قضايا

كيف انبثقت حروب العلم في العشرين

محمود محمد عليشهدت أقسام العلوم الإنسانية في كليات الآداب بالجامعات الأمريكية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين عدداً كبيراً من الأساتذة والمفكرين الفرنسيين الذين يتبنون أفكار ما بعد الحداثة، وقد ثبت أن طريقة هؤلاء في معالجة قضايا الواقع ومستجداته " خالية من أية معان عميقة، أو بلا معنى على الإطلاق"، وقد ذكر الصحفي اللامع الأستاذ "فاضل السلطاني" في مقال له بجريدة الشرق الأوسط، بعنوان " الفرنسيون آخر من يعلم "، أن هذا الانطباع عن الفلاسفة والنقاد الفرنسيين المحدثين ليس جديدًا في أمريكا. فهو معروف منذ دخلت بعض أفكارهم إلى بعض الجامعات الأمريكية العريقة.

ويصور هذا الانطباع مقال نشر في المجلة الأسبوعية لجريدة نيويورك تايمز منذ عام 1985م عن "الغزو الفرنسي" لأقسام الأدب في الجامعات الأمريكية ( وقد نشرت جريدة الهيرالد تريبيون Herald Tribune ) ملخصاً وافياً له؛ بعنوان: التفكيكية وما إليها: من غابة النقد في جامعة ييل".

وفي أواخر تسعينيات القرن العشرين نشبت ظاهرة حروب العلم Science Wars داخل أقسام الإنسانيات؛ حيث أخبرنا عنها المفكر الأمريكي " جيمس تريفل"،  قائلاً:" يمكن القول في البداية إن حروب العلم نشبت بفعل فلسفة ما بعد الحداثة غير التقليدية التى سرت كالعدوى داخل أقسام الإنسانيات فى الجامعات الأمريكية في أواخر القرن العشرين . وتأسيساً علي النظرية الأدبية الفرنسية فقد أكدت وجهة النظر هذه البناء الاجتماعي للمعرفة، ومن ثم تنكر عادة صواب فكرة الحقائق الموضوعية . ونعرف أن أشد دعاتها تطرفاً ( وما أكثرهم ) قد إنحدروا إلي صورة مبتسرة من الذاتية أو الأحادية المطلقة.

ولم يكتف هؤلاء بذلك، بل شنوا هجوماً عنيفاً علي صحة العلم؛ حيث رأوا أن أحكام العلم لا تعبر عن وقائع طبيعية، ولا تنطلق من أساس تجريبي أو واقعي معين، إنما تنبع من أحكام سابقة سبق أن حصل الاتفاق حولها بنسبة ما، فتكون أحكام العلم مقبولة لدى جماعة العلماء، وهذا القبول لا يأتي من كونها تحمل تفسيراً صائباً لوقائع معينة، ولا من كونها تتمتع بموضوعية ما، بل إن ذلك القبول مشروط بالتضامن بين الجماعة التي تأخذ بها لاعتبارات ظرفية. وهذا أدي إلي قلق كثيرين في الأوساط العلمية؛ خاصة ما جري للغة البناء الاجتماعي من استبدال وتغيير بعض المصطلحات ومحاولة السيطرة السياسية للعلم في المجتمع .

وفي عام 1996م أخرجت جامعة Duke الأمريكية مجلتها الأكاديمية التي كانت، بعنوان "النظرة النقدية لما بعد الحداثة "، وأشارت فيها إلي حروب العلم في مقالات مختصرة ووجيزة . فقد استخدم الاكاديميون لغة وفكر ما بعد الحداثة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وظهر بذلك دور المجتمع والسياسة في العلم.  وفي مقدمة الاطروحة علق المحرر " أندروا روس Andrew Ross " قائلا أن الهجوم علي دراسات العلم كان نتيجة تقليص الدعم المادي للعلوم في الولايات المتّحدةِ مع نهاية الحرب الباردة، وعندما كان الكونجرس يهدد في وضع تخفيضاتَ أخرى من التمويل الحكوميِ للعِلمِ، بالإضافة إلي نقص التمويل المادي للعلوم الانسانيةِ.

وهنا يؤكد بعض الباحثين فيقول:" إن ما يسمي بحروب العلم يتمثل في أن أنصار العلوم الإنسانية تقفون في مواجهة ضد كل ما يتعلق بالعلوم الطبيعية، هذه المواجهة أخذت شكل معارك فكرية حول نظرية المعرفة، والميثودولوجيا، والابستمولوجيا، والمنطق . واشتعال الحروب بينهم، أثار اهتمام الرأي العام علي نطاق واسع؛ خاصة بعد أن شن أنصار الثقافة التقليدية هجوماً عنيفاً علي صحة العلم، مما أدي إلي قلق كثيرين في الأوساط العلمية "

وإذا ما حاولنا أن نؤصل لتاريخ حروب العلم نجد أنه حتي منتصف القرن العشرين قد شن أنصار العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية هجوما عنيفا علي صحة العلم، مما أدي إلي قلق كثيرين في الأوساط العلمية؛ خاصة ما جري للغة البناء الاجتماع، مما أدي إلي قلق كثيرين في الأوساط العلمية، لا سيما ما جري للغة البناء الاجتماعي من استبدال وتغيير بعض المصطلحات ومحاولة السيطرة السياسية للعلم في المجتمع . ويمكن أن نذكر علي سبيل المثال " علم خلاق creation Science و" التصميم الذكي" واستمر التقييم الخلاق موضع خلاف في كتاب بعنوان " الخرافة الأعلي – اليسار الأكاديمي ومشاجراته مع العلم Higher superstition – The Academic Left and its Quarrels With Science عام 1994. وقد هاجم  "بول ر. جروس Poul R.Gross  و " نومان لفيت  Norman Levitt هجوما مضادا لدعاة ما بعد الحداثة العقلية ورأو أنهم لا يعرفون سوي القليل عن النظريات العلمية، حيث حدث سوء فهم للمناهج النظرية، كما أن قراءتهم كانت خاطئة ولم يكن لديهم الدليل والحجة. وهذا ما حدث حين أثبت كتاب " شرارة لحروب العلم . ويمكن القول أن المؤتمر الذي عقده "جروس" و"لفيت" و"جيرالد هولتون بعنوان " الرحلة من العلم والعقل " . والذين حضروا المؤتمر انتقدوا النظرة الأنفعالية لـ  "جروس" و"لفيت" و"جيرالد هولتون والتي نجم عنها تضارب ثقافي بين العلماء الغير المتخصصين.والمثقفون في الدراسات الاجتماعية التي تتعامل مع العلم .

في عام 1996م أخرجت جامعة Duke مجلتها الأكاديمية التي كانت بعنوان "النظرة النقدية لما بعد الحداثة "، وأشارت فيها إلي حروب العلم في مقالات مختصرة ووجيزة . فقد استخدم الاكاديميون ما بعد الحداثة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وظهر بذلك دور المجتمع والسياسة في العلم. وفي مقدمة الاطروحة علق المحرر " أندروا روس Andrew Ross " قائلا أن الهجوم علي دراسات العلم كان نتيجة رد فعل لانخفاض التمويل للأبحاث العلمية . وحدد المؤتمر خصائص العلم والعقل معاً وما يواجههما من تهديدات خطيرة مثل النزعة العلمية الخلاقة Scientific Creationism، البدائل والطوائع الخاصة بالعصر الجديد، علم التنجيم، الجسم الغريب، حركة التضامن الدولية، علوم الحركة الراديكالية لما بعد الحداثة، دراسات العلوم الحرجة جنباً إلي جنب مع الدراسات التاريخية الجاهزة وأشباح من النازية الأرية والخطأ السوفيتي أيضاً .

ويذهب " دروثي نيلكن Dorothy Nelkin إلي أن المزج بين العلم والدولة فاشل، ويري علماء الاجتماع أنه من الأفضل تجنب المشاركة في التهديدات السياسية المتصورة مثل العلم الخلاق وحركة حقوق الحيوان والإجهاض ومحاولات مضادة للحد من البحوث المتعلقة بالأجنة والحرب الباردة بين الاتحاد السوقيتي والولايات المتحدة الأمريكية (1945-1991) ورفض التمويل العسكري للعلم . كذلك ذكر " نيلكن" أن نقاد ما بعد الحداثة كانوا كبش فداء مناسب إلي تحويل الانتباه عن المشكلات في العلم .

وفي هذا الإطار قدم الفيزيائي " آلان سوكال" بالمجلة الأكاديمية للنص الاجتماعي مقال بعنوان "انتهاك الحدود : نحو هيرمينوطيقا تحويلية لجاذبية الكوانتم، ويقترح فيه أن جاذبية الكوانتم تمثل نزعة لغوية وبناء اجتماعي وأن فيزياء الكوانتم تؤيد النزعة النقدية لما بعد الحداثة إزاء الموضوعية العلمية ز والنص الاجتماعي هو مقال منشور في في ربيع – صيف مايو 1996بعنوان "حروب العلم" .وفي مقال لاحق في مايو صدر في Lingua Franca وعنوانه التجارب الفيزيائية من خلال الدراسات الثقافية يتعرض سوكال لما ذكره في مقال له في " انتهاك الحدود"، وهنا يستخدم سوكال التجربة لاختبار دقة الفكر، فهو يري إذا كان (أ) يبدو في الظاهر واضحاً و(ب) يمكن أن تعلمها بالمعرفة الايديولوجية المسبقة .ويري سوكال أن فحوي الغش التجاري بين العلماء الاكاديميين هو السبب من وجهة نظر الجمهور في حروب العلم الموضوعية .

بعد سنوات قليلة من المجادلات حول مقال حروب العلم من خلال النص الاجتماعي،كانت هناك مناقشات واسعة تركزت حول التوفيق بين دعاة ما الحداثة والعلماء . وفي أوائل عام 1997م عقد مؤتمر من قبل العديد من العلماء والباحثين لدراسة العلوم، وظهر كل من " آلان سوكال"، "ستيف فولر Steve Fuller كمتحدثين رئيسيين . ولقد لقي هذا المؤتمر تغطية كبيرة من خلال وسائل الأعلام والدوريات العلمية علي حد سواء، وذلك علي الرغم من عدم وجود وسائل لحل المسألة الأساسية بين البناء الاجتماعي والموضوعية في العلم.

ولقد بذلت محاولات أخري للتوفيق بين المعسكرين، فقد أقام الفيزيائي "Mike Nauenberg " في جامعة كاليفورنيا في سانتاكروز مؤتمر صغير وذلك في مايو 1997م وقد حضر هذا المؤتمر لفيف من علماء الاجتماع والعلماء المتخصصين في العلوم الطبيعية علي حد سواء , وكان من بين الحضور آلان سوكال وديفيد ميرسن، وهاري كولينز . وفي العام نفسه، نظمت منظمة كولينز ساوتامبتون للسلام ورشة عمل، والتي حملت معا مرة أخري مجموعة واسعة من العلماء الطبيعيين وعلماء الاجتماع .

وقدمت هذه الورشة فكرة الكتاب الذي يهدف إلي رسم بعض الحجج بين الأطراف المتنازعة . وقد أكد عالم الفيزياء "جاي لينجز" فكرة " الثقافة الواحدة" وأخرج لينجز بالتعاون مع عالم الاجتماع "هاري كولينز" الكتاب في عام 2001.ويتضمن هذا الكتاب برنامج لثقافتين، كما يتضمن الكتاب مساهمات كل من آلان سوكال وجان بيروكمونت Jean Bricmont وستيفن وينبرغ Steven Weinberg وستيفن شابين Steven Shapin .

وفي عام 2001 أيضاً قام الاستاذ "بينت فلفيبرجBent Flyvbjerg  الأستاذ بجامعة كمبردج بإخراج كتابه " موضوع صناعة العلوم الاجتماعية بالتعرف علي طريق للخروج من حروب العلم بالقول بأن:

1- أن العلوم الاجتماعية هي Phronsis، في حين أن العلم الطبيعي هو ابستيمي Episteme.

2- فكلمة Phronsis هي تحليل وانعكاس لمناقشة القيم والمصالح والتي هي أساس تكوين ونمو أي مجتمع في حين كلمة ابستمي Episteme نجدها جيدة لتطوير النظرية التنبؤية .

3- المجتمع الذي يريد أن يعمل بشكل جيد، يحتاج كل من Phronsis، Episteme بشكل متوازن.

وهناك منشورات هامة أخري متصلة بحروب العلم مثل "هراء حصرية " لسوكال وجان في 1998." مما يتكون البناء الاجتماعي بواسطة لان هاكينج في 1999، وكذلك من " قواعد في العلوم " لجيمس روبرت براون. وكذلك الشئون في 2002م ويعتبرغلاف للجدل من قبل سوكال. ويري سوكال أن أي شئ يعتبر هراء في مقابل الفيزياء . ويري دعاة ما بعد الحداثة أن المرء يمكن أن يعرف علي وجه اليقين ما هو صحيح وما غير صحيح، في حين يري البعض مثل كورنيل وهو استاذ للفيزياء، وكذلك بول جيتسبرج بأن الحالات الإنسانية ليست جميعا متشابهة في واقع المر، بل أن المعايير والمؤسسات تختلف .

ويمكن القول أن الفائدة من حروب العلم قد تضاءل كثيرا في السنوات الأخير علي الرغم من أن حروب العلم لا تزال تمثل الأحداث الأساسية في الرئيسية وكانت تؤثر علي المجتمع، ويري الطرفان أن كل منهما لا يفهم الآخر وأن الحوار بينهما هو حوار الصم والبكم ولذلك فكل منهما ينتقد الآخر. وقد وضع برونو لاتور مؤخرا كتاب بعنوان " العلماء دائما أثناء مقابلتهم يتحدثون عن سد الفجوة بين الثقافتين، لكن عندما يبدأ الأشخاص في بناء هذا الجسر يجدوا كبت للحرية وذلك منذ سقراط . لهذا اقترح لاتور إعادة تقييم في نظرية المعرفة وعلم الاجتماع بناء علي الدروس المستفادة من حروب العلم "... العلماء جعلونا ندرك أنه ليس هناك فرصة وأن هذا النوع من القوي الاجتماعية التي نستخدمها هي سبب للحقائق الموضوعية وآثارها.

ومع ذلك في الآونة الأخيرة أتضح أن الانتقادات الموجهة إلي بعض العلماء جاءت بنتائج عكسية . ويري برونو لاتور أن المتطرفين الخطرين يستخدمون نفس الحجة من البناء الاجتماعية، وذلك لتدمير الأدلة التي يمكن أن تنقذ حياتنا . ويذهب لاتور إلي أنه كان مخطئا في اختراع هذا المجال المعروف باسم دراسات العلوم، ويذهب إلي أنه هل كان أفضل أ يقول اننا لا نعرف ما المقصود، ويري البعض أن هذه الورقة تمثل "لا تور" في وقت سابق من ادعاءاته.ولكن يري البعض الآخر أن هجومه علي البناء الاجتماعي تتفق مع مواقف سابقة لديه أخذها من كتابه" مختبر الحياة" الذي كان قد نشره في عام 1979.

 

د. محمود محمد علي

 

في المثقف اليوم