإيجابي على الخلايا الدماغيّة والكريّات الدمويّة والإدراك والذكاء والسلامة العقليّة. أمّا وقد تحوّلت الرياضة إلى حرفة تجاريّة (الاحتراف)، وبيع وشراء بملايير الدولارات والأوروات والجنيهات، فالأمر يدعو إلى الوقوف وقفة تأمّل وتعجّب وتساؤل. ومن بين هذه الرياضات، رياضة كرة القدم (الفوت بول). لقد استولت هذه الرياضة الشعبيّة على عقول قطاع واسع من الجماهير، فصار لها أنصارها بالملايين، وأضحت تُشيّد لها الملاعب الفخمة، وتُرصد لها ميزانيّات ضخمة من لدن الدول الغنيّة والفقيرة والناميّة والمتخلّفة حسب احتياجاتها، كما باتت تقام لها بطولات وكؤوس ودورات عالميّة وإقليمية ووطنيّة ومحليّة، وتسخّر لها وسائل الاتّصال المختلفة؛ من قنوات وجرائد ومجلات، وغيرها.

لكنّ، العجب العجاب، ما يحدث في سوق انتقالات اللاعبين في لعبة كرة القدم (الفوت بول) بلغة الانجليز، مخترعي لعبة (الجلد المنفوخ). دول في حاجة إلى التنميّة الاقتصادية والاجتماعيّة والتربويّة والأخلاقيّة، وإلى نهضة فكريّة وعلميّة تبعا لسيرة الأسلاف الذين شيّدوا أعظم حضارة إنسانيّة، بينما نواديها الرياضيّة تنفق ملايير الدولارات على شراء لاعبين وجلبهم إلى الدوريات المحليّة في سباق محموم لم يشهده التاريخ المعاصر.

من أجل ماذا كل هذه النفقات الباذخة والعروض السخيّة؟ ألا يدعو ذلك إلى الدهشة والتساؤل حول ماهيّة الفوائد التي ستجنى من جرّاء ذلك؟ لاعبون، انتهت صلاحيتهم في أنديتهم الأوروبيّة، يجنون، بين عشيّة وضحاها، في أنديّة عربيّة خليجيّة، أضعاف ما جنوه طوال مسيرتهم الرياضيّة في أوروبا.

لو كان الأمر متعلّقا بإبرام عقود وشراء براءات اخترع لعلماء في الغرب والشرق، في مجلات العلوم والتكنولوجيا، لكان الأمر محمودا ومرغوبا فيه. لكنّ أن تُهدر تلك الأموال الطائلة من أجل عيون جلد منفوخ، فإنّ ذلك السلوك ينمّ عن انحراف أخلاقي، وعن غياب الحكمة في وضع الأشياء في مواضعها الصحيحة والمفيدة.

كان الأولى، ونحن كخير أمّة أُخرجت للناس، أن نوجّه تلك الأموال الطائلة، التي سلبها منّا جنون الجلد المنفوخ، إلى التنميّة البشريّة، وإعادة بريق حضارتنا الإسلاميّة الآفلة منذ القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي.

قد يقول قائل، لقد أصبحت كرة القدم هوسا كونيّا، وأكثر الرياضات شعبيّة بين الجماهير تشدّ لها ملايين البشر في العالم، كبارا وصغارا، ذكورا وإناثا، تقيم لها الأفراح وترتحل من أجلها مدينة إلى أخرى، ومن من بلد إلى آخر. وأكثر من ذلك، لقد صارت أفيون الشعوب في الجنوب خاصة. فلو أخذنا مثلا الظاهرة " الأفيونيّة " لدى مجتمعات في القارة الإفريقيّة أو أمريكا اللاتينيّة أو بعض دول في آسيا، لصدمتنا الحقيقة المرّة ؛ شعوب تتنفّس كرة القدم (الجلد المنفوخ)، بينما مستوياتها المعيشيّة وأوضاعها السياسية ومنظومتها الصحيّة والتعليميّة والثقافيّة غارقة في وحل التخلّف. ممّا أوعز إلى الأنظمة الاستبدادية والديكتاتوريّة استغلال العشق والهوس الجماهيري للكرة، وتحقيق الانتصارات المحليّة والإقليميّة والدوليّة، لمخادعة تلك الجماهير، والتغطيّة على مشاكلها اليوميّة الحادة، واستغلال مشاعرها الكرويّة.

و أصبحت ضمن مخططات التنميّة الشاملة، وجزءا من سياسات الدول في الغرب. لكنّ هذا في الغرب، الذي يشهد تطورا وازدهارا واكتفاء وفائضا ورخاء في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعيّة والتعليميّة، لا يشكو فيه المواطن من نقص أو انعدام ضرورات الحياة المعيشيّة اليوميّة، ولا يعاني من شحّ في المياه والغذاء وضعف في الكهرباء والاتّصالات والمواصلات، وبالمجمل في ضعف البنية التحية، كالموصلات بمختلف أشكالها، وضعف المنظومة الصحيّة والتعليميّة وهجرة الأدمغة وهوان المعلّم وتهميش العلماء....

قد يقول قائل أيضا، إنّ الاموال التي تدفعها تلك الأنديّة الثريّة، هي ملك خاص لها، ولم تُؤخذ أو تُمنح من الخزينة العموميّة. وهي أموال رجال أعمال مساهمين في النوادي. وهي أموال مجنيّة ومردودة من أثمان الإشهارات وتسويق أقمصة تلك النوادي للجماهير والمحبين وتذاكر الملعب وجوائز البطولات والكؤوس المحليّة والإقليمية والدوليّة، وغيرها من المصادر. لكنّ هناك، في بعض الدول النفطيّة خاصة، قد أبرمت بعض نواديها عقودا تمويليّة مع شركات وطنيّة كبرى، مقابل كتابة (لوغواتها) على أقمصة اللاعبين وعلى لوحات الملعب المملوك للنادي أو البلديّة. أمّا النوادي غير المرتبطة بشركات كبرى، فإنّها تغرف المليارات من خزائن الشعب، وكلّها أموال تصبّ في حسابات اللاعبين المحليين والأجانب (المحترفين) والطواقم الفنيّة الوطنيّة أو الأجنبيّة، وتُنفق في المنح والأكل والشرب والنقل والمبيت في أرقى الفنادق، وربّما في شراء المقابلات الحاسمة، أو دفع رشاوي للحكام أو اللاعبين أو رؤساء النوادي.

كان من الأجدر والأفيد، ونحن أمّة تعاني أزمات فكريّة واقتصاديّة وسياسيّة وحضاريّة، أن نعتني بالرؤوس العارفة لا الأقدام اللاعبة، وتُخصّص تلك الأموال التي ملأت جيوب اللاعبين الأجانب – دون فائدة – لحلّ أزماتنا، وتمويل مراكز الترجمة والبحث العلمي والفلسفي، وشراء عقود وبراءات اختراعات العلماء العرب والمسلمين والغربيين من أجل إنجاز وثبة حضاريّة على منوال أسلافنا في العصر عبد الله المأمون (170 هـ -218 هـ)، حين كانت الترجمة رائدة، وكان الخليفة المأمون يعطي المترجم وزن الكتاب ذهبا. بينا اليوم، أمست لعبة (الجلد المنفوخ) غاية كل شاب يرجو الغنى والشهرة. وأمسى اللاعب (من اللعب) المحترف (من الحرفة) علما وسيّدا وشخصيّة وطنيّة مُكرّمة لا يضاهيها معلّم أو عالم أو مفكّر أو سياسيّ محنّك في المال والشهرة. أليس ذلك من عجائب هذا العصر البراغماتي المتوحش؟

وقد يقول قائل، إنّ الأوربيين هم السبّاقون في هذا مضمار الاحتراف الكروي، وهم الذين أوجدوا هذه السوق المجنونة. فما العيب أن نسايرهم أو نسير على سنّتهم. وهذه حقيقة يراد بها باطل. إنّ الأولويات عندهم منجزة ومكتملة، أمّا نحن فما زلنا في طور معالجة مظاهرالتخلّف وآثاره على الفرد والجماعة، وعلى البنيّة الماديّة والنفسيّة، التي خلّفها الاستعمار الصليبي غداة دحره وجلائه عن بلداننا. ثم، نحن لسنا مجبرين على دخول جحر دخلوه، واتّباع سننهم شبرا شبرا. فأوضاعنا الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والحضاريّة لا تسرّ الناظرين. إنّ معلّمنا وأستاذنا الجامعي وباحثنا وطبيبنا ومهندسنا وفلاّحنا وموظّفنا الإداري وشرطينا ودركينا وجنديّنا وأدمغتنا المهاجرة إلى بلاد الغرب، كلّ هؤلاء في حاجة إلى رعاية وعناية لتوفير عيش كريم، لا تشوبه خصاصة ولا حاجة ماديّة.

تُهدر أموال طائلة، أو بلهجة الجزائريين (شكاير) من الأموال (بمعنى كيس طحين وزنه قنطار)، ونحن في حاجة إلى مستشفيات ومصحّات عصريّة، ومواطنينا يعالجون في مستشفيات أجنبيّة خارج الحدود. فلاحونا يعانون من نقض فادح في المعدّات والآلات الفلاحيّة الإنتاجيّة (معدّات الحرث والبذر والجني والحصاد). تُهدر الأموال الطائلة في شراء اللاعبين (المشهورين) بعد نفاد صلاحيتهم في أوروبا، والمواطن العربي المقهور، النازح واللاجيء، في اليمن وسوريا والسودان وفلسطين المحتلة يتضوّر جوعا وعطشا ويواجه ظروف الطبيعة، من حرّ في الصيف، وقرّ في الشتاء بوسائل عصر ما قبل التاريخ. فإذا كان الغرب الصليبي قد هبّ لنجدة ساكنة أوكرانيا بمئات الملايير من الدولارات، ووفّر لها الغذاء والدواء والسكن والخيّم، وغيرها من الضروريات والكماليات، فإنّ المواطن العربي في بعض الأقطار العربيّة، قد وقع ضحيّة الحروب والكوارث الطبيعيّة، لم يجد ما يسدّ به رمقه، بل فنيّ وهر حيّ، وقد افترش التراب والتحف السماء، ينتظر خروج النفس من الجسد ورجوعها إلى ربّها...

و خلاصة القول، ألا تبّا للعابثين بأموال الشعوب، من أجل جلد منفوخ تتقاذفه الأقدام والرؤوس، وتُدفع من أجله ملايير الدولارات.

***

بقلم: الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

في المثقف اليوم