قضايا

عبد العزيز قريش: النقد الذاتي للممارسة الصفية.. مدخل التصحيح والتطوير

ـ في أهمية النقد التربوي:

يلعب النقد التربوي دورا هاما في مجال التربية والتعليم والتكوين؛ فهو يحسن الممارسات الصفية ويطورها إلى الأفضل بتصحيح أخطائها وتحدياتها، وبرفدها بالجديد من خلال الإبداع في مجالها، من واقع التجربة التعليمية نفسها أو من التفكير فيها، مقابل تطوير نظام التربية والتعليم والتكوين برمته. والنقد التربوي مكون من مكونات الفكر التربوي؛ لا تستقيم أية منظومة تربوية وتكوينية دونه، لأنها تتكئ عليه في استمرار تجددها وتطورها وتقدمها، فهو الدم الذي يدخ الأكسجين في عروقها الذي يبقيها حية تشتغل على أحسن وجه، ويبقيها فاعلة فعالة في المجتمع لأسباب عدة:

أ ـ النقد التربوي فرصة لا تعوض ولا تستدرك: إن فاتت هيئة التدريس والمهنيين والأطر التربوية في التفكير في الممارسات التربوية، من حيث التفكير في ديداكتيك التدريس والاستراتيجيات والأساليب التربوية والتعليمية، والبحث في بنياتها ووظائفها ونتائجها بما يقف على الإيجابيات للاستثمار، وعلى السلبيات والتحديات لتجاوزها. وفي ذلك تطوير لها وتجديد لبنياتها ووظائفها، وتجويد لنتائجها وعوائدها على التعليم والتعلم. والسؤال النقدي للممارسات الصفية سؤال   عن الاختيارات والتوجهات وتقويم الفعالية والأداء.

ب ـ النقد التربوي يبني ثقافة السؤال: وثقافة السؤال تبني ثقافة التجديد والتطور والتجويد والتحبير والتحسين المستمر؛ عبر تخليق بذرة البحث العلمي في الممارسات الصفية لأجل أن يصبح مكونا طبيعيا وعضويا في الفعل التعليمي التعلمي، لا يمكن الاستغناء عنه في البحث عن الإيجابيات والسلبيات معا؛ حيث تتوسل به في معرفة حيثياتها بشكل علمي وواقعي. فلا تستقيم أي منظومة تربوية وتكوينية دون النقد التربوي، لأنه موطن علامات الاستفهام الحرجة والمحرقة التي تتطلب الجرأة الأدبية للتعامل معها بروح رياضية ومرحة، لأنها ستتعرف على ما لا يعجبها خاصة عندما تكون الذات السائلة تهاب السؤال وتخاف منه كما في المنظومات التربوية والتكوينية المتخلفة، التي يعشش في عقلها التقليد والعادات ويعمر حاضرها الماضي ويستحوذ على كل شيء فيها حتى التفكير.

ج ـ الابتكار: النقد التربوي رديف مصطلحين في الفعل التربوي والتعليمي، وهما: التصحيح والابتكار، فهو عامل محفز على الابتكار في مجال التربية والتكوين والتعليم باقتحام مواطن الأساليب التقليدية وإزاحتها من المنظومات التربوية والتكوينية باستكشاف النظريات التعليمية والأفكار الجديدة فضلا عن التعليميات والتقنيات المبتكرة التي تفعل الدرس المدرسي وتطور نتائجه إزاء خلق متعلم/ة منهجي ومفكر وناقد ومبدع. فتظهر من خلال هذا الإبداع والابتكار ممارسات صفية ناجحة ومبتكرة، تبحث عن حلول إبداعية للتحديات والصعوبات والمشاكل التربوية والتعليمية والتكوينية التي تعترضها.

د ـ النقد التربوي يمنح أطر منظومة التربية والتكوين بما فيهم الممارس البيداغوجي والإدارة التربوية والإشراف التربوي فرصة معرفة ودراية أفكارهم ورؤاهم ومقترحاتهم وقراراتهم وأفعالهم ونتائجها، معرفة تامة تفصيلية تضعهم في مواجهتها مباشرة بالسؤال النقدي عما فعلوه وما أنتجوه؛ وتضعهم أمام ضمائرهم المهنية وأمام التاريخ والأمة وأجيالها، ليتحملوا المسؤولية عن اختياراتهم وقراراتهم وأفعالهم ونتائجها ضمن القبول بالمساءلة والمحاسبة خدمة للأجيال المقبلة، وبناء الالتزام والانضباط والشفافية تحسينا لجودة المنظومة التربوية. ولا تقدم ولا جودة للمنظومة التربوية والتكوينية دون وقوف أطرها أمام مرآتها مسلحين بالسؤال النقدي عما فعلوه لأجلها ولأجل روادها. وبدون السؤال النقدي تنتفي كل الممارسات الصفية الناجحة والفاعلة.

هـ ـ الحوار وتبادل المعرفة: النقد التربوي باب واسع للحوار وتبادل المعرفة وتقاسم الخبرات والتجارب ومعرفة الفعل، فهو يعزز ذلك في المجتمع المدرسي والمهني التربوي، خاصة بين جماعة الباحثين والدارسين، أي أولئك الأطر الحية في المنظومة التربوية والتكوينية التي تؤمن بالنقد التربوي مدخلا للتغيير. لإنه يخلق مساحات فكرية وثقافية شاسعة للمناقشة والحوار والتعاون والتكامل فضلا عن خلق الفكر العلمي الجمعي وفرق البحث الجماعية متعددة الاختصاصات، بل يمكنه أن يؤدي إلى خلق مراكز ومعاهد ومختبرات للبحث التربوي والعلمي في المؤسسات التعليمية. كما يؤدي إلى بناء مراجع تربوية لأصحاب القرارات السياسية والتربوية والتدبيرية.

وبناء على هذا المعطى، نجد النقد التربوي مطلبا ضروريا للمنظومة التربوية والتكوينية، لتطوير وتحبير الممارسات الصفية في ذاتها وناتجها، بجانب تعزيز التفكير الإبداعي الابتكاري مع تمكين أطر التربية والتعليم من تعزيز الحوار فيما بينهم، وتبادل المعرفة والمعلومات، وتقاسم الخبرات والتجارب ومعرفة الفعل، وبذلك يساهم بشكل كبير في تطوير النظام التربوي والتعليمي والتكويني إلى الأفضل، ويعمل على التحول الإيجابي للمنظومة وأطرها ومتعلميها.

ـ في أهمية الأسئلة النقدية للممارسة الصفية:

في الواقع التعليمي والتربوي والتكويني؛ ليست الممارسات الصفية متطابقة أو متشابهة إلى درجة كبيرة وبنسبة عالية، فقد يعتقد البعض أن الأداء الصفي متطابق أو متشابه نتيجة امتياحه نظريا وعمليا وبيداغوجيا من رسميات وزارة التربية الوطنية والتعليم، واعتماده على نفس المناهج ومحتوياتها، وعلى نفس الديداكتيك والتقنيات والمعينات البيداغوجية. لكنه في الممارسة العملانية والميدانية ينحو نحو التفرد، ويتجه نحو الأسلوب التربوي الخاص بالممارس البيداغوجي، الذي يتضمن خصوصيات وتفردات ومفردات لا تشبه ما في الأساليب التربوية الأخرى لمعطيات عدة تخص جماعة القسم ومكوناتها، ومستواهم العلمي والتحصيلي، والبيئة التعليمية، والشروط والمتطلبات الخاصة بهم. ومن ثمة يصبح التنظير التربوي والتعليمي والتكويني ممارسات صفية متنوعة.

لذا؛ نجد مجموعة الأسئلة النقدية تختلف من ممارس البيداغوجي إلى آخر تبعا لمعطياته الواقعية وتكوينه الأكاديمي والمهني والاجتماعي والثقافي، ووضعه الاقتصادي والاجتماعي، ومعتقداته الذاتية والخاصة وقيمه وأخلاقه وفلسفته في الحياة. ونتيجة معطيات جماعة القسم التي يدرسها، ونوعية         أسلوبه التربوي المتبع في تدريسهم المتن التعليمي. ونتيجة معطيات المجتمع الذي يؤدي رسالته التربوية فيه، ونتيجة علاقات الاجتماعية البينية خاصة في المؤسسة التعليمية. نتيجة ذلك وعوامل أخرى نجد كل ممارسة صفية هي تجربة ذاتية قد تتقاطع مع التجارب الأخرى وقد لا تتقاطع، لأن التقاطع حتمي بحكم الرسميات الوزارية التي يستقي منها الممارس البيداغوجي المتن التعليمي والديداكتيك أو التعليمية الخاصة به. وعدم التقاطع يحصل حتما عندما يخرج الممارس البيداغوجي عن الرسميات الوزارية التي يجد فيها تحديات للمتعلم/ة أو يلمس فيها انعدام الملاءمة والانسجام مع معطياته وحاجاته واحتياجاته.

ولهذا الاختلاف عائد إيجابي على العلمية التعليمية التعلمية من حيث تقاسم التجارب والخبرات وتلاقحها، والاستفادة منها في حل المشاكل والإشكاليات التي تعترضها، وتغني الخبرة الشخصية للمارس البيداغوجي بجديد الأفكار والرؤى والتقنيات والإجراءات. وتوسيع منظوره الذي يرى منه أداءه الصفي. وبالتي نجد الاختلاف بين الممارسات الصفية أمرا طبيعيا وإيجابيا، يمكن توظيفه في تطوير المنظومة التربوية والتكوينية نظريا وعمليا. ولكي تثرى وتنمى الممارسات الصفية لابد للمارس البيداغوجي طرح بعض الأسئلة النقدية الهامة والمحرقة في بعض الأحيان للتفكير في ممارسته الصفية، من قبيل:

ـ ما الأهداف التعليمية التي رصدتها للمتعلم/ة في ممارستي الصفية؟ هل تتلاءم وتتوافق مع منتظراته، ومع توقعات المناهج وحاجاته واحتياجاته؟

ـ هل ما قرر من متن تعليمي وتعليمية المواد الدراسية ومعينات بيداغوجية وشروط ومتطلبات تحقق أهدافها وأهدافي معا في انسجام مع معطيات المتعلم/ة؟

ـ ما كفاءتي في توليد الاستقلالية الفردية والحرية الشخصية والمسؤولية الذاتية عند المتعلم/ة نحو مسارهم التعلمي، والوعي بأهمية التفكير في التعلم الفردي لكل واحد منهم تحت سقف استحضار أهدافهم الشخصية؟

ـ ما الإشكاليات والمشاكل التي سيطرحها المتن التعليمي وتعليمية المواد والمعينات البيداغوجية وأساليب تديسي على المتعلم/ة؟ وسبل مقاربتها ومعالجتها؟

ـ ما خطة الطوارئ التي سأواجه بها تلك الإشكاليات والمشاكل والتحديات إن وقعت وحصلت في إطار إدارتي للأزمات؟

ـ ما الاستراتيجيات التعليمية وتقنيات التنشيط والأساليب التربوية التي يمكنني توظيفها من أجل تعزيز مشاركة المتعلم/ة في بناء درسه المدرسي؟

ـ ما كفايتي المهنية في ملاءمة أساليب التدريس المتنوعة مع مستويات المتعلمين/ات المهارية والتحصيلية، واهتماماتهم وانشغالاتهم ومنتظراتهم في تحقيق حاجاتهم واحتياجاتهم؟

ـ ما مهاراتي وقدراتي وكفاياتي الشخصية، وكفاءتي في خلق بيئة تربوية وتعليمية شاملة وعامة، يشعر فيها المتعلم/ة بالتقدير والاحترام، وباستقلالية التفكير وحريته، وبقيمته المضافة لجماعة القسم إنسانا؟

ـ ما التقويم الذي أجريه لقياس ناتج التعلم عند المتعلم/ة بشكل موضوعي ودقيق وعادل؟ وإلى أي حد فعلا أقيس معرفته وقدراته ومهاراته وكفاياته وناتج تعلمه في الاتجاه المستهدف؟ وما مدى مصداقية أداة القياس ومعاييرها وأسسها الإحصائية؟

ـ ما الموارد التربوية والتعليمية والتكنولوجية والتقنية والرقميات المتاحة والمتوفرة راهنيا، التي يمكنني توظيفها بنجاعة في إنجاح الدرس ودعم المتعلم/ة في تعلمه وأدائه؟

ـ ما كفايتي المهنية والاجتماعية في فتح دائرة العلاقات البينية مع الآخرين من ممارسين بيداغوجيين، وإدارة تربوية، وإشراف تربوي، وأسرة، ومتعلمين/ات، ومجتمع مدني... تعاونا وتكاملا من أجل تعزيز تربية وتعليم وتعلم المتعلمين/ات وتنميتهم في مجموع مناحي الشخصية، وتهيئتهم للاندماج الاجتماعي والمهني والثقافي والسياسي...؟

ـ ما مدى حضور ثقافة التكوين بكل أنواعه عندي وتشبعي بها، من أجل الانخراط الإيجابي والفاعل في تطوير مهاراتي وقدراتي وكفاياتي ومعطياتي الشخصية المختلفة باستمرار، وبوتيرة متدرجة تصاعدية لتحسين أدائي التدريسي والتعليمي والتربوي وتطويره بالجديد من معطيات متنوعة، وبمتابعة أحدث الأبحاث في مهنة التربية والتعليم وعلومها، وعلوم روافدها والاطلاع عليها، ومواكبة أجود وأحسن الممارسات الصفية؟ وما مدى قابليتي لاستنبات ثقافة التكوين في ذاتي المهنية والإنسانية؟

وتبقى منظومة علامات الاستفهام النقدية مفتوحة وفق معطيات كل ممارس بيداغوجي حسب سياق اشتغاله وأهداف التعلم المرصودة، والغاية من السؤال. وهي كما تفعل في الممارسة الصفية، تفعل في عملية التعلم.

ـ في أهمية الأسئلة النقدية لعملية التعلم:

الأسئلة النقدية الذاتية التي يطرحها الممارس البيداغوجي على ممارسته الصفية، لها وظيفة حيوية في تطوير عملية تعلم المتعلم/ة انعكاسا، من خلال خلق التفكير العميق، إن لم أقل التفكير الفلسفي عند المتعلم/ة، واستنبات التفكير النقدي لديه بما يديم يقظة الشك في تعلمه، من حيث يسائل شكا مجموع الأفكار والمعارف المسبقة لفحصها وتدقيق مصداقياتها من زيفها، فضلا عن تطوير التفكير الإبداعي عنده مع تحسين مجموع قدراته ومهاراته المختلفة من التحليل والتركيب والاستنتاج والتطبيق وغيرها. فهو يعزز آليات التفكير عند المتعلم، وينمي فضوله ويحفز مشاركته النشطة، من خلال طرح الأسئلة العميقة والمجدية التي تستوجب في الموضوع بكليته تفكيرا عميقا وتحليلا نقديا واستنتاجا علميا وموضوعيا وعقلانيا. كما تنقل المتعلم/ة من اكتساب المعرفة وترصيدها وتركيمها إلى اكتساب المهارات الأساسية المعرفية والعملية والأدائية لتنمية أبعاد شخصيته علميا ومعرفيا ومهنيا.

فالأسئلة النقدية تساهم وتساعد على تطوير وتعزيز ودعم عملية تعلم المتعلم/ة عبر:

ـ تحفيز التفكير: الأسئلة النقدية تدفع بالمتعلم/ة إلى التفكير العميق في المشكل أو الإشكالية والبحث فيها باستقلالية ذاتية من خارج الرؤى والأفكار المسبقة وربما المبيتة، وتحليل معطياتها المتنوعة بما فيها من معلومات ومعارف وطرق... بدقة وبشكل علمي وعقلاني والموضوعي، يتوخى الإمساك بمكوناتها وأدوارها ووظائفها داخل نسقها إزاء معرفة العلاقات القائمة بينها لتسهيل الملاحظة والاستنتاج. كما تعمل الأسئلة النقدية على إكساب المتعلم/ة مهارات وقدرات التفكير النقدي والإبداعي تجاوزا لحفظ الحقائق وتلقيها دون مساءلتها أو الشك فيها. فهي تنشئ عند المتعلم/ة ملكة التفكير بكل أنواعها بدل ملكة الحفظ فقط. كما تفعل داخل عملية التفكير العملية الأساسية لفعل المعرفة " الصورنة " التي تهيكل الموارد المعرفية وتعمل على بنائها وتخزينها لتوظيفها في سياقات مطلبية متنوعة بعد استدعائها واسترجاعها. وتكسبه القدرات اللسانية والاستدلالية والعملية أو الفعلية معنى آخر قدرات الفعل.

ـ تنمية ملكتي التحفيز والفضول: تنمي الأسئلة النقدية التي يطرحها الممارس البيداغوجي على الممارسة الصفية التحفيز والفضول عند المتعلم/ة ارتباطا وتبعا، من خلال بعض المداخل من قبيل:

* في ظل السؤال عن البيئة التعليمية الحاضنة لعملية التعلم في مساحة فعل التعليم عند الممارس البيداغوجي، يمكن خلق وتشييد بيئة قابلة لممارسة الاستكشاف بطرح من الأسئلة استشفافا للأفكار الجديدة والمتطورة والتعبير عنها. كما تزيد من فضول المتعلم/ة في اقتحام المجهول لمعرفته والإلمام به.

* في إطار السؤال عن مناهج التدريس واستراتيجيات التدريس وتقنيات التنشيط يتعزز فضول المتعلم/ة، وتفعل ملكة الاستكشاف عبر المتن التعليمي وتعليميات المواد الدراسية ومشاريع البحث الجماعية والفردية، والمناقشات والحوارات البينية. كما تشجع انخراطهم وتفاعلهم في النشاطات التعليمية بكل جدية وحماس

* في إطار سؤال المتن التعليمي؛ بمعنى مضمون الدرس المدرسي قد ينبع من أكثر من مصدر ومرجع، فقد يستقيه الممارس البيداغوجي من تجارب واقعية تقدم للمتعلم/ة لاستكشافها وسبر غورها، عبر نماذج متنوعة من الطرق والاستراتيجيات والتقنيات مثل الرحلات والخرجات الميدانية والعملانية لزيارة المتاحف والمعارض وورش العمل التطبيقية كالمراسم أو المعامل ودور الطباعة وغيرها، فتغذي المتعلم/ة بحقائق ومعارف ومعلومات مستكشفة جديدة أو يستكشفها بطريقة محسوسة وملموسة وعميقة بنفسه مدفوعا من فضوله للمعرفة. فيكتسب بذلك ثقافة البحث وحل المشاكل؛ فيذهب في تعلمه إلى حل مسألة أو وضعية معينة لم يسبق له أن صادف محتواها أو مضمونها من خلال مكتسباته من التجارب الواقعية.

وفي إطار هذا السؤال يمكن استدعاء توظيف تكنولوجيا التعليم بشكل مبتكر وإبداعي في عرض التجارب والمواقف الواقعية على شكل مقاطع للفيديو أو برامج وثائقية أو أحداث اجتماعية للدراسة والبحث، ما يثير الفضول عند المتعلم/ة، ويحفزه على البحث والاستكشاف. كما يمكن توظيف منصات التعلم الإلكتروني والمحاكاة في تحليل ومناقشة تجارب تعليمية مستجدة ومبتكرة.

من خلال ما سبق وغيره يقف المتعلم/ة على جدوى الفضول والحافزية في التعلم بما فيه التعلم الذاتي، من حيث التعرف على مجموع الأسئلة المطروحة على الممارس البيداغوجي في نقده الذاتي، يؤدي إلى التعرف على مجموع الأسئلة الممكنة والقابلة للطرح على المتعلم/ة لاستكشاف رؤاه وأفكاره، وتلمس جهوده وتقديره لصالح فعل التعلم، ما يشيد لديه الدوافع الذاتية للتعلم والمعرفة والمشاركة والانخراط الإيجابي في بناء مستقبله، والاستمرار في عملية الاستكشاف حتى تصبح ثقافة عنده وسمة من سمات شخصيته.

ـ تشجيع المشاركة الفاعلة والنشطة: الأسئلة النقدية تدفع المتعلم إلى المشاركة الفاعلة والنشطة للمتعلم/ة اقتداء بالممارس البيداغوجي، خاصة عندما يكون السؤال يتعلق به؛ كأن يسأل الممارس البيداغوجي عن أسباب انخفاض نتائج جماعة القسم أو ضعف الحافزية لديهم اتجاه تيمة أو موضوع معين... ففي هذه المنطقة من الأسئلة النقدية تحث المتعلم/ة إلى التفكير والتحليل والاستنتاج فضلا عن التقويم وتركيب النتائج على الأسباب، فهو أمام القول المنطقي والموضوعي لا القول الإنشائي. ومن يشارك ممارسه البيداغوجي في الإجابة عن بعض الأسئلة المطروحة.

ـ تطوير الكفايات التحليلية وقدراتها ومهاراتها بشكل أساسي: تقود الأسئلة النقدية المتعلم/ة إلى تعميق البحث والتحليل ومساءلة تيمة الاشتغال إلى غير ذلك، حيث هذه القدرات والمهارات تخلق من المتعلم/ة متعلما معرفيا أو المتعلم الإبستيمي الذي ينتج الجديد ويبتكر المعرفة الجديدة، التي تنمي مختلف التخصصات العلمية والتقنية والاقتصاد والتطور الحضاري. وتزيح مفهوم المتعلم/ة من متعلم/ة مشحون الرأس بالمعلومات والمعارف والمعطيات، حافظ لها إلى متعلم/ة مفكر معرفي باحث ناقد مبتكر. يولد المعرفة من المعرفة ويوسع قاعدتها ويضخم تراكمها وترصيدها ويبتكر الجديد، يتجه نحو استقلاليته وحريته في التفكير والأداء والتعبير عن ذلك بوجهات نظره وقراراته.

فأهمية الأسئلة النقدية في العملية التعليمية التعلمية لا تكتفي بهذه الأدوار فحسب، وإنما تتعداها إلى البعد النفسي حين تجعل من المتعلم/ة إنسانا موضوعيا مع نفسه، يتقبل النقد البناء ويعتمده في تطوير ذاته وإمكاناتها المتنوعة، ويتقبل الحق ولو على نفسه باستقلالية تامة ويعترف بحقوق الآخرين قبل حقوقه، ويعمل على تحمل كامل المسؤولية عن نتائج قراراته وأفعاله. وصريح مع نفسه وغيره لا يعرف الالتواءات الحربائية ولا النفاق الاجتماعي القاتل للإنسان... هي دائما الأسئلة النقدية مطلوبة في الفعل التعليمي التعلمي لأنها معالم للطريق في تصحيح الاختلالات واستثمار الإيجابيات.

ـ سؤال برسم المستقبل:

مشهد واقعنا التربوي يفيد قلة السؤال النقدي في الممارسة الصفية للممارس البيداغوجي وباقي أطر المنظومة التربوية والتكوينية؛ تخوفا من مشرط جراحته المألم، الذي لا محالة سيعري عما تحت جلد منظومتنا التربوية والتكوينية من أورام وبؤر مرضية في أعضائها ووظائفها. فإبقاء مستور الجلد أسكن للواقع وتجميل له بدل إظهار شكله المتورم المقزز؛ لكن الطبيب الجراح الحكيم، والمحترف، والخبير، والعالم العارف، والإنساني؛ لا يكتفي بتوصيف الحالة المرضية، ولا بتسكينها بالمسكنات، بل يذهب إلى استئصال الورم من أساسه أو من جذوره، ليصح الجسم والجسد طلبا لصحة الإنسان. ولا صحة للإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي والرقميات والعالم الافتراضي مع مرض عقله. فصحة الإنسان من صحة عقله، والإنسان يرقى بعقله لا بجسده؛ فهل من ارتقاء لنا دون نقد ذاتي؟

***

عبد العزيز قريش

في المثقف اليوم