قضايا

القُرْآنُ الكَرِيمُ بِين التَّفْسِيرِ والتَّأوِيلِ

بليغ حمدي اسماعيلفي شهر القرآن الكريم، تجدر الإشارة إلى أن من أفضل الطاعات التي يتوجه بها العبد إلى ربه قراءة القرآن وتدبر معانيه، والسعي إلى فهم مقاصده وأغراضه، ورغم تعدد أنواع التفسيرات للقرآن الكريم وتنوعها بتنوع الغرض وتوجه مفسره، إلا أن تفسير القرآن الكريم الذي قدمه الإمام محمد عبده يظل على رأس تلك التفسيرات التي تجمع بين البلاغية العربية وإعمال العقل بهدف تنوير الأذهان وتثوير الألباب . وهذا لا يغفل الجهود العظيمة التي قام بها مفسرو القرآن الكريم عبر عصور الإسلام المختلفة، لكن ما يجعل التفسير الذي قدمه الإمام محمد عبده لبعض سور القرآن الكريم متمايزا ومختلفا بصورة متفردة هو ما اجتمع في الإمام محمد عبده من سمات ثقافية وعقلية واجتماعية أيضا جعلته في مرتبة عالية شاهقة بين مفسري الكتاب الحكيم .

والإمام محمد عبده هو رائد التنوير في مصر الحديثة، ولقد أراد لهذه الأمة أن تنحو صوب التفكير العقلاني فيما يرد من أفكار إلى العقل العربي، لذا فالإمام محمد عبده وتلامذته النوابغ ينتمون إلى مدرسة العقلانية الدينية التي عملت لسنوات طويلة على توسيع دوائر الاجتهاد والاختلاف وضرورة التسامح الفكري، الأمر الذي دفعه إلى مواجهة شرسة مع الجامدين أنصار الاتباع والنقل بغير إعمال للعقل، كذلك محاربة المتعصبين الذين كانوا بمنأى عن الاجتهاد والتجديد وتوفير سبل التنوير.

وكما ذكر الدكتور جابر عصفور واصفا وممتدحًا الإمام محمد عبده رائد المجددين بأنه توفي سنة 1905 تاركا وراءه فراغا كبيرا لم يستطع أن يملؤه تلامذته، فإن هذا الفراغ كان دافعا أيضا لظهور قامات فكرية وثقافية وسياسية في تاريخنا العربي بوجه عام من أمثال مصطفى عبد الرازق و الشيخ علي عبد الرازق والدكتور طه حسين وقاسم أمين وسعد زغلول، ولاشك أن الهدف الرئيس الذي سعى إليه الإمام محمد عبده هو تحرير العقول من الأوهام والخرافات، وهذا الهدف لم يكن بالسهل اليسير إذ أنه بالضرورة اصطدم ولا يزال في اصطدامه بتيارات التقليد التي عادة ما ترفض كل محاولات الإصلاح الفكري وتكريس ثقافة الوسطية، ولاشك أن تلك التيارات تميل إلى استمالة الجماهير الهادرة والجموع الغفيرة من أجل استقطابها عن طريقة دغدغة المشاعر أكثر من إقناع العقول، وبين فكر مستنير يميل إلى التحاور مع النخبة العاقلة على حد وصف الدكتور جابر عصفور .

وليست هذه السطور مفادها الترجمة لحياة الإمام، بل لعرض منهجه في التفسير الذي تجاوز تخومه ـ التفسير ـ متجها نحو التأويل وإعمال العقل بهدف التدبر للمعنى وإدراك مناحي الجمال القرآني، والشيخ محمد عبده يؤكد على أن التكلم في تفسير القرآن الكريم ليس بالأمر السهل، ويشير إلى أن التفسير من أصعب الأمور وأهمها أيضا، موضحا أن القرآن كلام سماوي، تنزل من حضرة الربوبية التي لا يكتنه كنهها، على قلب أكمل الأنبياء، وهو يشتمل على معارف عالية، ومطالب سامية، مؤكدا ومنبها على أن هذا العلم لا يشرف عليه سوى أصحاب النفوس الزاكية والعقول الصافية .

ويرشدنا الإمام محمد عبده إلى أن الغاية من التفسير هو فهم كتاب الله من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في الحياة الدنيا، وحياتهم الآخرة، وهذا يعني ثمة أمور أوجزها الإمام في أن للتفسير وجوها شتى ؛ من أبرزها النظر في أساليب الكتاب ومعانيه، وما اشتمل عليه من علوم بلاغية ؛ ليعرف به علو الكلام وامتيازه على غيره.

وتساءل الإمام محمد عبده متعجبا نفس درجة ونوع التعجب الذي نواجهه اليوم ونحن بصدد مواجهة أمراء وشيوخ التيارات الراديكالية التي انتشرت بصورة كبيرة، يقول الإمام : ويمكن أن يقول بعض أهل هذا العصل: لا حاجة إلى التفسير والنظر في القرآن، لأن ائمة السابقين نظروا في الكتاب والسنة، واستنبطوا الأحكام منها، فما علينا إلا أن ننظر في كتبهم ونستغني بها .

وتأتي الإجابة حازمة حاسمة لهذا التساؤل المدهش، بأن الله خاطب بالقرآن من كان في زمن التنزيل، ولم يوجه الخطاب إليهم لخصوصية في أشخاصهم، بل لأنهم من أفراد النوع الإنساني الذي أنزل القرآن لهدايته، يقول الله تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم) (سورة النساء، آيه 1)، (سورة لقمان، آية 33)، فهل يعقل أنه يرضى منا بألا نفهم قوله هذا، ونكتفي بالنظر في قول ناظر نظر فيه، لم يأتنا من الله وحي بوجوب اتباع هذا المفسر لا جملة ولا تفصيلا؟ .

ويوضح الإمام محمد عبده مراتب التفسير، بأن أدناها أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه، أما المرتبة العليا فهي لا تتحقق إلا بفهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن، وإعمال العقل والأخذ بالتأويل المحمود، كذلك المعرفة بعلم أحوال البشر، فلابد للناظر كما يقول الإمام من النظر في أحوال البشر، وفي أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم .

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

 

 

في المثقف اليوم