قضايا

الظواهر والمشكلات الاجتماعية

هاني جرجيس عيادمن أوائل الذين درسوا الظواهر والمشكلات الاجتماعية، العالم العربي ابن خلدون، محاولا كشف القوانين التي تخضع لها الظواهر الاجتماعية، سواء في نشأتها أو في تطورها. فرغم أن كثيراً من العلماء  قبله تعرضوا للمجتمعات، فإنهم اكتفوا بوصفها، وبيان ما كانت عليه وما هي عليه الآن، ولم يستخلصوا  قوانين تفسر العوامل والأسباب التي قادت الظاهرة لأن تسير على شكل من الأشكال. وهناك من درس الظواهر الاجتماعية أيضاً وبيّن ما يجب أن تكون عليه حسب مبادئ مثالية أبعد ما تكون عن الواقع. وحقا كان التفكير في المجتمع قديم، وتعرض كثير من الفلاسفة إلى دراسة مجتمعاتهم، ووضع بعضهم نماذج لمجتمعات فاضلة ارتضاها، وبيّنوا ما ينبغي أن تكون عليه المجتمعات. ولكن ابن خلدون درس الظواهر الاجتماعية التي تتحكم في مصيرها، وبيّن أنها تسير حسب قوانين ثابتة.

وقد قرر ابن خلدون بأن دراسة ظواهر الاجتماع لابد فيه من إخضاعها للقوانين، باحثا عن مدى الارتباط بين الأسباب والمسببات، ولم يكتف بالوصف وعرض الوقائع وبيان ما هي عليه، وإنما اتجه اتجاهاً جديداً في بحوثه الاجتماعية، جعله يعلن بصراحة أن التطور هو سنة الحياة الاجتماعية، وذلك لأن الظواهر الاجتماعية غير قابلة للركود والدوام على حالة واحدة، ومن ثَمّ كانت الأنظمة الاجتماعية متباينة حسب المكان والزمان. وقد اعتمد ابن خلدون في بحوثه على ما لاحظه في الشعوب التي عاصرها، واحتك بها ووازن بينها وبين سابقيها، ودرس العلاقات الاجتماعية، وذلك بأن جمع معلوماته من التاريخ، ثم أخضعها للعقل، ومن هنا تتجلى أصالته المنهجية.

ويتعامل الكثير من الكتاب والمفكرين والفلاسفة مع المنظومة الاجتماعية الإنسانية برؤى فكرية وآليات علمية، ومنظورات فنية، مختلفة الأساليب، ومتنوعة الاتجاهات المدرسية الفكرية والفلسفية والاجتماعية، مما ينتج  وبصورة طبيعية لاختلاف هذه الأساليب والاتجاهات في تناول المنظومة الاجتماعية بالدرس والبحث ومن ثم بالتحليل، اختلاف النتائج والاستنتاجات والرؤى لهذه المنظومة وماهية تعريفها وكيفية تشكلها، ونوعية أنماطها الفكرية.

والظواهر الاجتماعية تنشأ من التفاعل بين نشاط الإفراد والجماعات ربما تكون لغوية أو تشريعية أو أخلاقية أو دينية أو اقتصادية أو سياسية، حسب تنوع الظواهر الاجتماعية بطبيعتها الإنسانية، ومن خلال دراسة هذه الظواهر الاجتماعية نصل إلى القوانين التي تتحكم بحركة المجتمع أو إلى النظم الثابتة لهيكلية المجتمع ومن هذا فإننا نستطيع ومن خلال علم الاجتماع وإدراك قوانينه واليات تحريكه، أن نستعجل التقدم الاجتماعي أو نهيئ له المقدمات ونلطف أزمات الاجتماع الإنساني بتوفير الظروف الملائمة، كما ويمكنّنا هذا العلم من رصد الظواهر السلبية في المجتمع والعلل المرضية التي تنشأ بالعرض، لمعالجتها وبحث جذورها وأسبابها الأساسية.

والظواهر الاجتماعية السلبية هي أخطر أعداء المجتمع ومظهر من مظاهر تدميره الذاتي لنفسه دون وعي أو إدراك، ويمكن تشبيهها بالرجل قوى البنية الغني والذي يملك مختلف مصادر وأنواع القوة ومهما بلغت هذه القوة فإذا انحرف صاحبها سلوكيا وتحول هذا الانحراف السلوكي إلى مرض وفقد السيطرة على سلوكه تحول الأمر مع مرور الوقت إلى مرض وحينما يشيع هذا النموذج  في المجتمع  يتحول الأمر إلى ظاهرة، فإن لم يتصد لها المجتمع بمؤسساته الرسمية والمدنية تفاقمت الظاهرة إلى مشكلة مجتمعية وصعب الحل وتنامت كلفته الجهدية والمالية. وما يؤكده علماء الاجتماع أن الظواهر الاجتماعية السلبية قد تدمر مجتمعا كاملا وهذه حقيقة ثابتة في التاريخ وفي علم الاجتماع.

ولذا تولي المجتمعات الواعية أهمية قصوى لمحاربة الظواهر الاجتماعية ودراستها وتحليلها لوضع الخطط اللازمة لمقاومتها إن كانت سلبية أو وضع الخطط للاستفادة منها أن كانت ايجابية. وما جعل جميع العلوم في العصر الحديث تتقدم إلا أنها أخذت بخبرات الأجيال السابقة وإتباع المنهج العلمي في البحث والاستفادة منه في الحياة الاجتماعية.

تبدأ الظواهر الاجتماعية في جميع المجتمعات بفرد أو مجموعة قليلة قد لا تذكر من الأفراد تعارضت أهدافهم الشخصية مع أهداف المجتمع  وقتيا، ولرغبتهم القوية ودافعيتهم لتحقيق أهدافهم العارضة لإشباع رغباتهم الملحة خالفوا السلوك الاجتماعي لأول مرة لتحقيق أهدافهم وإشباع رغباتهم ولكن في خوف وقلق تام من ان تكتشف مخالفتهم ويتعرضوا للعقاب أو لا يتمكنوا من إشباع رغبتهم لأنه قد يخالف البعض وهو يعلم أنه سيكتشف أمره، وتعتبر هذه حالة انحراف فردي متوقع في أي مجتمع.

والفرد المنحرف سلوكيا في المجتمع إذ ترك أمره له اثر مدمر غريب على مجتمعه، ولذلك فالمنحرف إن لم يعدل سلوكه بوعي منه فسيعدل سلوك المحيطين به بدون وعي منهم حتي تتساوي الصفات السلوكية فلا يشعر بالغربة بينهم وحتى يمكنه ممارسة انحرافه السلوكي بحرية وبمساعدة منهم. وربما يحاول تعديل سلوكهم محبة فيهم وظنا منه انه سوف يكسبهم خبرة تمكنهم من تحقيق آمالهم وأهدافهم وفي نفس الوقت يتميز عنهم بأنه مكتشف هذه الخبرة. وأيا كانت الأسباب يبدأ الفرد المنحرف سلوكيا أو المخالف ينقل ويثير الدافعية للمخالفة بين المحيطين به سواء بتحفيز حب الاستطلاع والاكتشاف أو بدافع التقليد والمحاكاة أو بدافع الحاجة الفعلية إلا أن محاولة الانحراف تبدأ ويبدأ من جديد اكتساب نفس الخبرة وبنفس القوة لتطور الخبرة الانحرافية ويكون الناتج بعد فترة زمنية تقصر أو تطول تبعا لطبيعة المخالفة هو زيادة عدد المنحرفين.

ومعدل تزايد عدد حالات الانحراف يتوقف على نوع المخالفة وطبيعتها وارتباطها بحاجات الفرد الأساسية والغرائزية وحجم منفعتها وقوة آثارها في إشباع الحاجة...الخ. وبمرور الوقت والزمن تتضاعف اعدد المنحرفين سلوكيا وتتطور الخبرة السلوكية للمخالفة ويزيد معدل الانتشار وسرعته إلى أن يصبح لدينا عينة أو فئة صغيرة منحرفة بمعني اتصافها بهذا النوع من المخالفة السلوكية. وهنا يختلف الوضع تماما بالنسبة للمجتمع ككل بصفة عامة ولإدارته الاجتماعية خاصة لان هذه الفئة غير متوقعة الوجود حديثة المولد ومعلنة بمعني لا يمكن إنكارها كحالات فردية غير مؤثرة على المجتمع ولا يمكن عقابها لكبر عددها وسبب آخر وهو تورط الرقابة الاجتماعية أساسا في هذه المخالفة وتحملها جانبا من المسئولية.

وفي ظل هذه الظروف والملابسات إذا لم تردع المخالفة ويوضع نظام رقابي خاص معد خصيصا لهذه المخالفة وقانون خاص للقضاء عليها في فترة قصيرة للدفع النظام الرقابي وإعادته لحالته الأولى تحولت الفئة المريضة إلى طور الظهور والعلانية واستمدت قوة اجتماعية بالموافقة والرضا على المخالفة وتحول مفهوم المخالفة السلوكية في نظر العامة إلى مفهوم الغاية تبرر الوسيلة أو العادة. وزاد تأثير الفئة المنحرفة على باقي أفراد المجتمع. وزال الخوف والقلق المقيد للمخالفة وتحول المرض السلوكي والانحراف الاجتماعي إلى ظاهرة اجتماعية.

وكلما زاد عدد مرات تكرار الظاهرة أو عدد المشتركين فيها كلما ضعفت القدرة على السيطرة عليها أو علاجها. وأدي ذلك إلى تدمير اكبر عدد ممكن وتوقيع اكبر خسارة ممكنة للمجتمع المصاب  ووفق للفترة الزمنية التي تتمتع فيها الظاهرة بغياب الرقابة والقانون وضعف القدرة على السيطرة عليها أو إهمال الظاهرة من المجتمع على أنها ليست خطيرة بالنسبة للمجتمع. فطالما هي ظاهرة يجب أن تكون مسؤولية اجتماعية فليس بالضروري أن تكون الظواهر المرفوضة هي القتل والسرقة.

ومن هذا المنطلق يمكن احتساب الظواهر الاجتماعية من أخطر أعداء المجتمع غير الظاهرة وهي اخطر واهم من أي ظواهر اقتصادية حتى في زمن المجاعات واخطر من الظواهر العسكرية وحتى في زمن الحروب. ومن اكبر مظاهر الجهل والتخلف أن يهتم مجتمع ما بالشؤون الاقتصادية والصناعية والزراعية والخارجية ويهمل الشؤون الداخلية والسلوكية للمجتمع وخاصة الظواهر الاجتماعية مهما بلغت كلفة السيطرة عليها والقضاء عليها.

ومن المسمى يتضح ارتباط الظاهرة بالمؤثرات الاجتماعية المثيرة لدافع الانحراف السلوكي وهو نتاج خلل تطبيقي في المنهج الاجتماعي وعلاجه لا يتم إلا من خلال تطوير المنهج الاجتماعي ككل ووضع الخطط المناسبة لعلاج الظواهر.

ومن هذا فالتعرف على الظواهر يجب أن يتم عن طريق دراسة شاملة لجميع المؤثرات والدوافع الفردية والاجتماعية المرتبطة بالظاهرة وكذلك جميع الخبرات المكتسبة والوسائل والنظم المخططة لضبط والسيطرة على السلوك المرتبط بالظاهرة. وعلى سبيل المثال التسرب التعليمي قد يكون تلك الظاهرة ناتجة من الحالة الاقتصادية أو بفعل الحالة الثقافية أو الأحوال المجتمعية...الخ، وبالطبع علم الإحصاء والدراسات الاجتماعية قادر على إعطاء معدلات وأماكن وجود الظاهرة في المجتمع. وأيا كانت المثيرات والدوافع والدلائل الإحصائية يجب أن ننظر للظاهرة من منظور ارتباطها بالمجتمع عامة. فالظاهرة مرتبطة ارتباطا وثيقا بعنصر من عناصر المنهج الاجتماعي وهو الدور الاجتماعي الذي تسعي جميع المجتمعات لتأهيل أفرادها لممارسته بنجاح لتحقيق أمال المجتمع. وعندما يفشل هذا الدور كحالة فردية يعتبر انحرافا عن توقع المجتمع وأهدافه وعندما تتعدد الحالات تصبح مرضا سلوكيا وعندما تتعدد وتتكرر تعتبر ظاهرة اجتماعية.

ولنأخذ مثلا مشكلة الطلاق فان من أهم أسبابها اختلاف الطباع، وتفاوت التعليم بين الزوجين، واختلاف الرغبات والتوجهات، وانحراف الزوج في الغالب، وعدم التوافق في العلاقة الخاصة، وبخل الزوج، وصعوبة الإقامة مع الوالدين، وتدخل الآخرين بين الزوجين، بالإضافة إلى أسباب أخرى. كل هذه المعطيات ليست إلا محددات لوضع خطة لتقويم الظاهرة وعلاجها.

طالما نحن بصدد ظاهرة مرتبطة بالسلوك الاجتماعي أو الفردي يجب أن نضع في اعتبارنا أن السلوك ما هو إلا حركة تعبيرية تصدر من الفرد كاستجابة لمثير ما وتتحكم فيها مجموعة من الخبرات المكتسبة أو هي رد فعل لفعل معين وفقا لخبرات الفرد المرتبطة بالفعل، كما أن رد الفعل السلوكي أو الاستجابة السلوكية تتفق مع قوة الخبرة المرتبطة بالموقف والمحركة للدافعية وبالعودة للسلوك المرفوض وهو الطلاق يجب أن ننظر له على انه رد فعل أو استجابة لمثير ما وفق لخبرة سلوكية تحكمت في توجيه الدافعية لاتخاذ قرار هذا السلوك. ومن هنا نلاحظ أن جميع حالات الطلاق لابد أن تشترك في تلك الخبرات المكتسبة والمحركة للدافعية لاتخاذ هذا القرار ويكون السؤال الأهم والفاصل هو: أين ومتى اكتسب الفرد تلك الخبرة القوية القادرة عل اتخاذ هذا القرار؟

وبالبحث ربما نجد بعض الإجابات المحددة مثل من خبرات الآخرين المسموعة في الحالات المشابهة أو من الاجتهاد الشخصي.

وتهدف دراسة المشكلات الاجتماعية الى الإدراك الفعلي لظاهرة ما، وفق الأسلوب العلمي للمعرفة الصحية المدققة، والوقوف على أبعاد المشكلة. ورصد الآراء الاجتماعية الممكنة للحلول المنتظرة. وفهم المشكلات الاجتماعية لعلاجها وتجنبها.

وهناك جوانب يجب مراعاتها أثناء التصدي للمشكلة مثل الإمكانات المتاحة، وترابط المشكلات فيما بينها ترابطا عضوياً، وحل المشكلات بشمولية من أجل تغيير الحياة فالحلول المؤقتة لا تجدي، وأن المشكلات تعكس النظام القيمي، ودراسته مدخل للعلاج.

وتتمثل اتجاهات تفسير المشكلات في التفسير التاريخي ويعتمد على التاريخ ومراحل وتطور الإنسانية، والتفسير النفسي بحكم أن المجتمع يتكون من أفراد ولهم نفسياتهم، والتفسير الاجتماعي لأن الترابط بين المؤسسات والتغيير في أحدها يؤثر في الآخر.

يتفق المشتغلون بالعلوم الاجتماعية ومهن المساعدة الإنسانية عموما على أن الإنسان مدني بطبعه، بمعنى أنه بطبيعة تكوينه محتاج للحياة في جماعة أو مجتمع يتعاون فيه مع غيره على إشباع حاجاته وحاجاتهم، ولكن الحياة في جماعة تتضمن الدخول في عدد هائل من التفاعلات الاجتماعية التي لابد من تنظيمها، مما يؤدي إلى ظهور عدد من النظم الاجتماعية (كالنظام الأسري والنظام الاقتصادي والنظام التعليمي …الخ) التي يضم كل منها عددا من المؤسسات التي يتم في إطارها إشباع الحاجات الإنسانية، ثم إن التفاعلات التي تتطلبها عملية إشباع الحاجات في نطاق كل منها تحاط بمجموعة من المعايير والقيم التي تضبطها، والذي يعنينا هنا هو أن النظم الاجتماعية في النهاية تتضمن مجموعة من المكانات الاجتماعية التي يحتلها الأفراد بحسب موضعهم في ذلك النظام (مثل مكانة الأب، الابن، الزوجة في النظام الأسري، أو مكانة التلميذ، المعلم في النظام التعليمي وهكذا)، ثم إن المجتمع يرتب توقعات للأدوار التي ينبغي على شاغل كل مكانة من هذه المكانات أن يقوم بها، فإذا تصرف شاغلو المكانات واقعيا على الوجه المتوقع منهم فيما يتصل بأداء أدوارهم فيقال عندئذ أنهم متوافقون اجتماعيا، أما إذا عجز الأفراد عن القيام بمتطلبات شغلهم لمكاناتهم الاجتماعية (الأب الذي يقصر في رعاية أبنائه، التلميذ الذي يتكرر رسوبه أو يتعاطى المواد المخدرة، العامل متكرر الغياب عن العمل أو المعرض للحوادث بصورة متكررة) فهنا يقال أنهم غير متوافقين اجتماعيا، وعادة ما يصحب ذلك اضطراب في العلاقات الاجتماعية بينهم وبين من ترتبط مكاناتهم الاجتماعية بهم (النزاع بين الزوج والزوجة، مشاجرات التلميذ مع زملائه أو معلميه… الخ)، وهنا يبدأ الحديث عن وقوع الفرد في المشكلات الفردية أو الشخصية أو المشكلات النفسية/الاجتماعية أي المشكلات التي تتفاعل فيها شخصية الفرد بجوانبها البدنية والنفسية مع قوى البيئة الاجتماعية.

وبطبيعة الحال فإن حياة الأفراد لا يمكن أن تخلو من بعض المواقف الصعبة أو حتى الإشكالية التي يتمكن الفرد من التعامل معها سواء بمفرده أو مستعينا بأفراد أسرته أو أصدقائه، ولكن بعض المواقف والصعوبات و المشكلات الشخصية قد تستمر وتستعصي على تلك المحاولات والجهود الذاتية للحل، وهنا لابد من تدخل مؤسسات المجتمع والإسهام في حلها.

وإذا رجعنا إلى الكتابات النظرية الحديثة للتعرف على التفسيرات التي تقدمها لنا للمشكلات الاجتماعية نجد بعضهم يرى أن المشكلات عبارة عن سلوك يتم تعلمه من خلال مثيرات بيئية خارجية، وآخرون يركزون جهودهم على تحليل المشكلات على أنها مشكلات "اجتماعية" فيميزون بين عملية التفكك الاجتماعي وبين السلوك الانحرافي، ويرون أن هاتين الفئتين متشابكتان متفاعلتان في الواقع تؤدى كل منهما إلى الأخرى، بحيث أنك إذا تعرضت لدراسة أي مشكلة واقعية فستجد ما يشير إلى كل منهما ولكن بدرجات متفاوتة.

ويقارن بعض علماء الاجتماع بين التفكك الاجتماعي والسلوك الانحرافي بقولهم أنه إذا كانت نظرية التفكك الاجتماعي تركز على التغير الاجتماعي وما يؤدى إليه من اضطراب المعايير والنظم الاجتماعية فإن نظرية السلوك الانحرافي تركز على انحراف الفرد عن المعايير الاجتماعية، وبلغة أخرى فإن تفسير السلوك الانحرافي يقوم على الافتراض بأن المعايير الاجتماعية العامة سليمة، ولكن لسبب أو لآخر فإن الأفراد لم تتم تنشئتهم تنشئة اجتماعية صحيحة تضمن التزامهم بتلك المعايير.

وبصفة عامة فإننا نلاحظ أن التفسيرات التي تقدمها لنا تلك الأطر التصورية تتسم بالتركيز على الآليات والعمليات الاجتماعية من جهة، وبالنسبية الثقافية من جهة أخرى، فالتركيز على التغير الاجتماعي والتفكك الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية والضبط الاجتماعي يجعل المشكلات الاجتماعية الواسعة النطاق تبدو وكأنها أمر طبيعي تحتمه ميكانيكية هذه الآليات الاجتماعية التي لا ترحم، وأما التفسيرات التي تركز على دور المعايير الاجتماعية والثقافات الفرعية فإنها تبدأ وتنتهي من القيم الاجتماعية السائدة أيا كانت تلك القيم، فتحيل التفسير إلى قضية فنية بحتة تتم فيها مضاهاة توجهات الثقافات الفرعية والسلوكيات الفردية على القيم التي تبنتها الثقافة الحاضرة في المجتمع، أما نقد تلك القيم المجتمعية من منظور أرقى.

وعموما يمكن اجمال أسباب المشكلات في ثلاثة، أولهما النقص أو القصور في إشباع الحاجات الإنسانية (مع تعريف الحاجات تعريفا ضيقا يكاد ينصب أساسا على الحاجات المادية ثم ما يتبعها من حاجات نفسية واجتماعية) وما يترتب على ذلك القصور في إشباع الحاجات من إحباط وعدوان. أما ثانيهما ما يترتب على استمرار القصور في إشباع الحاجات من مشكلات في العلاقات مع الآخرين وفي التوافق الاجتماعي، وهو ما يعبر بالمشكلات المتصلة بعملية " أداء الوظائف الاجتماعية". وثالثهما العمليات الاجتماعية الأشمل التي تحيط بهذا كله كالتغير الاجتماعي وما يؤدى إليه من تفكك اجتماعي يتصل بقصور النظم لاجتماعية عن القيام بوظائفها بكفاءة.  

ويتضمن الأسلوب العلمي لعلاج المشكلات الفردية جانبين أساسيين يترابطان فيما بينهما أشد الترابط وهما تقدير الموقف أو الحاجة أو المشكلة أو السلوك في ضوء الافتراضات الأساسية حول الطبيعة الإنسانية، وفي ضوء النظريات المفسرة للسلوك الإنساني في محيطه الاجتماعي، وفي ضوء فهم الأسباب العامة لتلك المشكلات، واسترشادا بالنسق القيمي للمجتمع وأهدافه العامة. ويتضمن ذلك جمع البيانات الدقيقة حول الوضع الراهن الذي يعايشه الفرد بدءا من وصف الشخصية إلى مسح الظروف البيئية إلى توصيف طبيعة العلاقات بين الشخص والبيئة في الوقت الحاضر، ومقارنة الوضع الراهن بالوضع المثالي المطلوب، وتحديد مواضع الافتراق عن النمط المعياري.

 

بقلم: د. هاني جرجس عياد

 

في المثقف اليوم