قضايا

فاطمة الثابت: الرقمنة وتسويق العدمية.. فهم أخر لسوسيولوجيا الوجود

ونحن نتصفح  وسائل التواصل الاجتماعي، لابد أن يتبادر الى ذهن أحدنا  تساؤل مُلح حول الانتشار السريع للأخبار المتعلقة بالوفاة؟ أو تداول الأزمات الأجتماعية والأقتصادية؟ تسويق البؤس بقصد أو غير قصد؟ وغيرها من المظاهر المتداولة التي تخلق لنا على الأقل كأبة مؤقتة ، لذلك هل هذا مظهر من مظاهر التشاؤم، أم مظهر من مظاهر فراغ المعنى، أم أنه شكل من أشكال  فلسفة العدم؟ في كتاب "السقوط" لألبيركامو  يقول:

 "نادرًا ما يتبنى الناس أسبابك، أو أصالتك، أو خطورة معاناتك حتى تتجاوز عتبة الموت.. بينما أنت على قيد الحياة، يكتنف الشك قضيتك، ويتركك مع لا شيء سوى الشكوك".

وفي نفس دائرة العدم التي تختزل شكل الحياة الأنفصامية  "إن مشاهد حياتنا مثل صورٍ مصنوعة من فسيفساء خشنة، فإذا ما نظرنا إليها عن قرب لا يكون لها تأثير، ولا شيء جميل فيها، إلا إذا وقفت على بعد مسافة ما ولذلك، فإن حصولنا على أي شيء نتوق إليه ينتهي بإكتشافنا كم هو فارغ وبلا فائدة." (آرثر شوبنهاور : تهمة اليأس/ مقالة فراغ الوجود

إذن هل تسللت هذه النظرة الفلسفية العدمية إلى واقع حياتنا ،أم أنها شكلها بلأساس؟ أو إن مواقع التواصل الأجتماعي عززت مشاهد الحزن والموت التي تزهو بها حياتنا الأجتماعية؟ وباتت هذه المشاهد العدمية تتعزز بصور عدة حتى  أنعكست على أبرز أوجه الحياة الأجتماعية ومنها:

العدمية الأخلاقية: تتحدى العدمية المفاهيم التقليدية للقيم الأخلاقية والأخلاقية، فنتسائل عما إذا كانت المبادئ الأخلاقية الموضوعية موجودة وهناك من يؤمن  أن الأنظمة الأخلاقية هي بنيات بشرية ليس لها صلاحية متأصلة أو عالمية.

العدمية الوجودية: وهي مجموعة فرعية من الفكر العدمي، غالبًا ما تستكشف فكرة أن الحياة تفتقر إلى المعنى أو الهدف المتأصل ، عند تطبيق هذا المنظور على المجتمع، يمكن أن يقود الأفراد إلى التشكيك في غرض الهياكل والمؤسسات المجتمعية، وحتى حياتهم الخاصة، يمكن أن يعزز مشاعر اليأس الوجودي أو خيبة الأمل من التوقعات المجتمعية.

العدمية الثقافية: يمكن أن تكون العدمية بمثابة أداة حاسمة لتحليل وتفكيك الأعراف الثقافية والمجتمعية، بالتالي نرى التساؤلات تتكرر حول أهمية المعتقدات والقيم في المجتمع.

العدمية السياسية: العدمية قد تعزز الشك تجاه شخصيات السلطة والمؤسسات والتسلسلات الهرمية المجتمعية، ويشجع الأفراد على التشكيك في شرعية ودوافع من هم في السلطة، وهذا ساهم في تشتيت رغبتنا الحقيقية في تغيير الانظمة المتوالية.

العبثية والاغتراب: العدمية الوجودية غالبًا ما تستكشف موضوعات العبثية والاغتراب في الوجود الإنساني في سياق المجتمع، يمكن لهذا المنظور أن يعزز مشاعر الانفصال أو الاغتراب أو القطيعة التي قد يواجهها الأفراد في عالم يعتبرونه خاليًا من المعنى النهائي وهذا أيضاً يرتبط بالفردية من خلال ربط العدمية بالتركيز على الفردية والاستقلالية الشخصية، وقد يؤكد على أهمية تقرير المصير ورفض المعايير المجتمعية التي يعتبرها الأفراد تعسفية أو لا معنى لها.

وكل ماذكر يساهم في بناء شخصيات إنهزامية لا أجتماعية ،وهذا  ما تنبأ به نيتشه "ولكن بمجرَّد أن يكتشف الإنسان كيف أن هذا العالم مصنوع من أجل تلبية حاجاتٍ نفسيةٍ وحسب، وكيف أن ليس له فيه أي حق، تأتي آخر صورة من العدمية إلى حيِّز الوجود متضمنةً عدم الإيمان بأي عالم ميتافيزيقي، ومحرمةً على نفسها الإيمان بعالم حقيقي، وبعد الوصول إلى هذه الحالة يسلم الإنسان بأن حقيقة الصيرورة "الوجود" هي الحقيقة الوحيدة، وينكر كل السُّبل الملتوية التي تؤدي إلى عوالم ميتافيزيقية وآلهة مزيفة، لكن لا يُمكن أن يتحمَّل هذا العالم إن لم ينكره..."

لذلك علم الأجتماع لم يترك الموضوع للفلسفة لأن هذه السياقات أنسحبت على المجتمع وبدأت تشكل شخصية الأجيال القادمة التي أختزلتها أفلام الأنميشن والمواقع الألكترونية الأخرى ، حيث تطرح أسئلة وتجيب عنها مما عزز فوضى العدم والعبثية ، لقد مضى أكثر من قرن منذ أن استكشف نيتشه العدمية وآثارها على الحضارة، كما تنبأ انتشار تأثير العدمية على ثقافة وقيم القرن العشرين، وأثرها المدمر الذي يخلق مزاجاً من الكآبة، وقدراً كبيراً من القلق والغضب والرعب.

فظهرت محاولات سوسيولوجية عدة تفسر أرتباط العدم بالمعنى والسياقات الأجتماعية ومن هذه المحاولات ما قدمه عالم الاجتماع البارز أرفينج كوفمان المعروف بعمله في التفاعل الرمزي، والجوانب الوجودية للتفاعل الإنساني وعرض الذات، تتناول أبحاثه حول التفاعلات وجهًا لوجه وإدارة الانطباع الاهتمامات الوجودية المتعلقة بالهوية والأصالة وأداء الذات في السياقات الاجتماعية ، أضافة الى بيتر بيرغر: قام بيتر بيرغرو توماس لاكمان، بتأليف كتابهما المؤثر "البناء الاجتماعي للواقع حيث تعاملا مع العمليات الوجودية، وخاصة فكرة أن الأفراد يبنون المعنى في حياتهم من خلال التفاعلات والتفاعلات الاجتماعية، أضافة الى ألفريد شوتز صاحب الظاهراتية الذي ساهم في فهم كيفية فهم الأفراد لتجاربهم اليومية من خلال عمله حول "عالم الحياة" والبناء الاجتماعي للواقع مع الأفكار الوجودية المتعلقة بالتجربة الذاتية والبحث عن المعنى.

فضلاً عن هوارد س. بيكر الذي أكتشف في عمله حول نظرية التصنيف والانحراف، كيف يتنقل الأفراد مع التوقعات المجتمعية وكيف يمكن أن تؤثر التصنيفات المجتمعية على مفهوم الفرد الذاتي وإحساسه بالهوية. يتطرق عمله إلى الأبعاد الوجودية للتحكم الاجتماعي والوكالة الشخصية.

سوسيولوجيا الوجود تعزز فكرة فهم الأنسان لذاته وواقعه ، وكيف تُبنى تصوراتنا للحياة ، وفي الوقت نفسه لايمكن تجاوز دور مواقع التواصل الأجتماعي في بناء هذه الرؤية وتعزيزها في تمثل الأفراد لواقعهم سواء كانت بالسلب أو الأيجاب ، لذلك نحتاج الى فهم أوسع للمعنى والواقع الذي نعيشه أو الواقع الذي تسوقه الرقمنة.

***

فاطمة الثابت

في المثقف اليوم