قضايا

الوعي قائد نص تشريحي

انور الموسويفي البدئ هنا أود الإشارة إنني لست بصدد محاكمة الوعي بما هو وعي ناضج ومحترم ومهم، ولا بما هو انسيابية مشروطة للعقل لمجموعة من الاختبارات، والجهد، والتعلم، كي يتولد ذلك الوعي. والذي هو ليس بالضد من الجهل، بل هو عكس عدم المعرفة، هذا ما يصح قوله في هذا البحث.

لكن هنا أود أن أشير على الفاصل بين امرين، بين الوعي، واللاوعي الجمعي، أي ما يسمى "عتبة الوعي" مستندا على أدوات بحثية مختصة بسيكولوجيا الشخصية الجماعية والفردية وإلى مصادر فلسفية، وسيكولوجية، وفكرية.

مفهوم الوعي قائد:

هذا المفهوم تجذر بصورة استباقية في نفوس جميع المتظاهرين والثوار أبان ثورة أكتوبر المباركة، وبحسب الفهم الأولي لهذا المصطلح فانه يجسد حالة من المعيارية لرفض الانقياد، مع رفض التجزئ إلى أي مفهوم فئوي أو حزبي، وكانه يراد منه القول: إننا الوحيدون القادرون على انتتاج منظومة متكاملة من التغيير السياسي ونرفض أي تدخل من أي جهة وخاصة السياسية منها.

ضبابية المصطلح لا تكمن بالمصطلح نفسه، ولا بتعريفه أيا كان التعريف غير الذي أشرت اليه مسبقا، أن المجهول في تلك المعادلة يكمن في طريقة الانقياد للوعي، وفي الية التعامل مع ذلك الوعي، وماهي أهدافه المرسومة. ضمن الأهداف المرسومة لم يحقق مصطلح " الوعي قائد " أي فعالية منسجمة بين الجماهير التي تدعيه. بل حقق مجموعة من الانقسامات والاختلافات المفصلية في تحديد نوعية الأهداف وأولوياتها، وكمثال على ذلك لم ينجح (الوعي قائد) في تحقيق اطلاق جمعي بالقبول بقانون الانتخابات ولا في رسم أهداف حقيقة للعمل السياسي المنظم، ولا حتى في قبول أو رفض بشكل مطلق رئيس الوزراء أيا كان اسمه. لذلك فهنا مصطلح الوعي قائد للأفراد هو مصطلح هلامي ضبابي لا يتسم بتحقيق أهداف مضمونة النتائج بل هو يزيد من حدة التنافرات والاختلافات ومن ثم الصراع والانقسام وهو مفهوم يجب أن ينظر له على انه نسبي وليس مطلق وهذا ما يؤكده كانط في كلامه (إذ يميز بين الوعي بالذات والمعرفة. فهو يرى أن وعي الذات لنفسها كوجود أخلاقي لا يعني بالضرورة وعينا المطلق للأشياء؛ لأننا نجهل النومينات (الأشياء في ذاتها)، ومن ثمة يظل وعينا بالأشياء وعيا نسبيا).

خارطة طريق الوعي قائد:

كما أسلفت في التعريف السابق لهذا المصطلح، فاني أضيف انه يضع معيارا لعدم الثقة، عدم الثقة هذه قد تكون منطقية لظروف موضوعية وسياسية للأحزاب الحاكمة، لكن معيارها المطلق على الارتكاز على نفسها كونها هي فقط من تقود أي (أصحاب الوعي قائد من الثوار) فهذا يشكل تطرفا من نوع أخر، بل أقصاء ذو أبعاد نفسية سيكولوجية ولربما نرجسية، وبذلك لن يصبح وعيا بشكله الحالي، بل يكون فكرا ناتج عن ذلك الوعي متوضع ضمن الرفض للأخر، والإقصاء، وقد يصل إلى مدار التخوين والتشكيك في النوايا، وهذا امر يشكل خطرا أكيدا على ذاكرة المفكر نفسه (المثقف الوسطي) وعلى منهاج الإدارة لذلك الوعي وطريقة تعاطيه مع الآخر سواء الناصح له أو المختلف عنه في المتبنايات جذرا أو عرضا وبالتالي خطرا مجهضا لأهداف الثورة، حينها يسقط الوعي كقائد بسقوط عدم التعددية والقبول وسماع الأخر. لن يصبح وعيا بل يكون تعنصرا وتموضعا متطرفا لغاية ما، وان كانت هادفة أو منطقية، في حين نظرة سارتر للوعي تختلف تماما عما نجده اليوم ضمن محركات ثورة تشرين، يرى الوعي بالآخر في فلسفته الوجودية إذ يقول: (أن الآخر هو الذي يجعلني أعي ذاتي: فأنا حين أكون لوحدي أحيى ذاتي ولا أفكر فيها، لكن بمجرد أن أرفع بصري فأرى الآخر ينظر إلى أخجل من نفسي، لأنني أصبحت أنظر إلى نفسي بنظرة الآخر إلي. فنظرة الآخر إذن هي التي تجعلني أعي ذاتي كشيء خارج عني. فالآخر هو الوسيط الذي يجعلني أموضع ذاتي. هكذا يكون الآخر، الوجود الأساسي الذي يجعلني أجعل من ذاتي موضوعا للوعي)

الوعي قائد لجماهير ذو حدين (فاضلة أو مجرمة)

الوعي وحده لا يكفي لتلك المهمة، فالانحياز إلى مشروطية الوعي الجمعي فحسب، يؤدي إلى فقدان السيطرة في لحظة ما على الأوضاع، وقد يسبب نتائج فادحة الخطورة والخسارة.

تشكل الجماهير روح الأمة، روح الأمة النابض بالإنتاج والإبداع والتقدم وهي مرتكز أكيد لتقييم حالة البلدان فيما لو تم تقنين عمل تلك الجماهير تحت رعاية الدولة من جانب الأيدي العاملة، أو تحت رعاية من يقودها كأحزاب ومنظمات وجمعيات...الخ. هذا من جانب. من جانب أخر الجماهير المتكونة على شكل مجموعات تتبنى اعتراضا أو احتجاجا معينا_ هي الجماهير المستهدفة ضمن حلقة المقال هذا.

فجماهير التنوع السياسي، والتغيير السياسي، والواقع السياسي التي خرجت من رحم المعاناة وضيق الخدمات بل وانعدامها، وعدم وجود العدالة، تلك الجماهير هي التي تقود الاعتراض والاحتجاج، بصرف النظر عن (دراسة طبيعة تلك الجماهير إن كان بعضها مسيسا أو لا، ممولا أم لا، مدفوعا ضمن اجر أم لا). هنا نأخذ العينة الأبرز والأنقى في روح الجماهير المنتفضة ونسقط عليها الافتراضات العلمية.

ضمن فرضية (الوعي قائد) فان الجماهير تتجه نحو الدلالة الإيجابية لهذا الهدف، هذا هو المفهوم (الطهراني) لتلك الجماهير، لكن حين النظر إلى البعد السيكولوجي لطبيعة الجماهير، بغض النظر عن الشاعرات أو الفرضيات المتبناة، والتي منها شعار السلمية، تبقى الجماهير بحسب طبيعتها النفسية، ومدارات الإرث والرثاثة الماضوية والعرقية، تبقى الجماهير علميا غير مستعدة دوما لممارسة الدور الطهراني هذا، وذلك ما يشهد به حتى أصحاب الحراك (الثورة) انفسهم حينما تقع أخطاء، واختراقات تؤدي إلى مساوئ كثيرة وكبيرة أو صغيرة، فهم سرعان ما يحاولوا تبرئة ساحة الاحتجاج من تلك الأفعال والتركيز على نقاء هذا الحراك وإعطاء مبررات الاندساس أو غيرها على أصحاب الأفعال التخريبية. في الحقيقة هي ليست أفعال عابرة، وليست طارئة إلى حد ما، (إن السلوك الفردي المغاير لطبيعة تلك الأفعال، ما إن ينسجم مع الإرادة الجماهيرية حتى تحركه الإرادة اللاوعية لروح الجماهير) أو " الوحدة النفسية للجماهير " فبالإمكان أن تكون الجماهير طهرانية فاضلة إلى حد ما، وأيضا بالإمكان أن تكون مجرمة أو منتهكة ومخربة أو تختلط لديها الرغبات النفسية في وحدة جماهيرية متحدة لإسقاط الغضب والحقد والانتقام والتكسير والحرق وحتى القتل ربما. يقول المنظر الاشتراكي الألماني كاول كاوتسكي عن الجماهير (إن تصرفاتها تظل غير متوقعة، وهدامة. وميالة للمحافظة جزئيا على الأقل. ويضرب كاوتسكي أمثلة المذابح التي جرت ضد اليهود في اوربا، وذبح السود في امريكا من قبل البيض. يستخلص قوله نجد إن عمل الجماهير لا يخدم قضية التقدم دائما، فما يدمره ليس دائما تلك العقبات الأكثر عرقة للتنمية. فالجماهير تجيش العناصر الرجعية مثلما تجيش العناصر الثورية)

الوعي قائد أسير اللاوعي الجمعي (عتبة الوعي):

هذه الدراسة تتخصص في وضع نتاج الوعي الفردي، في قبالة الوعي الجماعي، وهو ما يتولد عنه ما يسمى الإرادة اللاوعية، أو اللاوعي الجمعي للجماهير.

فكرة الوعي قائد هي فكرة تحتاج إلى تعمق اكثر في النظر اليها، وكذلك تحتاج إلى محاكمة فلسفية وفقا لرؤية اللاوعي الجمعي للأفراد حينما ينخرطون ضمن دائرة الوحدة الذهنية للجماهير، ففي تلك الحالة تتبلور أفكار وأطروحات وأيضا أفعال ليست كلها إيجابي، أو مضمون النتائج، فبعضها قد يكون هداما، فالرجوع إلى حكمة قيادة معينة، أو هرمية منتظمة للتفكير والتنظير ذلك اجدى واقرب للصواب من عشوائية فرضية (الوعي قائد) فهي بحق عشوائية تقود إلى استنزاف الحراك الثوري، والجماهيري، والأهداف على حد سواء، وبالتالي تخلق فوضى ليست خلاقة، تتحد معها العقلانية في بادئ الأمر وسرعان ما تنهار تلك العقلانية لعدم القدرة في السيطرة عليها، فتكون لا خلاقة كما أسلفت، وبالتالي ينتج عنه المحاباة والمجاملات للاستمرار من قبل الأفراد أو الخوف ضمن نسق اللاهدف، ونقع في متاهات مربكة غير مبررة ولا مرتكزة على أنظمة وقواعد تجدد روح العصر والبنية السياسية. لذلك يعبر كانط عن ذلك بقوله (يجب الفحص عن سائر المبادئ المطوية في العقل، وتعيين وظائفها في المعرفة العلمية. هذه هي الفكرة النقدية التي بنى عليها كانط فلسفته) فمبادئ الفكر الخلاق ضمن الإرادة الجماهيرية يجب ومن التعقل أن تفرز قيادة منظمة، أو تختار وتلجئ لقيادة تظنها حكيمة أو هي حكيمة فعلا، وهنا يأتي التعيين في "الوظائف المعرفية لإدارة الحراك الجماهيري". في تلك التفصيلة يقترب الحراك الثوري التشريني المجيد ضمن هذا الخط في بعض تجلياته المعرفية، من خلال انسجامه في بعض الحالات مع المرجعية الرشيدة ونصائح خطبة الجمعة، أو مع من يظنه قسم كبير من أبناء الثورة انه القيادة الحكيمة للإصلاح وقيادة الثورة نحو أهدافها السامية واعني به (السيد مقتدى الصدر) أو حتى كلاهما أي (المرجعية الرشيدة والسيد الصدر) هنا تتبلور منظومة المعرفة الكانطية لدى الجماهير وهي إما منقسمة باختيار أحداهما أو متفقة على كلاهما. وبالتالي فان تعيين "وضائف المعرفة" ضمن فلسفة كانط تحققت ضمن هذين المدارين أو كلاهما بحسب ما اسلفنا، هنا فرضية الوعي قائد بإطلاقها المزعوم قد سقطت ضمن هذه الاختيارات، ونحن نشاهد بوعي أو دون وعي بدراية أو دون دراية أصحاب مقولة (الوعي قائد) يرفعون صور المرجعية الرشيدة، وتهتف باسمها لأنها متماهية مع أهداف وعيها، آو صور السيد مقتدى الصدر لبعض المنتفضين، وهذا ليس معناه أن فرضية الوعي قائد القت بضلالها على حكمة المرجعية أو غيرهم، كلا بل العكس، فان حكمة وتنظيم تلك الأطراف المهمة في التشخيص والتنظيم هم من فرضوا الإرادة الحية على سلوك الوحدة الذهنية للجماهير ولولاهم لما تحقق الانبعاث الحاصل بالتنظيم والترتيب. آذن الهرمية في القيادة حاصلة وتحصيل حاصل شئنا أم أبينا، وهنا يزاح ستار فشل أطروحة (الوعي قائد) ، يبقى من لا يقتنع بتلك الأنشطة الحكيمة والفارضة نفسها كقوة على الارادة للجماهير فهو إما بلا وعي أصلا، وبلا تنظيم، أو هو يخفي خلف فرضية (الوعي قائد) قيادة مخفية غير معلومة تدير خيوط وعيه المزعوم بالسر! وهنا أيضا أين فرضية الوعي قائد في تلك الحالة؟! . وهذا خطر كبير على منظومة الحراك ومنظومة الأهداف الحقة والمشروعة، لعدم فهم نوايا تلك الأطراف، فالأطراف البائنة مثلا ضمن الوعي قائد يقودهم السيد فائق الشيخ علي، هذا امر حاصل، آو يقودهم مثلا غيث التميمي، أو غيره من الأطراف الواضحة التأثير في سلم الحراك الاحتجاجي، اذن الجميع تحت إدارة وإدارة منظمة، فاين الوعي قائد؟!. الكل تحت قيادة إما وطنية تنظيمية موجهة كالمرجعية، أو وطنية تنظيمية سياسية إصلاحية منفذة كالسيد مقتدى، أو إدارة تنظيمية سياسية حزبية كالأخرين ومن ضمنهم الأحزاب الحاكمة أيضا، فخلط الأوراق واضح جدا في تلك الفرضية (الوعي قائد) أو على الأقل عدم الاعتراف بعكسها لعدم القدرة بالاعتراف بجرح الذات. فاصبح هذا المصطلح واقع تحت طائلة (غير الموجود البتة) وتم التلاعب به لتصدير الاتهامات على الآخرين فحسب، من قبيل فلان منافق، وفلان ذيل، وفلان تابع للأحزاب... الخ بينما لو رجعنا للجميع سيجد نفسه تابع لإحدى تلك التنظيمات الفكرية والسياسية، دون التشكيك باي احد منها لأننا هنا ليس في صدد محاكمة أي طرف في متبنياته، بقدر مانحن نناقش تبعات فرضية (الوعي قائد) ومدى تحققها ولاحظنا عدم مصداقيتها في اي مورد، فالنترك تلك الخيالية غير المجيدة ونعتمد على دراسة واقعية ومنظمة والاهم من ذلك كله نعترف بها ونذعن لها بلا مصطلحات حديثة هلامية فارغة أو مدسوسة لأهداف مبهمة.

تقلبات الجماهير في أبستمولوجية غوستاف لوبون:

(لأشيء معتمد لدى الجماهير، فهي تستطيع أن تعيش كل أنواع العواطف، وتنتقل من النقيض إلى النقيض بسرعة البرق، وذلك تحت تأثير المحرض السائد في اللحظة التي تعيشها)

(الجماهير التي ترغب في الوصول إلى الأشياء بنوع من السعار المجنون لأتثبت عليها لفترة طويلة، فهي عاجزة عن الإرادة الدائمة، مثلما عاجزة عن التفكير الدائم والمستقر).

تلك هي الجماهير التي تخرج بلا قيادة، فخصائص الجماهير أما مطيعة لقيادة ما أو مجموعة قيادات، أو عشوائية وكما يسمى (الوعي قائد)، فهي إما ضامنة لذلك الوعي الخاص بالأفراد وتشكل ضمن نسق الجماهير الواعية ككل وهذا محض افتراء وخداع حتى على العلم نفسه، ومغاير تماما لوظائف الفيزولوجيا للجماعات، بالتالي فهي أكيدا ستكون ضمن هذه الفرضية غير نشطة لفترات طويلة في ثورتها وتكون ضمن النظرية السالفة الذكر للوبون حتما، دام ذلك لم يتحقق إلى الآن، أذن هي مقادة وليست قائدة! وكما اسلفنا. فعلاما كل تلك النرجسية والتضليل في الطرح غير الموضوعي؟!.

الصفات التي تتشكل عند الجماهير وتتحكم به مع قبولنا لفرضية الوعي قائد ولو تنزلا:-

يعطينا لوبون وحدة موضوع تفصيلي في كتابه سيكولوجيا الجماهير ضمن هذه الخارطة، فهو يحصر تلك الأسباب التي سآتي عليها بتلخيص ضمن:

1- الفرد المنضوي بالجمهور يكتسب بواسطة العدد المجتمع فقط شعورا عارما بالقوة، وهذا ما ينتج له الانصياع إلى بعض الغرائز، لولا هذا الشعور لما انصاع. (أين الوعي قائد أذن؟)

2- العدوى العقلية أو الذهنية، فلدى الجمهور أن كل عاطفة وكل فعل هما معديان بطبيعتهما، وهما معديان إلى حد أن الفرد يضحي بسهول كبيرة في مصلحته الشخصية، من اجل المصلحة الجماعية، فهذه فعالية معاكسة لطبيعته. ولا يمكن للمرء أن يمتلكها إلا اذا اصبح جزءا من الجمهور. وهنا تحققت العدوى وليس الوعي قائد! عدوى من قائد واحد او مجموعة بعينها تم تبني طروحاتها فلا وعي ولا قائد.

هنا يضع لوبون فارق بين هذه النظرية وبين الفرد غير المنخرط ضمن محرضات الجماهير أو (الوعي قائد) ليقول: (أن الجمهور، الذي يمثل لعبة واقعة تحت تاثير كل المحرضات الخارجية، يعكس متغيراتها التي لا تتوقف، وبالتالي فهو (عبد للتحريضات) التي يتلقاها، والفرد المعزول يمكنه ان يخضع لنفس المحرضات المثيرة كالإنسان المنخرط بالجمهور، ولكن عقله يتدخل ويبين له مساوئ الانصياع لها، وبالتالي فلا ينصاع. ويمكن قراءة ذلك ضمن فيزيولوجيا تلك الظاهرة عن طريق القول بان الفرد المعزول يمتلك الأهلية والكفاءة للسيطرة على ردود فعله.

ان الانفعلات التحريضية المختلفة التي تخضع لها الجماهير يمكنها ان تكون كريمة او مجرمة، بطولية أو جبانة، وذلك بحسب نوعية هذه المحرضات، ولكنها سوف تكون دائماً قوية ومهيمنة على نفوس الجماهير إلى درجة أن غريزة حب البقاء نفسها تزول أمامها.( بمعنى أنها مستعدة للموت من أجلها). ومن هنا نلاحظ لو سلمنا بتلك الفرضية ( الوعي قائد ) ستكون الجماهير (عبيدة لعشوائية مريبة ومخيفة دون أن تعلم أو حتى بعلمها لا فرق) وبالتالي فإنها قد تسلك سلوكا بطوليا لكنها في نفس الوقت وتحت تأثير واقع ما أو سخط ما أو أي حالة من شانها أن تفرض نفسها على عكس رغبات الجماهير من شانها أن تسلك سلوكا فوضويا أو مجرما كما يعبر لوبون وبالتالي في كلتا الحالتين فإنها تكون مستعدة للموت نتيجة لزوال غريزة حب البقاء، وهذا خطر كبير تشكله الوحدة الذهنية للجماهير لو سلمنا بصحة فرضية الوعي قائد على نفس تلك الجماهير وحياتها قبل الآخرين وعلى بقاء ونقاء وديمومة أهداف الثورة.

تسليم وخلاصة:

لو سلمنا وفقا لما اقترحناه أعلاه ضمن قبولنا لفرضية (الوعي قائد) ولو تنزلا...

فان النتائج تأتي بالشكل الاتي وهي نتائج يجب الانتباه لها بل دراستها بشكل جدي ووضع الحلول لها:

فوفقاً لاكتشافات علم وضائف (الفيزيولوجيا) وضع الفرد في حالة معينة يفقد فيها شخصيته الواعية، عندئذٍ يقترف اكبر الأعمال مخالفة لطبعه الحقيقي وعاداته. وعلى نفس الشاكلة وبنفس الشاكلة فإن الفرد المنضوي منذ بعض الوقت في وسط جمهور هائج سرعان ما يسقط في حالة خاصة تشبه كثيراً حالة الانجذاب الشديد الذي يشعر به المنوم مغناطيسياً فإنه يصبح (عبداً) لكل فعالياته اللاواعية ويصبح منوَّمه قادراً على توجيه الوجهة التي يشاء، وهكذا تصبح الشخصية الواعية مغمياً عليها، وتصبح إرادة الفهم والتمييز ملغاة...هذه هي حالة الفرد المنخرط بالجمهور فإن بعض ملكاته تصبح مدمرة ولا يعود واعياً بأعماله. فحالته تشبه حالة المنوم مغناطيسياً. وبما ان المحرض هو واحد لكل افراد الجمهور فإنه يكبر ويتضخم عن طريق التبادل، وأفراد الجهمور الذين يمتلكون شخصية قوية جداً تمكنهم من مقاومة المحرض هم ذوو عدد ضئيل وبالتالي فإن التيار يجرفهم معه. وكل ما يستطيعونه هو محاولة تحويل الأنظار باتجاه آخر عن طريق تقديم اقتراح مختلف. واحياناً تجيء كلمة في الوقت المناسب، آو تثار صورة معينة، فتتحول الجماهير عن اقتراف أبشع الأعمال الدموية.

وبذلك نخلص إلى مجموعة خصائص أساسية للفرد المنخرط بالجهور.

- تتلاشى الشخصية الواعية

- هيمنة الشخصية اللاواعية

- توجه الجميع نحو التحريض ىالعدوى للعواطف والأفكار ومن ثم الميل الى تحويل الأفكار المحرض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة وهكذا لا يعود الفرد هو نفسه، وإنما يصبح عبارة عن إنسان آلي ما عادت إرادته بقادرة على أن تقوده.

اعمال واقعة تحت تأثير النخاع الشوكي، أكثر مما هي واقعة تحت تأثير المخ أو العقل.

والله العالم ....

 

انور الموسوي

 

في المثقف اليوم