قضايا

التراجع الحضاري.. امريكا والغرب

مهدي الصافيتكاد تكون نهاية الحرب الباردة الاولى هي بداية الفوضى العالمية الجديدة، اذ تم الاعداد للتحشيد الدولي داخل وخارج الامم المتحدة ومجلس الامن الدولي لتدمير العراق وسحق جيشه (وارجاع شعبه خمسين عاما للوراء كما ذكر بوش الاب ذلك) بعد احتلاله الكويت عام١٩٩٠، وهي بداية ولادة سيادة القطب الواحد، لم تكن هناك اية معايير اخلاقية او انسانية او قانونية دولية في هذه المعركة الغير متكافئة، كان القصف العشوائي الوحشي، والمتعمد في احيان كثيرة لقتل المدنيين او لتدمير البنى التحتية المدنية امرا معتادا، كانت المعركة شاملة بكل معنى الكلمة، قصف ومعارك جوية وبحرية وبرية، اضافة الى الحصار الاقتصادي الفتاك الظالم، وبعد كل تلك المآسي والكوارث والضحايا، تكرر هذا السيناريو الدموي في حرب عام٢٠٠٣، لكن المسألة الاكثر خطورة في كل هذه الفوضى الكونية ان يكون لهذه الخروقات والتجاوزات والكوارث الانسانية مبررات فكرية واقعية كما يدعون...

صراع او صدام الحضارات (صموئيل هنتنغتون) ليس فكرا ولا نبوءة او قراءة معمقة لما يحدث، انما هي ثقافة عنصرية غبية مريضة، تبحث عن المشاكل والفتن لاثارة الدوافع والازمات والاستعدادات النفسية الشيطانية لدى البعض، لمحاربة كل من يقف بوجه الراسمالية الامبريالية العالمية، سواء كان داخليا او خارجيا، تلك الغايات باتت واضحة بعد فشل هذه النظرية المقيته، وصعود نظرية الصراع او التنافس التكنولوجي الحضاري السلمي بين الشعوب، حيث اصبح مايميز قوة وتقدم الامم والدول هو العلم والمعرفة والابتكارات العلمية التكنولوجية والفضائية، وقد شهدت الاحداث والصراعات الجارية في سوريا والعراق على سبيل المثال تطورا نوعيا في مجال التفوق العسكري التقني (بين روسيا وايران من جهة وبين وامريكا وحلفائها)، حتى صار احتمال ان تكون الحروب المستقبلية بلا جنود اوطيارين او قواعد عسكرية خارجية، بل تدار عبر مفاتيح التحكم عن بعد (الريموت كونترول)، ان من يتحكم بعجلة الحضارة الالكترونية هو من يصعد اولا الى قمة الهرم الحضارة...

التقدم العلمي والتكنولوجي والاداري والعسكري وناطحات السحاب ليست دليلا على تحضر المجتمعات او الامم، الحضارة الانسانية التي يمكنها ان تستوعب وتذوب فيها كل الفروقات والانجازات والابداعات والخلافات والنزاعات والتوجهات والعادات والتقاليد والمعتقدات والموروثات (الخ.)، لتكون الحضارة الاشمل لمسيرة البشرية منذ ان عرف الانسان فيها القراءة والكتابة وتعلم الحرف والمهن وتشييد البيوت او الاكواخ والمدن، هي الطموح والهدف والغاية التي يعمل من اجلها ويبحث عنها المفكرين والمبدعين العباقرة وعلماء الانسنة والتطور البشري والكوني،  لم تصل لها بعد الانسانية، امامها مشوار طويل، نحن لازالنا في ازمات الحضارة الالكترونية -الراسمالية، تلك التي حولت شعوب اوربا وامريكا الى عمال بهيئة موظفين، فصار اغلب طلبة الثانويات لايفضلون اكمال الدراسة الثانوية، بل الانسحاب في منتصف الطريق، ومن ثم الذهاب الى معاهد التشغيل السريع، تصور كم هو صعب ان تعيش وسط شركات وماركات وعلامات وصناعات وتخطيط وعمل لايرقى الى مستوى التفكير الجامعي، كل ماتراه في الشارع من اعمال وخدمات هي من انجازات مايفعله تماما اصدقاء او زملاء اصحاب السترات الصفراء (عمال فرنسا المنتفضين ضد الجشع الرأسمالي والضرائب وقلة الرواتب)، ليس عيبا ان يبنى البلد على يد العمال الابطال اصحاب السواعد الحديدية، بالرغم من ان اجورهم لاتوازي اعمالهم الشاقة وساعات العمل الطويلة، وهي احد اكثر واسوء ظواهر الاستغلال الرأسمالي لليد العاملة، ولكن العيب ان لايكون نسبة خريجي الجامعات في مواقع العمل والتخطيط والتصميم والتنفيذ والانجاز اقرب للحاجة الفعلية العملية لضمان الدقة والمهنية والكفاءة والاداء، مما ينعكس سلبا على حياة الناس واحتياجاتهم الضرورية، وكذلك يمتد ذلك التراجع العلمي ليصبح ظاهرة عامة تجدها في وسائل الثقافة والاعلام والتربية والتعليم والوظائف العامة والحساسة او الخاصة، لهذا لايعد الامر غريبا ان تجد ان عضوا في البرلمان او حاكما لولاية معينة او حتى رئيسا للجمهورية في امريكا او اوربا انسان احمق متخلف لايعرف شيئا غير ان العرق او البشرة البيضاء هي الافضل في العالم، بينما غاب عن ذهنه الجامد، ان الذي يقود حركة التاريخ العالمي والحضارة الانسانية الراقية هم المفكرين والعباقرة والفلاسفة والمبدعين، وان كانت سلطات الشعوب والدول في يد غيرهم، الا ان كل مايراه الناس من وجه مشرق اخر للحضارة الالكترونية سواء كان في امريكا او اوربا او اي بقعة من بقاع القرية الكونية لهي دليل دامغ على ان العالم لازال في خير وسلام، تحت رعاية وعناية الخالق عزوجل، وانجازات وابداعات ونتاجات عباده الصالحين...

التراجع الحضاري بدء بتراجع قوة وهج القرن الامريكي الجديد، بصعود بوش الاب والابن لرئاسة البيت الابيض، واندلاع حروب الخليج الثانية والثالثة، ومن ثم تدخل الادارة الامريكية بمايسمى مخطط او مشروع الشرق الاوسط الجديد، وبداية مرحلة تدمير البلدان والمجتمعات العربية، واثارة الفتن الطائفية في المنطقة، وفتح ابواب الدعم المطلق للارهاب الوهابي المتطرف في العراق وسوريا، وكذلك فوضى حرب اليمن الوحشية، ومن ثم محاصرة روسيا وايران وتركيا واستنزاف قدراتهم العسكرية والمادية في هذه المستنقعات الارهابية المصطنعة (المناطق التي خارج سيطرة الدولة السورية والعراقية)، وبعد ان شارف ملف الارهاب من النهاية، بالقضاء عليه بشكل شبهه تام في العراق، وكما يبدوا قريبا جدا في سوريا، نجد سرعان ماتحولت الازمة الامريكية المفتعلة (الازمة الامريكية هي انها لاتريد اقطاب اخرى تشاركها في قيادة العالم) الى اماكن اخرى في فنزويلا هذه المرة، لاعادة فتح مجالات توترات وحروب استنزاف طويلة الامد امام روسيا، هذه التصرفات والاساليب التي لاتبتعد كثيرا عن ازمة نقل السفارة الامريكية للقدس، والاصرار على بناء جدار التمييز العنصري مع المكسيك، دليل كاف لمعرفة حجم الازمات الاخلاقية الدولية، وهي صورة جلية لا لبس فيها لمفهوم او عبارة التراجع الحضاري للدول المتقدمة،

اذ متى اصبح التاجر الرأسمالي مفكرا انسانيا عادلا ينظر للعالم طريقة العيش والحياة المرفهة، ليضخ لهم منظومة قيمية راسمالية غريبة لاتمت للواقع بأية صلة، كان اول علاماتها الانسحاب الكامل من منظمات اخلاقية عالمية عريقة(منظمة اليونسكو، ومجلس حقوق الانسان، اتفاقية باريس للمناخ، قوانين ترامب الجديدة للهجرة، الخ.)، وصولا الى اشاعة الثقافة العنصرية اليمينية المتطرفة في العالم، لاشك ان الامم والشعوب لايمكنها التعاطف او القبول مطلقا بسياسة العودة الى مربع التاريخ المتوحش للامبراطوريات الدموية القديمة(القرون الوسطى)، لاعادة ترتيب او تقسيم العالم وفق توجهات وارادات ومصالح القوى العظمى، انتهى زمن الهيمنة العسكرية، واصبح العلم والمعرفة والاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا هي معيار التقدم كما ذكرنا ذلك، لا مكان لسلطة الاغبياء بين هذه الامم والشعوب المتداخلة والمتعددة الاعراق والثقافات والمصالح، ان حركة البشرية اليوم نحو بناء حضارة انسانية لاحدود او فواصل بينها، فالكارثة الطبيعية او المتعمدة التي قد تقع في ابعد بقعة من الارض عن فرق المتطوعيين لاتمنعهم من حزم حقائب الانقاذ والمساعدة، والسفر فوق بساط الريح دون النظر الى هوياتهم او جوازتهم او خلفياتهم الدينية او الثقافية او العرقية من اجل تقديم يد العيون للانسان المتضرر...

الانسان او البلد الذي لاتوجد في قوانين صارمة تدين الارهاب والتطرف والعنصرية والتمييز والكراهية، انسان او بلد متخلف ومتراجع حضاريا...

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم