قضايا

اغتنم فرصك في الحياة!

منى زيتونمنذ شهور اتصلت بي إحدى صديقاتي طلبًا للمشورة في أمورها العملية والأسرية. هذه الصديقة تعمل معلمة. ربما لا أتذكر التفاصيل بدقة، ولكن مضمون الموقف أنه كان معروضًا عليها عرض عمل أفضل في مدرسة أخرى غير التي تعمل بها، وزوجها أيضًا كان لديه عرض عمل أفضل في مكان آخر غير محل عمله، وبعيد عن المدرسة الجديدة التي عُرض العمل فيها على زوجته، ولديهما بنتان صغيرتان في المرحلة الابتدائية. وكانت صديقتي متحيرة؛ تحاول أن توازن الأمور بين قبولها وقبول زوجها لفرصتي العمل الجديدتين، أو قبول أحدهما لفرصته، ونقل الصغيرتين إلى هذه المدرسة أو تلك في حال كان الخيار كذا أو كذا أو ربما كذا!

بعد أن استمعت إليها أدركت أن جذر المشكلة، الذي يشوش عليها اتخاذ القرار، لا يكمن في أن الأفضل لها ليس هو الأفضل لزوجها، وإنما يكمن في ربطها غير المبرر لمحل عملها ومحل عمل زوجها ومدرسة البنتين، وكأن حياتهما العملية والحياة الدراسية للبنتين كتلة واحدة غير قابلة للتجزئ، علمًا بأنه منطقيًا لا يلزم إلا ارتباط محل عمل أحدهما فقط بمدرسة البنتين الصغيرتين لتسهيل ذهابهما وإيابهما من المدرسة. بناءً عليه فالحل الأمثل أن يختار كل منها وزوجها فرصة العمل الأفضل له، ولتكن البنتان بالقرب من أيهما، فقط لكونهما صغيرتين، ولو كانتا كبيرتين وبإمكانهما الاعتماد على نفسيهما لما كانت هناك حاجة لربطهما بأي من أمهما أو أبيهما.

حالة أخرى لبنتين توأمتين من قراباتي، لا تقطنان القاهرة، كلتيهما متفوقتين دراسيًا، إحداهن لها ميول فنية، وكانت تتمنى أن تلتحق بقسم العمارة في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، والتي يُشترط لمن يقدم للالتحاق بها في تنسيق الجامعات أن يكون قد اجتاز اختبارًا للقدرات الخاصة بها، يكون موعده محددًا ضمن جدول اختبارات الشهادة الثانوية العامة. عند ملء أوراق التقدم لامتحان الشهادة الثانوية، همّت تلك البنت أن تطلب إجراء هذا الاختبار ضمن اختباراتها، ولكن شقيقتها التوأم تحننت وقالت لها: هل ستتركيني وتذهبي للقاهرة؟ فعدلت البنت الموهوبة عن تحقيق أمنيتها.

لكن التراجيديا لم تقف عند هذا الحد، وربما كان هناك درس أرادت لها الحياة أن تتعلمه، كي تكون أقوى في المستقبل، وأقدر على اتخاذ قراراتها بحيث لا تشرك فيها آخرين. ما حدث لاحقًا أنه بالرغم من حصول كلتيهما على مجموع درجات مرتفع للغاية في الامتحانات، إلا أن الشقيقة التي طلبت من توأمها عدم الذهاب للقاهرة وتركها، جاءتها فرصة للالتحاق بكلية طب القاهرة، ولم تفرط فيها، بينما الأخرى لم يسمح مجموعها بأن تكون مع شقيقتها في كلية الطب، ولا هي استطاعت الالتحاق بقسم العمارة الذي كانت تريده، رغم أن مجموع درجاتها أعلى من الحد الأدنى له بكثير، لأنها لم تدخل اختبار القدرات الخاص به!

وغيرهم كثيرون، هناك من نزعت من رأسها فكرة الزواج بشاب ممتاز كانت ترتاح إليه لأن أختها لم تردها أن تبتعد عنها وتسكن في مدينة أخرى، ثم جاءت لزوج شقيقتها فرصة عمل في خارج البلاد، وكانت تلك الشقيقة أول من شجع زوجها على قبولها، وسافرت معه. وهناك من حوّلت من كليتها الجامعية التي تعبت واجتهدت وذاكرت وسهرت الليالي لأجل الالتحاق بها لأن صديقاتها دخلن كلية أخرى، وأرادوها أن تكون معهن! لا تنصدم، وصدقني، فهذه حالات حقيقية قد حدثت بالفعل!

كثيرون أعرفهم تنازلوا عن فرص عادلة لهم في الحياة، أو أجّلوها، بسبب آخرين لم يروا مصلحتهم في تحقيق أصحاب الفرص لما يطمحون إليه، وطالبوهم بالتنازل عنها باسم الحب! وكثيرون من هؤلاء المطالبين لغيرهم بالتضحية لمّا جاءتهم فرص مماثلة لم يعبأوا بغيرهم، ولا أرى أن العيب فيهم، وإنما العيب فيمن يسمح لغيره بأن يُسيِّر حياته ويحرمه مما يريد. وهذا لا يعني أن نكون نحن الأنانيون فتكون خياراتنا مضرة بأحبابنا، لكن الأنانية الحقة نراها عندما يوهمنا الأنانيون أن سعادتنا تضر بهم! فلا تسمح لغيرك أن يجعلك تعيش دور الضحية، فقط عندما تُوجد التزامات أخلاقية من جهتك نحو الآخرين فكِّر فيهم، واجعلهم جزءًا من قرارك، كأن يكون هؤلاء الآخرين أب أو أم على الكِبر ترفض السفر للخارج لأجل رعايتهما، أو أبناء صغار تضعهم نصب عينيك عند اتخاذ قراراتك. أما إن كان الأمر بخلاف ذلك فلا تعر أحدًا اهتمامك، وتذكر أن هذا الذي تحرم نفسك من فرصك العادلة في الحياة لأجله، لو كان مكانك ما ربط نفسه بك، ولاختار الأصلح لنفسه.

تخلص من أي ارتباطات وهمية في عقلك تجعلك تتصور أن فلان أو علان من أهلك أو أصدقائك له علاقة بما تقرره بشأن نفسك؛ فنحن عندما نقيم في عقولنا تلك العلاقة الارتباطية الوهمية بيننا وبين الآخر، والتي لا أساس لها ولا أهمية، فإنها تضللنا، وتشوش قدرتنا على اتخاذ القرار الصحيح الذي فيه نفعنا. قرارك يخصك وحدك، فلِم تتخذه بناءً عليكما معًا؟!

 

د. منى زيتون

 

في المثقف اليوم