قضايا

علي فضيل العربي: جناية الصوفيّة على الحضارة الإسلاميّة

يخللط كثير من الناس – للأسف – بين الصوفيّة والتقوى. ويورّطهم هذا الخلط بين المصطلحين – الناتج عن الجهل بالمفاهيم والمعاني – في جملة من المغالطات والانحرافات الفكريّة، ويجرّهم إلى ضروب من المتاهات المتاغيبيّة الماورائيّة، يصعب عليهم التحكّم في مساراتها ومآلاتها ومخرجاتها.

معنى الصوفية: جاء في موقع ويكيبيديا، ميلي: " الصوفية أو التصوف هو مذهب إسلامي، لكن عند الصوفية هو احد مراتب الدين الثلاثة، اهتم بتحقيق مقام الاحسان وتربية النفس والقلب وتطهيرهما من الرذائل وتحليتهما بالفضائل. وهو عند الصوفية الركن الثالث من اركان الدين الاسلامي، بعد ركني الاسلام والايمان. ". قال أحمد بن عجيبة: " مقام الإسلام يعبر عنه بالشريعة، ومقام الايمان بالطريقة، ومقام الاحسان بالحقيقة. فالشريعة تكليف الظواهر، والطريقة تصفية الضمائر، والحقيقة شهود الحق في تجليات المظاهر، فالشريعة أن تعبده، والطريقة أن تقصده والحقيقة أن تشهده "

والصوفيون هم جماعات ابتدعوا (من البدعة) طرقا في العبادة والتنسك في صلواتهم، وفي أذكارهم، وفي خلواتهم، ما شرعها الله. وقيل، أنّ نُعتوا بالتصوّف، لأنّهم لبسوا الصوف، وقيل: هي من الصفا، لأنهم يعتنون بصفاء القلوب من كدر الذنوب، وكدر الكسب الحرام. وقد غلب على المتصوفة البدع والزهد في الدنيا، وأغلب زهدهم كان صادرا عن الفقر والحاجة والحرمان من ضرورات الحياة الفطريّة السليمة. أي أنّه زهد فرضته ظروف الحياة الماديّة القاسيّة، او صحوة ضمير وتوبة نصوح بعد ترف ومجون وولغ في أوحال المعاصي والذنوب. أمّا مفهوم التقوى، فقد ورد ذكره في القرآن الكريم والسنة النبويّة الشريفة. وهو مفهوم يجمع بين القول والعمل، موطنه القلب السليم، وميدانه عمل العقل والجوارح. كما أنّه شديد الصلة بالواقع المعيش، وبعيد كل البعد عن الشطحات الصوفيّة والتطرّف الرهبانيّ.

ارتبطت ظاهرة الصوفيّة، منذ ظهورها، شأنها شأن الزهد، بالحقل الديني. فاعتُبرت ردّا قويّا على مظاهر الماديّة المفرطة والفساد الأخلاقي، المتمثّل في شيوع المجون قولا وفعلا. لقد شهدت أمصار الدولة الإسلاميّة، في مشرقها ومغربها، خلال فترة العصر العباسي والأندلسي، مظاهر الانحلال الأخلاقي، بسبب اتّساع الفتوح الإسلاميّة، وامتزاج الفاتحين العرب بالعجم ؛ كالفرس والترك والزنج والروم، وغيرهما. فاختلطت الثقافات وانصهرت في بوتقة واحدة، وظهرت أجيال من المولّدين، تحمل في أوردتها وشرايينها دماء وجينات متعدّدة النسب. ونظرا. أمّا من الناحيّة الفكريّة والثقافيّة والعقائديّة. فقد أثّرت فلسفة العلوم اليونانيّة وحكمة الهند والفرس، في تحوّل العقل العربي من الحياة البدويّة القائمة على الانتماء والولاء العشائري، والعصبيّة القبليّة إلى ميدان العلوم العقليّة، والتفكير العلمي البحت، وفي مقدّمتها علوم الفلسفة والرياضيات والفلك واللاهوت، وغيرها.

و بالتوازي مع تطوّر العقل العربي وانفتاحه على علوم عصره ؛ العقليّة المجرّدة والعلوم التجريبيّة، كالبصريّات والكيمياء والطبّ وغيرها. بدأت معالم الصوفيّة، تطفو على السطح، على أيدي جماعة من الزهّاد والوعاظ، الذين آثروا العزلة عن المجتمع، واعتنقوا أفكارا ومبادئء وسلوكات ترفض ملذات الحياة، وتدعو الناس إلى هجرتها والتطهّر من مظاهرها ولذائذها، بما يشبه " الرهبنة " (لا رهبنة في الإسلام). بل الأدهى من ذلك، داسوا على مبدإ " الوسطيّة "، التي تنهى عن الإفراط والتفريط، والقبض والبسط، والتبذير والتقتير. وغضّوا الطرف عن قوله تعالى: " ولا تنس نصيبك من الدنيا ". " وقل اعملوا.. " أي، عمل للعيش في الدنيا وعمل لأجر الآخرة.

لقد تجاوز الصوفيّة، بشطحاتهم الوهميّة، معالم العقيدة " الوسطيّة "، وسبّبوا للحضارة الإسلاميّة خسائر علميّة وفكريّة فادحة. حين انشغلوا، وشغلوا الناس معهم برؤاهم وتوهماتهم ومناماتهم التي تشبه أحلام اليقظة، وكراماتهم المزعومة. فبينما كان العقل النيّر في الأمم الأخرى، يبحث ويجتهد في البحث، ويقيم المعامل للتجارب، ومراصد الكشف، وينفق علماء تلك الأمم الأعجميّة أوقاتهم في خوض غمار البحث والاختراع، كان المتصوفة، يدعون الناس إلى العزلة وترك الدنيا والغوص في عوالم وهميّة، لا تختلف كثيرا عن المتافيزقيا (ما وراء الطبيعة).

الرمز الصوفي: الرموز الصوفيّة، إشارات ودلالات نفسية أكثر منها ماديّة. نظريّة أكثر منها تطبيقيّة.

يزعم الصوفيّون أنّهم يسعون إلى التقرّب من الله سبحانه وتعالى ونيل محبّته ورضوانه. والله سبحانه وتعالى أقرب إلى العبد من حبل الوريد.

* التقرّب إلى الله تعالى، لا تستدعي تلك الشطحات الفكريّة والنفسيّة، التي يحاول الصوفي إبداءها وإضفاءها وإظهارها على سلوكه وعلاقاته الاجتماعية بالخلق. فقد ارتبط الزهد، لدى البعض، بالعزلة، وكانت دوافعه لديهم الفقر والحاجة والمتربة. بينما الزهد الحقيقي والشرعي، هو اتبّاع المنهج الوسطي، فلا إفراط ولا تفريط، ولا تبذير ولا تقتير (لا تجعل يذك مغلولة إلى عنقك، ولا تبسطها كل البسط). هذا هو المنهج الرباني السليم والمفيد.

* فلا يعقل أن يدّعي المريد، أنّه مجرّد من إرادته، ايّ منزوع الحريّة، أيّ فاقد للتكليف، وهذا ما يجرّه إلى فقدان العقل، او تسفيهه، ما دام الادّعاء، بمجاوزة الرسوم والمقامات في غير مكابدة ومشقة وجهد بدنيّ. ومن المآخذ على الصوفية، أنّهم يسفّهون العقل وهو مناط التكليف، وموطن العلم (اقرأ باسم ربّك) (لعلّهم يعقلون) (أولي الألباب) (أولي النهى)، ويدّعون أنّهم السائرون والسالكون سبيل الحق بأحوالهم لا بعلمهم، الذي أودعه الله في الفطرة الإنسانيّة (وعلّم آدم الأسماء كلّها). إنّ التوجّه إلى الله والهجرة إليه والسفر إلى مرضاته، يحدث بالقلب والعقل والنفس والبدن. وإلاّ لماذا فرض الله على المؤمن طهارة البدن ومكان العبادة والوقوف والركوع والسجود والجلوس في حالة التشهّد في الصلاة والطواف والسعي بين الصفا والمروة وصوم رمضان ودفع الزكاة، لماذا، كل هذا، إذا كان السالك والمسافر، في عرف الصوفيّة، وسيلته الوحيدة توجّه القلب فقط، وترك الجسدً على صورته حتى لا يعرف أحد أنه فُقِد.

لقد ابتدعت الفيوضات الصوفيّة على مرّ العصور، مصطلحات تأويليّة، يصعب في أغلب الأحيان تفكيكها وتأويلها، وأصبغتها بصبغة قدسيّة مطلقة، ما أنزل الله بها من سلطان. وكانت سببا من أسباب تعطّل العقل والفكر والعلم النافع. كـ(السحق، والمكاشفة، والتجلّي، والتخلّي، المشاهدة، السالك، القطب، النقباء، النجباء، الأوتاد..إلخ).

و قد ألّف شيخ التصوّف والعالم الروحاني والشاعر والفيلسوف محي الدين بن عربي (1165 م – 1240 م) - الذي لقبه مريدوه وأتباعه بألقاب منها: الشيخ الأكبر، والبحر الزاخر، ورئيس المكاشفين، وبحر الحقائق، وإمام المحققين - ما يربو عن 800 كتاب، ووصلنا منها قرابة 100 كتاب، في التصوّف وعلم الكون. وعمّت آراؤه العالم الإسلامي، شرقا وغربا.

و الملاحظ، أنّ ابن عربي طلع نجمه في نهاية العصر العباسي الثاني، وقبل سقوط بغداد على أيدي التتار والمغول سنة 656 هـ (1258 م)، والذي اعقبه عصر الضعف والانحطاط (عصر المماليك والعثمانيين) (656 هـ - 1213 هـ) الموافق (1258 م – 1798 م). وهي فترة شهدت البلاد العربيّة ركودا أدبيّا فظيعا، تدهورا في المنظومة الفكريّة العربيّة والإسلاميّة وركون العقل العربي والإسلامي إلى التفكير المستند على البدع والخرافات والأوهام، كما أصبحت الفلسفة الصوفيّة مذهبا عقائديا جديدا. ومن المؤسف، حقّا، انتقال الفكر الصوفي إلى العامة، وأنصاف الوعاظ، وتفرّعت عنه ظاهرة (الأولياء)، وشيّدت على قبورهم (حسب زعمهم) قبب خصراء اللون وبيضاء، لتصبح مقامات للزوار، وملجأ للطرقيّة والزوايا، بل تحوّلت، مع مرور الوقت، إلى مقامات مقدّسة، تنافس المقدّسات الإسلاميّة في مكة والمدينة والقدس. يقصدها العامة طلبا للشفاء ورغبة في نيل بركات (خدّامها) وشيوخها، المدّعين بأنّهم أصحاب كرامات، خصّهم الله تعالى بها.

ساهمت الصوفيّة في تعطيل العقل العربي، وغاصت في البحث فيما وراء الطبيعة، بينما تركوا البحث في الطبيعة الماديّة، التي سخّرها الله لهم، وجعل لهم فيها معايش وسبلا شتّى. حوّلوا العلم إلى نظريّات مثاليّة، خارج الجوارح، وعطّلوا نشاط الجسد، وأفنوا مقاصد الوجود المادي، وأشغلوا عقل الإنسان وقلبه بمسائل فلسفية وشطحات صوفية كبرى كمسائل الألوهية والمحبة الإلهية والقول بوحدة الوجود ووحدة الشهود. وكان محي الدين بن عربي محل تبجيل وإجلال، من أتباعه ومريديه، حيث أنزلوه منزلة أرباب المواجد والأذواق، الناطق بلسان الكشف والإشراق. كغيره من أوائل الصوفية، كالجنيد (1) والشبلي (2) وذي النون المصري (3).

يقول د. شوقي ضيف أنّ أبا حمزة الصوفي المتوفي سنة 269 هـ: " أول من تكلّم على رؤوس المنابر ببغداد خالطا مواعظه بإصطلاحات الصوفية وأفكارهم من صفاء الذكر وجمع الهم والمحبة والعشق والأنس، وكان هؤلاء الوعّاظ يجذبون إليهم الناس بأكثر ممّا يجذبهم الوعّاظ العاديون لقيام حياتهم على الزهد والتقشّف ورفض كلّ متاع. " ص 528 / ص 529. (4) ويقول أيضا: " وتكوّنت حول هؤلاء الوعّاظ من المتصوّفة سريعا حكايات كثيرة تصوّر جهادهم العنيف في قمع شهوات النفس ولذّاتها وكيف كان الصوفي يفرض على نفسه عناء شاقا مضنيّا لا يطيقه إلاّ أولو العزم. " ص 529 / (5) المصدر نفسه.

و قد رويّ عن بشر الحافي المتصوّف المتوفي سنة 227 هـ من أنّه مرّ ببعض الناس فسمعهم يقولون: هذا الرجل لا ينام الليل كلّه ولا يُفطر إلاّ في كلّ ثلاثة أيّام مرّة، فبكى حين سمعهم يردّدون هذا الكلام. وسأله سائل: ما يبكيك ؟ فقال: إنّي لا أذكر أنّي سهرت ليلة كاملة، ولا أنّي صمت يوما ولم أفطر من ليلته، ولكن الله سبحانه وتعالى يلقي في القلوب أكثر ممّا يفعله العبد لطفا منه سبحانه وكرما " المصدر نفسه / ص 529. (6) عن رسالة القشيري / طبعة سنة 1346 هـ.

و الباحث في أعماق التراث ولججه، ستواجهه قصص وحكايات عجيبة عن حياة المتصوّفة ومصطلحاتهم وأفكارهم وشطحات مكرماتهم المزعومة. فقد أنزلوا أنفسهم منازل فوق الأرض والبشر، ونسبوا لأنفسهم الخوارق من الأفعال، ووصفوا أنفسهم بأقوال لا يصدقها العقلاء، ولا يستسيغها العقل الراشد. ألزموا أنفسهم وأتباعهم (مريديهم) ما لا لزوم له. وحوّلوا الإيمان بالله والتقرّب إليه إلى تعذيب للنفس، وإرهاق للروح. وحرّموا على أنفسهم ومريديهم (أتباعهم) ما أحلّه الله من الطيّبات، اعتقادا منهم – وهو اعتقاد لا أساس له في الدين ولا مسند له في العقيدة – أنّهم بنهج الصوفي ذاك، يزدادون قربا إلى الخالق سبحانه وتعالي. ونسوا أو تناسوا أو غضوا الطرف عن قوله تعالى: " ……… … »

يقول د. شوقي ضيف نقلا عن تلميذ الحلاج ابراهيم الحلواني (أخبار الحلاج ص 20): " دخلت على الحلاج بين المغرب والعشاء، فوجدته يصلي، فجلست في زاوية البيت، كأنّه لم يحس بي لاشتغاله بالصلاة، قرأ سورة البقرة في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية آل عمران، فلمّا سلّم سجد وتكلّم بأشياء لم أسمع بمثلها، فلمّا خاض في الدعاء رفع صوته كأنّه مأخوذ عن نفسه، ثم قال: يا إله الآلهة ويا رب الأرباب ويا من " لا تأخذه سنة ولا نوم " رُدّ إليّ نفسي لئلا يفتتن بي عبادك، يا هو أنا، وأنا هو، لا فرق بين إنسيّتي (وجودي) وهويّتك إلاّ الحدوث والقدم. ثم رفع رأسه ونظر إليّ وضحك في وجهي ضحكات. ثم قال: يا أبا إسحق، أما ترى أنّ ربي ضرب قدمه في حدوثي حتى استهلك حدوثي في قدمه، فلم يبق لي صفة إلا صفة القدم، ونطفي في تلك الصفة، والخلق كلّهم أحداث ينطقون عن حدوث، ثم إذا نطقت من القدم ينكرون عليّ ويشهدون بكفري ويسعون إلى قتلي، وهم بذلك معذورون، وبكل ما يفعلون بي مأجورون " ص 531 / 532. (7)

و المتأمّل لهذه الشهادة الصادرة عن تلميذ لأحد أكبر الصوفيّة، يستخلص، إلى أيّ مدى وصل الصوفيّون في اعتقادهم الضال والمضلّل. وهو اعتقاد لا سند عقلي يسنده، ولا منطق عاقل يصدّقه، لأنّه لا يعدو أن يكون وهما كاذبا وخرافة وضلالة وادّعاء باطل، يسوق صاحبه إلى الكفر الصريح.

لا أدري، إلى أيّ مدى، كان يسعى الحلاج، ويمنح نفسه، التي ألهمها الله الفجور والتقوى، وجعلها تارة تذنب وتارة تتوب، هذه الصفة الربّانيّة، ووسما بها إلى عتبة القداسة ؟

لقد تحولت هذه الحكايات الصوفيّة إلى نوع من القصص الشعبي المتداول بين عامة الناس، ممّن لا فقه لهم في مسائل الدين والعقيدة. لم يكن المخيال الشعبي بمقدوره الصمود أمام هذه الحكايات الصوفيّة نظرا لهشاشة، بل انعدام، الملكة النقدية لديه بشكل كليّ. إنّ العقل العامي (الشعبي)، عقل عديم التأويل المعرفي والدلالي. لهذا السبب، شكّلت الصوفيّة خطرا داهما على النسيج الاجتماعي وبالخصوص المربّع العقائدي لدى عامة الناس وذوي التحصيل العلمي المحدود والمستوى التعليمي الزهيد. يقول الدكتور شوقي ضيف: " وهذه الحكايات الصوفية أخذت تكوّن ضربا من ضروب الآداب الشعبيّة العربيّة، إذ كان الناس يتداولونها رجالا ونساء وشيبا وشبّانا، وكأنّ التصوّف كان عاملا قويّا في ظهور تلك الآداب وطبعها بطوابع الشعب ولغته وألفاظه. " ص 530. (8).

و من أعجب ما تداولته كتب التراث العربي الإسلامي، قصص الكرامات التي نُسبت إلى أشخاص، يُوصفون بأنّهم صوفيون، ولا ندري هل هم بشر من سلالة آدم، أم هم من سلالة الجنّ أم هم من سلالة الوهم والخيال والخرافة والادّعاء. ومن هذه القصص العجيبة في محتواها والغريبة في تفاصيلها، ما روي عن رجل اسمه بنان الحمّال المصري المتوفي سنة 316 هـ. " فقد قيل إنّ خمارويه أمر بأن يُطرح بين يدي سبع، فطُرح وبقي ليلته، وجعل السبع يشمّه ولا يضرّه، فلمّا أصبحوا وجدوه قاعدا مستقبل القبلة والسبع بين يديه، وعجب خمارويه، فأطلقه واعتذر إليه. " ص 530. (9).

و لا ندري، هل كان السبع جائعا أم شبعا ؟ وهل كان السبع بريّا ضاريّا أم من السباع المروّضة ؟ لم يخبرنا راوي القصة (الكرامة) بذلك. وأورد الدكتور شوقي ضيف قصة أخرى من قصص الكرامات (الصوفيّة)، فقد " حُكي أنّه كان لرجل على آخر دين: مائة دينار، بوثيقة، فطلب الرجل الوثيقة فلم يجدها، فجاء إلى بُنان ليدعو له، لعلّه يجد الوثيقة الضائعة، فقال له بُنان: أنا رجل قد كبرت وأحبّ الحلواء، اذهب إلى قريح (حلواني)، فاشتر رطل حلواء وائتني به، أدعو لك، ففعل الرجل، وجاءه. فقال له بُنان: افتح ورقة الحلواء، ففتحها، فإذا هي الوثيقة، فقال: هذه وثيقتي، فقال بُنان: خذها. وأطعم الحلواء صبيانك. " ص 530. (10).

إنّ هاتين الحكايتن، لا يصدّقهما إلاّ العامة من الناس وجمهور المغفّلين. فهما تصلحان أنّ تصنّفا في أخبار المنجّمين وسحرة بابل. وتعكس هذه القصص (الصوفيّة)، وغيرها، والمصنّفة ضمن الكرامات (الدينيّة)، المنسوبة إلى أناس انتحلوا صفة الإيمان والتقرّب إلى الله تعالى، وادّعوا حقّ اليقين وعينه وعلمه، حالة المجتمع الإسلامي، ومستوى التفكير الذي نجم عن شيوع الخرافة والترّهات وسيطرتهما على العقول التائهة في خضم المفاهيم الأخلاقيّة المغلوطة، والتديّن المخالف لروح الدين الحقّ. وهو نوع من التفكير الفلسفي الذي عطّل مبدأ السببية، وسفّه التفكير العلمي، وهمّش العقل والمنطق.

لم تكن الأمّة الإسلاميّة، وتحتضر تحت نير الاحتلال الصليبي، وتفقد مكانتها الحضارية، في حاجة إلى الصوفيّة، وقد فلت منها زمام مصيرها الحضاري. منذ القرن السابع الهجري، الموافق للقرن الثالث عشر الميلادي. بل كانت في حاجة ماسة وضروريّة إلى إعادة مجدها العباسي والأندلسي، وإحياء العلوم العقليّة والإنسانيّة التي وضع أسسها علماءها الأفذاذ، من أمثال ابن سينا وابن رشد والفارابي وابن الهيثم وابن النفيس وابن خلدون والخوارزمي وجابر بن حيّان وأبي حامد الغزالي ووووووو. لبناء حضارة أصيلة وجديدة خدمة للإنسانيّة جمعاء، وتقف في وجه الفلسفة الماديّة، التي أفسدت العقل البشري والأخلاق معا. وحوّلت الإنسان إلى مجرّد آلة صمّاء.

تأخرت الأمّة العربيّة الإسلاميّة، وأفلت شمسها شرقا وغربا، وسقطت في شراك الخرافات والأساطير والترّهات. وبمثل هذا التفكير، الذي لا يستقيم له عقل قويم، ولا قلب سليم، أضاعت أمّة (اقرأ) معالم الريادة الحضارية، بعد قرون من سطوعها على البشريّة جمعاء. تلك الحضارة، التي أغنت الغرب والشرق بالعلوم العقليّة والإنسانيّة والآداب. في فترات كانت فيها روما، وقبلها أثينا وغيرهما، تحارب العلم والفلسفة وتحاكم العلماء والفلاسفة، فتعدمهم أو تحبسهم أو تنفيهم.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر ..........................

هامش:

(1) الجنيد: اسمه أبو القاسم الجنيد النهاوندي البغدادي القواريري، من مواليد بغداد في العقد الثالث للقرن الثالث الهجري. من أعلام الصوفية، لقب بـ (سيّد الطائفة) و(طاووس العلماء).

(2) الشبلي: هو أبو بكر دلف بن جحدر الشبلي، ولد سنة 247 هـ، صحب الجنيد وعلماء عصره مات ببغداد سنة 334 هـ، وقبره هناك. قيل أنه اكتحل بكذا وكذا من الملح ليعتاد السهر ولا يأخذه النوم.

(3) ذو النون المصري الزاهد، شيخ الديار المصريّة ثوبان بن إبراهيم، النوبي الإخميمي، ويكنى أبا الفيض، ولد في اواخر أيام المنصور: توفي سنة في ذي القعدة 246 هـ.

(4) العصر العباسي الثاني / د. شوقي ضيف / ط. 4 / دار المعارف.القاهرة.

(5) المرجع نفسه.

(6) المرجع نفسه.

(7) المرجع نفسه.

(8) المرجع نفسه.

(9) المرجع نفسه.

(10) المرجع نفسه.

في المثقف اليوم