قضايا

من أجل لاهوت إسلامي للأديان والعلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين

علي رسول الربيعيإن أفضل طريقة للتقييم اللاهوتي للآخر الديني ومكانته في مجال النظام العام الأخلاقي هو من خلال حوار بين الأديان بإتجاه تضامنها تجاه مشكلات البشرية، ولكن مازلنا، بعد كل هذه القرون من النضال من أجل أنجاز مهام هذا الحوار، نفتقر إلى الأدوات الفكرية الكافية لتشكيل لاهوت للتقارب بين الأديان العالمية. إن الشرط المسبق لخطاب بين الأديان يتعدى الحدود الأكاديمية، يتطلب تجريد قرون من الأحكام المسبقة والتحيزات البغيضة ضد الآخر الذي تراكمت على الأديان ولا سيما التوحيدية الحصرية الأقصائية. يأتي الأمل في أن نتعلم أن نفهم ونحترم الآخر كما هو بدلاً من ما يجب أن يكون عليه من خلال تقديم مجتمع المؤمنين تفسيراً للأديان وللعلاقة فيما بينها على اساس الطبيعة التعددية لها وبالذات للوحي الإلهي في هذا السياق .

المطلوب والمفترض أن يبدأ مثل هذا  الحوار وخطابه الحامل الشامل بمحادثة صادقة للروح ونقاش بعقل متفتح وتبادل نقدي في تفاعلنا مع بعضنا البعض. أعترف بأن الحماس المتزايد بين بعض المتدينين للعيش وفقاً لحياة  "قويمة" على أساس دين "حقيقي" - أي تقاليدهم الخاصة - قد وسّع الفجوة والكراهية بين بعض الديانات. يتم تغذية هذه الكراهية بسهولة من خلال وفرة من الصور الإعلامية السطحية والشائكة والفورية للثقافية الدينية الأخرى. وتكتسب النزعات والميول الحصرية التي ينشرها المتطرفون الدينيون رواج أوسع نطاقًا "باسم الله".

لكنني أريد أن أتجاوز لاهوت العلاقات بين الأديان إلى لاهوت العلاقات الدولية للقرن الحادي والعشرين. آمل أن نتمكن من كبح جماح تحيزاتنا وافتراضاتنا المسبقة  لأننا بحاجة إلى إيجاد فضاء أخلاقي روحي للدين دون الخضوع لمزاعم التفرد ومطالب الأستثناء. أرى أن الحديث عن الدين بشكل عام، والإسلام بشكل خاص، هو حديث عن إيجاد مساحة مناسبة للروحانية الإنسانية في خضم الشكوك المتزايدة حول أهداف أولئك الذين يدعون أنهم يقدمون بديلاً  دينيًا عن النظام العام  الحالي. كيف نتعامل مع القيود والأكراهات التي تفرضها  مطالبات أو أدعاءات المقدس وفوق ذلك نستفيد من الإمكانيات العالمية للفاعلية البشرية التي تكمن أو متأصلة في تلك الأدعاءات؟

إن المطلوب أن يرتكز أي حوار جاد بين الشعوب ذات التقاليد الدينية المختلفة على تعاليمها المعيارية، لأنها هي دليلهم الأرشادي وموجههم الديني الذي يحكم إمكانيات العلاقة بين الأديان بين المجتمعات ذات التقاليد العقائدية المختلفة في نهاية المطاف. إن الأتجاه في تأويل هذه المصادر المعيارية للأعتراف بالحقيقة للتعددية في استجابة الإنسان للألوهية، هو الخلاص لأولئك القائمين داخل حدود عقيدتهم الخاصة. يوجه التقييم المناهض للتعددية أزاء من من هم خارج مجتمع ديني معين العلاقة الدينية البينية أو الداخلية نحو التسامح في أحسن الأحوال أو المواجهة في أسوأ الأحوال، ولكن نادراً ما يتم تجاه الاحترام.

إن معاملة الآخر الديني في أي تقليد ينطوي على تساؤلات بعيدة المدى بخصوص العلاقات الإنسانية. وينطبق هذا الأمر على الإسلام. فعلى الرغم من أن السجل العام لعلاقات الإسلام مع الآخر يدل على أنها كانت عادلة نسبيًا، إلا أن تقاليدها اللاهوتية والقضائية لم تظهر دائمًا إخلاصًا ثابتًا للموقف القرآني من التكافؤ فيما يتعلق بالمصير الروحي لغير المسلمين. وقد أدى التخصيص الانتقائي وحتى السياسي للقرآن في إضفاء الشرعية على الهيمنة الفعلية على الآخر وتجاهل أو التغاضي عن الأبعاد الإنسانية التي لما يمكن أن يحمله للاهوت القرآني. تدخل الصوفيون المسلمون مثل حافظ والرومي لتذكير هؤلاء العلماء والفقهاء  بمضامين في الشريعة الإسلامية واللاهوت، بأن " الطرق المؤدية الى الله  بعدد نفوس البشر".

ولهذا السبب، تأتي أهمية وراهنية الدعوة الى لاهوت يحمل  مفاهيم ومصطلحات ولغة جديدة للتفاهم  داخل الأديان وفيما بينها. لقد حان الوقت للمشاركة بنشاط في استنباط نمط جديد من الفكر الديني من خلال الوحي الإسلامي  للتأسيس للتعددية وتعزيزها الموجودة روحها وارهاصاتها الأصلية في القرآن مع مراعاة الحقائق المتغيرة باستمرار للحياة الإنسانية. لقد كنت دعيت الى هذه التعددية  في دراسة نشرتها  لأول مرة  بعد حوار مطول مع محمد أركَون في مركز دراسات تعزيز الديمقراطية في جامعة ويستمنستر، من خلال سلسلة  ندوات أدارها عبد الوهاب الأفندي في شتاء 1997  ثم أعدت نشرها في "مجلة التعددية" في 2004 تحت عنوان: "راهنية التاسيس النظري للتعددية".

يبدأ اللاهوت الإسلامي المطلوب للعلاقات الإنسانية من داخل الحدود المقدسة لمصادر الوحي الإسلامي. إن الاسترجاع الانتقائي لهذه المصادر من قبل مختلف جماعات المصالح الإسلامية قد أظهر التلاعب في هذه المصادر في نظرتهم للآخرين وللنظام العام الذي يهيمن عليه الإسلام او يخضع له. والأهم من ذلك أن الاستخدام السياسي وإساءة استعمال  مصادر الوحي قد أدى إلى ظهور حقيقة العلاقات غير الودية بين شعوب مختلف الديانات التي تعيش تحت سيطرة المسلمين أو في ظل أغلبية اسلامية.

إن المشكلة الأساسية، كما تنعكس في الصياغة الكلاسيكية للهوية السياسية الإسلامية، هي تعارض الاستبداد الديني القائم على ادعاءات الخصوصي الوحصري الخلاصية مع روح الاعتراف بالتعددية الدينية، وكذلك يتعارض على المستوى السياسي مع مجريات التحول الديمقراطي التي من متطلباتها الاعتراف بالتعددية الدينية. ويقع في صميم التعددية الديمقراطية، احترام حقوق الإنسان للطرف الديني والثقافي الآخر في المجتمعات في السياق الأسلامي أو المجتمعات الإسلامية. لقد كافح المفكرون الدينيون والاجتماعيون المسلمون  منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي مع قضية مدى قدرة الإسلام على إنشاء مجتمع سياسي يتخطى الحدود المرسومة تقليديًا بين المؤمنين وغير المؤمنين، ويسمح بالتالي للكرامة الإنسانية أن تكون المعيار الوحيد  للإستحقاق الإجتماعي والسياسي.

إن اللاهوت الإسلامي بالسماح للآخر بأن يصبح أخر كحقيقة واقعة يجعل المعرفة الطبيعية في مجال الأخلاق للخير والشر الظلم لا يغتفر بأي شكل من الأشكال. بغض النظر عن كيفية تقسيم الأديان للناس، يركز الخطاب الأخلاقي على العلاقات الإنسانية في بناء نظام عام مثالي. لذلك، أعتقد أنه يجب على اللاهوت الإسلامي في القرن الحادي والعشرين أن يتواصل خارج لغة تقليد دين معين. توفر لنا العلاقات الإنسانية على المستوى الأفقي إطارًا لتعريف الآخر الديني أو الثقافي من حيث "نحن" و "هم". ويصبح التعرف على الذات الإسلامية كعملية لفهم الذات في متناول الآخرين الذين هم من خارج الاسلام من خلال الوصف المفاهيمي للآخر.

يتطلب أن يبدأ من خلال البحث عن إجابات لأسئلة مثل: هل يعد التدين التعددي، والاعتراف المعزز بالاختلاف الروحي، نتيجة غير مقصودة للتقدم التكنولوجي والاقتصادي المتواصل بشكل متزايد وأكثر من أي وقت مضى؟ أو هل هذا الأمل في المصالحة هو جزء طويل الأمد من التراث الإنساني، المحفوظ في الخطاب الديني الكلاسيكي الذي كان عليه أن يتصالح مع الادعاءات المتنافسة للخلاص الحصري سواء فيما يتعلق بالديانات الأخرى وداخل مجتمع المؤمنين؟  توفر الاجبابات الفهم كيفية ارتباط الإيمان بالتاريخ وكيف يتفاعل التقليد المعياري مع الظروف الإنسانية.

وجدت الأديان الإبراهيمية في تعامل  التقاليد الإسلامية مع التعددية بالفعل تعبيرًا عن  عالم تعددي من الأديان أعترف به الإسلام وقيمه ولم يرفضه على الإطلاق بوصفه كاذب. نعم، يقع مثل هذا الوصف للآخر في عالم القانون، ولكنه يمكنأن يكون في عالم النشاط الديني والأخلاقي القائم على الوحي. كيف يمكن للمجتمع المسلم في هذا العصر، رغم انه كانت المهمة الرئيسية التي واجهت الأمة المسلمة المبكرة هي تأمين هوية لأعضائها ضمن رؤية كونية متمحورة حول الله تشترك فيها التقاليد الأخرى، أن يوفر الأدوات اللازمة للتكامل والشرعية دون حرمان الجماعات الدينية الأخرى من نصيبها الواجب في الهوية الدينية المتمركزة حول دين؟ هل يمكنها أن تبني مثالها في نظام عادل دون خلق لاهوت جامع للتعامل مع مجموعة واسعة من المشاكل الناشئة عن المواجهات بين المسلمين والبشر من الديانات الأخرى؟

يمكن الشريعة الإسلامية كطريق للهداية والنور (لا أحكام  كالقوانين تنفذ بالقسر) أن تكون تعبيراً عن المسعى البشري لتنفيذ الإرادة الإلهية على الأرض المطابقة للاعتقاد بأن الإيمان هو أداة للعدالة. عندما يندمج القانون والإيمان في حياة الفرد، فإنهما يخلقان شعورًا بالأمان والنزاهة حول المسؤولية الكبرى عن السعي لتحقيق العدالة  بحد ذاتها. وعندما يُسهم هذا الشعور بالأمن والنزاهة في الحياة الجماعية للمجتمع، فإنه يؤدي إلى الانسجام الاجتماعي. فالسلام إذن يُترجم الاعتقاد إلى عمل. لا يكفي مجرد الإيمان بالعدالة حتى يتحقق السلام. إن السلام هو نتيجة العدالة التي يتم الحفاظ عليها في كل مرحلة من مراحل العلاقات بين البشر. يؤدي الفصل بين القانون والإيمان إلى عدم الالتزام بالعدالة الذي يؤدي بدوره إلى الفوضى والعنف وحتى الحرب. وبالتالي، فإن الوصفة الإسلامية لتجنب المذابح هي الاستجابة لوحي الله، الذي يدعو إلى علاقات مخلصة بين الله والإنسان وبين البشر. وبعبارة أخرى، فإن الخضوع لإرادة الله يصبح نوعًا من قنوات خلق العدل والإنصاف على الأرض. في نهاية المطاف، المطلوب لاهوت اسلامي ترتكز فيه رؤية العلاقات الدولية في الإسلام على مشاركة المجتمع الدولي في الاهتمام الأخلاقي عبر الثقافات بالمساواة والسلام والعدالة.

رغم أن القرآن لم يصف الأديان ذات التقليد البراهيمي  بأنها زائفة ابداً، لكن التفاعل بين هذا الإيمان والتاريخ لم يعزز رؤية دينية مشتركة للمساواة الروحية. في الواقع، لقد أدى فهم جزء من المسلمين للدين أن يقود إلى التعصب، وحتى إلى استبعاد الآخر من العلاقة الإلهية الإنسانية. لا يمكن لمثل هذا اللاهوت الحصري أن يتصور مجتمعًا بشريًا عالميًا إلا تحت الهيمنة الإسلامية. وتصبح التقاليد الإسلامية، على هذا النحو، أداة لتعزيز السلطة السياسية والاجتماعية الإسلامية على الدول الأخرى.

  يمكننا من أجل فهم كيفية صياغة الفقهاء المسلمين للقرارات القضائية التي تؤثر على العلاقات بين الأديان أن نأخذ عمل المؤرخ الفقيه الطبري: "كتاب اختلاف الفقهاء"، وخاصة الأحكام المتعلقة بالجهاد  والجزية و "حكم المؤمنين". إن الكتاب تعددي في آرائه حول معاملة أهل الكتاب.، ويزود قرائه بنظرة ثاقبة نادرة عن  العلاقات بين الإيمان والتاريخ وعلاقات القوة الإيمانية بين فقهاء الشريعة الرئيسيين في الفترة الكلاسيكية (القرنان التاسع والعاشر). وينقل الأحكام اللاحقة والمنطق وراءها المبررات الدينية للأعمال العدائية ضد الأشخاص الذين لم يقبلوا الإسلام بعد وجميع شعوب العالم الذين يعيشون في مجال الحرب (دار الحرب). والأهم من ذلك، أن هذه الأحكام ليست مجرد إفادات الفقهاء للأفعال التي تتطلبها الشريعة  ولكنها تكشف أيضًا عن الالتزامات التشريعية للفقهاء ورغباتهم وآمالهم ومخاوفهم في التعامل مع غير المسلمين.

على الرغم من عدم وجود ذكر صريح للجهاد ضد غير المؤمنين غير المحاربين في القرآن،الأً أنه كان بمثابة التبرير اللاهوتي للتوسع الإقليمي للسلطة السياسية الإسلامية. إن هذه الأحكام، المستشهدة بسلطة كبار الفقهاء الأوائل، تحكم على قضايا الحرب ضد الكفار وأهل الكتاب، الذين يجب أن يخضعوا للهيمنة السياسية الإسلامية. لم يجعل الفقهاء المسلمون، كما يخبرنا الطبري، من الشروط المسبقة لغير المسلمين من بين أتباع الموحدين أن يعتنقوا الإسلام لتجنب الحرب الصريحة. كان هناك تأييد ضمني لأعتراف القرآن بالفعالية الخلاصية للأديان الكتابية الأخرى، على الرغم من أن الكافرين غير التوحيديين كان عليهم قبول الإسلام لتجنب إراقة الدماء.

لكن هذا الموقف المتسامح تجاه الموحدين الآخرين، بما في ذلك أهل الكتاب، استمر فقط طالما أنهم لا يشكلون تهديدًا للمجتمع الإسلامي. عندما واجهت الجيوش المسلمة والمسيحية بعضها البعض، كان لا بد من البحث عن مبرر للانخراط في الحرب ضد أهل الكتاب عن طريق مبدأ إلغاء الأحكام التعددية في القرآن. وبحسب الفقهاء، فإن الآيات المتسامحة تُلغى من قبل آية السيف التي تحكم بالحرب ضد أهل الكتاب.

هناك اتفاق بالإجماع بين العلماء، يقول الطبري، على أن أولئك الذين دفع الجزية، كما هو مطلوب من قبل آية السيف وهما أتباع التوراة والإنجيل. وعلاوة على ذلك، يجوز جمع الجزية من شخص قبل بخضوعه للسلطة المسلمة وهو عاجز عن حماية نفسه.  وكان يجوز، من المناسب، حسب الأمام مالك، قبول الجزية من العرب إذا كانوا من أهل الكتاب، ويجوز قبول الجزية من غير العرب، سواء كانوا من أهل الكتاب أم لا، وحتى لو كانوا يعبدون الأوثان. وحكم الشافعي أنه إذا لم يكن والدا شخص ما من أهل الكتاب (أي كتاب نزل قبل أن يكشف القرآن) وكان هذا الشخص يعارض دين الأوثان لاينظر اليه أنه عابد صنم، يترك الأمر في مثل هذه للإمام، بصفته القائد السياسي للمجتمع، حيث لديه الحق ايضاً  في الموافقة على جمع الجزية من أهل الكتاب والسماح لهم بالبقاء في دينهم، أي اليهودية أو المسيحية؛ ومع ذلك، كان هناك رأي مختلف فيما يتعلق بقبول الجزية من عابدي الأوثان  من غير العرب دون تحولهم إلى الإسلام لا يجوز للإمام قبول هذا العرض. بدلاً من ذلك، كان الإمام مضطرًا إلى قتاله حتى يستسلم، تمامًا كما كان مطلوبًا منه لمحاربة عابدي الأوثان حتى استسلامهم.

وإذا حارب المسلمون أولئك الذين لم يكن لديهم معلومات دينية عنهم، والذين ادعوا أنهم ينتمون إلى أهل الكتاب، على المسلمين أن يسألوهم  متى قبلوا هم وأسلافهم هذا الدين. إذا قالوا قبل أن يُنزل القرآن على النبي محمد، فإن المسلمين مطالبون بقبول أقوالهم والسماح لهم بالبقاء في دين أجدادهم. ولكن إذا اشتبه المسلمون في أن ما يقولونه ليس صحيحًا ويمكنهم إثبات أدلة صحيحة في هذا الصدد  فسيتعين على المسلمين رفض الجزية وتخيرهم بين الاستسلام أو القتال.

يساعدنا التحليل السياقي لهذه الأحكام والتي تنظم العلاقات الإسلامية الأخرى في ظل الهيمنة السياسية المسلمة على تحديد الأسباب المؤثرة وراء آراء هؤلاء الفقهاء. إن أي تطبيق متهور لهذه القوانين اليوم دون اكتشاف الغرض من القانون أولاً والتأكد من الجوانب الظرفية أو الموضوعية من الأحكام يمكن أن يؤدي إلى تقييم خاطئ للظروف المتغيرة وموقف الإسلام .

إن الإصرار في مجتمع دولي متنوع، على الاتفاق على مسائل الإيمان كشرط مسبق للسلام الدائم هو مشكلة عويصة للغاية. إن الحل الذي تقدمه النظرية الليبرالية العلمانية هو أن السلام لا ينبع من الاعتقاد المشترك بل من نظام حكم يدمج مبدأ التعددية الدينية. تجري العلاقات الدولية اليوم دون أي إشارة إلى المعتقدات الجوهرية للدول الأعضاء. مهما كانت اختلافاتهم التي لا يمكن التوفيق بينها في مسائل العقيدة، فإن جميع الدول ملزمة قانونًا بالقيام بدورها في الحفاظ على العلاقات الدولية السلمية. لا يتطلب حل النزاعات من الدول الأعضاء التمسك بمعتقدات دينية معينة، كما لا يعني أنها لا تشارك أو لا تستطيع مشاركة رؤية مجتمع عالمي مستقبلي مستوحى المعتقدات المتعالية. إن الأديان عموما والتقاليد الإبراهيمية خصوصاً، والإسلام  من بينها تحديدا، لديها الكثير مما تساهم فيه في خطاب حول استصواب مجتمع عادل من الدول.

هناك ضعف  في الفكر الإسلامي الحالي له آثار على اللاهوت السياسي والاجتماعي المعاصر. الضعف في تقييم بصدق تأثير التاريخ على تطور التقاليد الإسلامية المعيارية، وعدم وجود ملاحظة تجريبية في تقييم التقاليد الإسلامية المعيارية كمصدر للأخلاق الاجتماعية. فتقع على المفكرين المسلمين مسؤولية مهمة تتعلق بتحقيق الأنسجام بين  سياق المجتمع التعددي المعاصر والتقليد الإسلامي. ومع استمرار المسلمين في البحث عن حلول لمشاكل الحياة اليومية في عالم تفتت فيه القيم الإنسانية العالمية تحت تأثير سياسات القوة، إنهم ملزمون بالتعامل مع الخطاب القرأني في لغته البشرية والسياق الإجتماعي للوحي. وفهم الكشف والتتويج التاريخي للقرآن ككل، وقابلته للتكيف مع ظروف الحياة المتغيرة والتحولات المصاحبة لها في القيم. إن الأصولية الإسلامية بأشكالها المعاصرة المتطرفة، حتى المحافظة السنية - الشيعية، هي مجرد محاولة للتشبث بسلامة الماضي، وليس مشروعًا ذا مغزى لمواجهة المستقبل.كما يقول فضل الرحمن في كتابه " الإسلام والحداثة".

لقد حان الوقت لبداية جديدة في التقاليد المعيارية حيث يستخدم نظام الشريعة الإسلامية على نطاق واسع أحكام الإنصاف والمصلحة العامة وحيث يمكن أن يشجع اللاهوت الأخلاقي الأحكام البشرية العقلانية للصواب والخطأ. إن المهمة  كبيرة تتطلب من المفكرين المسلمين الذين يمكنهم حث المؤمنين على تجاوز المجتمع المعياري لتعزيز خطاب عبر الثقافات يقدم فيه التقليد الإسلامي، إلى جانب المسيحية واليهودية والأديان الأخرى، صوتًا موثوقًا للتوجيه والأرشاد الأخلاقي والروحي وليس الحكم.

علاوة على ذلك، من أجل اقتراح تفسير جديد للاهوت القرآني للعلاقات بين الأديان، سيتعين على المسلمين مواجهة آثار النظام الدولي العام بشكل مباشر، وأصبحت القرارات القضائية السابقة غير ذات صلة بالنظام الحديث للعلاقات الدولية، وبالتالي فهي غير قادرة على تسليط الضوء على المهمة المتمثلة في الاعتراف بالتعددية الدينية بوصفها حجر الزاوية في العلاقات بين البشر.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

 

في المثقف اليوم