تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

هشاشة الفكر ورهاب النقد

عبد العزيز قريشهل للفكر هشاشة؟ ولماذا رهاب النقد؟ أليس الفكر يقابل الفكر في حمولته المعرفية وأدواته الإجرائية ومسالكه المنهجية ...؟ أليس الفكر بالنقد يعيد بناء ذاته من جديد ويخلص نفسه من شوائب الأخطاء والأغلاط التي يقع فيها؟ ألا يقع النقد في سياق الفكر موقعا طبيعيا من سيرورة التفكير، يستنجد به المفكر لإنقاذه من رواسب النظريات والمعارف والأدوات.. التي ما عادت صامدة أمام حقائق ووقائع تدحضها؟ أيمكن تصور فكر بلا نقد؟ ألا يشكل الفكر والنقد وجهي عملة واحدة لا يمكن صرفها في سوق العلم والمعرفة والاجتماع والثقافة.. دونهما؟.. أسئلة جوهرية ومنطقية الطرح حين يطل القارئ على العنوان؛ فيجده محملا بأكثر من سؤال.

ومنظومة الأجوبة عن هذه الأسئلة تفيد بأن للفكر هشاشة ورهاب نقد حين يوسم ب:

ـ وجودية الفكر الهش من خارج وجودية ذاته، بمعنى عدم تخلقه من أمشاج أصلية أصيلة يستمد منها ذاته ووجوده وهويته واستقلاله عن الآخر مهما كان التفاعل والتلاقح واردا وممكنا، لأن الفكر الأصيل له مصافي ترشح الشوائب عنه، وتبقي على الجواهر التي يمكن أن تنصهر بداخله فتقويه، وتزيده مناعة كالمضادات الحيوية بالنسبة للجسم. وأما الفكر الهش لا يملك ذلك، ولا يملك لنفسه حصانة من نوائب الجائحات الفكرية.

فالفكر غير الأصيل يتكأ على فكر الآخر يستمد منه وجوده، ويقتفي أثره وخطواته، ويقول ما قال ويقول الآخر. يتبنى أطروحاته ومقولاته لو دون هضم جيد لها. ربما يلوح لنا هنا بأن وحدة الفكر والعلم لا تعرف انفصام الفكر بين فكري وفكر الآخر، وإنما هي وحدة إنسانية متكاملة ومتساندة ومتعاونة في تشييد صرح المعمار الفكري الإنساني. لذا؛ فالفكر هو فكر واحد. نعم صحيح هذا القول وجميل جدا؛ لكن عمليا ليس كذلك، لأن هذه الوحدة تظهر في مجالات المعرفية دون أخرى. وإلا؛ لماذا هذه الوحدة تحجب عن الآخر مجالات معرفية وتقنية ومعلوماتية متعلقة بحقل القوة والسطوة الاقتصادية؟ ألا يفيد القول بوحدة العلم والفكر الإنساني بالتساوي أمام معارفه وتقنياته ومناهجه ومستجداته مهما تنوعت مجالاته وحقوله؟

ففي ظاهر هذا الزعم الصحة، وفي باطنه الأراجيف مما يتطلب تفحصه بمشرط النقد البناء، وبناء مقولته على الحقائق الموضوعية والوقائع المعيشة لا الادعاءات الزائفة المروجة للنفاق العلمي! فنحن اليوم نقف عن كثب على منع بعض الدول امتلاك أسباب القوة العلمية، ومحاربتها بشتى الوسائل والطرق لإبقائها في التخلف والفقر المادي والعلمي والمعنوي لتبقى سوقا للآخر، وما يستتبع ذلك من مشاكل متنوعة، وفي مختلف مجالات حياتها لتبعدها عن أسباب النهوض العلمي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي ... وتحيدها عن امتلاك القوة التي تكون بها مستقلة حرة القرار! فلو كانت هناك وحدة فكر إنساني لساعدت الدول المتقدمة علميا الدول المتخلفة على امتلاك ناصية العلم والمعرفة والفكر.

فالفكر هو فكر فردي أولا، ذو ذات فردية، وهوية فردية؛ لكنه جماعي النتائج التي تضفي عليه صبغة الفكر الجماعي والهوية الجماعية التي يشترك فيها الأفراد بحكم اجتماعيتهم داخل المجتمعات الإنسانية. لذا يظهر لنا كأنه فكر جماعي في صيغته الأولية والابتدائية، والحقيقة أن الإنسان يفكر لوحده ثم يشرك الآخرين في تفكيره. وإلا ما كان هناك فروقات فكرية بيننا. وعليه يجب أن نعمد في إطار الشراكة الفكرية أن نحقق فكرا أصيلا بالجماعة التي ننتمي إليها، وأن نسمه بما تطبعنا عليه من خصائصنا الفردية والجماعية معا حتى تتشكل له هوية جماعية، تميزه عن فكر الآخر.

فالفكر الموجود بذات الآخر يسقط في بداية الطريق حين يسقط ذلك الفكر، وأما الفكر الأصيل فيبقى ويجدد نفسه دائما، ويبدع وجوده من جديد لأن ذاته حاضرة في ذاته تمده بالحياة والاستمرار وأسباب البقاء. وما دورة الفكر الهش الموجود بذات الآخر إلا عجلة مرتفعة عن الأرض تدور حول نفسها، فلا ترسم لها خط سير على الأرض إلا ظلا ثابتا في مكانه ...

ـ هوية الفكر الهش ليست هويته، وإنما هي قناع يوهم نفسه أنه يمتلك هوية تميزه، ويحيطها بهالة من احتفالية الإنتاجات القولية التي لا تصرف في واقعه نتائج نفعية تحل مشاكله، وترقيه على مختلف الأصعدةـ وترفع من شأنه بين باقي المجتمعات الأخرى! وإنما هي أطنان من الأوراق القولية التي تتكدس في المكتبات الورقية أو الالكترونية، يستمد منها الباحث والقارئ القول ويعيد طحنه من جديد دون طحين يذكر. في أحسن الأحوال طحنه يولد جعجعة وتحريكا لدواليب القول في مجتمع القول لا الفعل. وما فكر المجتمعات المتخلفة سوى ظلال فكر الآخر، حتى ما نطبقه من نظريات وتقنيات ومناهج ومسالك عملية هي انعكاس لما جاد به فكر الآخر علينا. فليتفحص أحدنا ما ننتج من القول، فسيجد أغلبه للآخر، وأنه لا يخلو من قول الآخر. ومرتكزه عليه لا ينكره إلا عمي عن الحقيقة المرة.

فالهوية الحقيقية هي هوية صلبة وصلدة تتميز بالقوة والمثانة والصمود أمام باقي الهويات الأخرى، ولا تتماهى معها وتسقط في شرك الاستيلاب والذوبان والاختفاء. بل تعتز بخصوصياتها وتتشرف بمعطياتها ولا تتأثر بالهويات الأخرى بمسوغات واهية زائفة. بل تمتاح منها ما يناسبها ويتساوق مع معطياتها وينسجم مع طبيعة بنياتها، بما يخدمها. ولا تتقوقع على ذاتها، وتنزوي بنفسها عن الآخر، وإنما تنفتح على الآخر دون الانبهار به، ودون الانصهار فيه. وتأخذ مسافة منه ملؤها النقد الرصين القارئ بعين العقل لكل ما يغريها به. فتغربله وتستقي منه ما يناسبها وتترك ما لا يناسبها ويشكل معول هدم كيانها. ونظرة لفكرنا المتداول بيننا تضرب لنا الأمثال الكثيرة فيما يعتمره من هشاشة نتيجة أخذ القول على عواهنه حتى التطرف يمينا ويسارا، فتهدمت منظومة الفكر لدينا، ومنظومة القيم، ومنظومة السياسة، ومنظومة الدين ... وانخرمت منظومة اجتماعيتنا؛ فعدنا أعداء في البيت الواحد، نتقاتل فيما بيننا نتيجة تعدد مشارب فكرنا الواردة علينا من وراء البحار، دون أن نقيم للحوار بيننا وزنا ... وكان علينا أن يكون لفكرنا هوية أصيلة دون توحيد الفكر في قالب واحد وحيد لأن ذلك مخالف لطبيعة القوانين التي أودعها الله في الكون والخلق. وإنما الاتفاق والحوار والتوافق كفيل بتشكيل مبادئ أساسية لفكرنا ننطلق منها في مقاربة عالمنا الداخلي والخارجي. ونبني عليها اختلاف مناهجنا وطرقنا ومسالكنا تجاه تحقيق أهدافنا المشتركة. وبذلك نؤسس لهوية فكرنا وتوابعها من استقلال وحرية وإبداع ...

ـ الفكر الهش لا يثق في نفسه، فهو دائم الشك في مهاراته وقدرات وكفاياته وكفاءاته!. لذا؛ تجده دائم الاستنجاد بفكر الآخر لمقاربة قضاياه ومشاكله ومعيشه اليومي، يطلب نظرياته ومناهجه وتقنياته وأساليب وطرقه لتنزيلها على قضاياه المستعصية في نظره، مهما امتلك من قدرات ومهارات إبداعية. فهو شديد القلق نحو العلاقات البينية التي تقع بينه وبين الفكر الآخر، ودائم الإحساس بالعجز والقصور تجاهه. تقديراته لذاته منخفضة ونظرته إليها سلبية، يستصغر فكره أمام فكر الآخر، وينخ له، ويمجده ويتباهى به مهما فعل، ويدافع عنه.

وهو الفكر الهش يخاف المجهول والمناطق المظلمة من الإشكاليات والمشاكل والقضايا والأفكار، معتاد على ما يعرفه من كائن معيش وواقع شائع معروف، ومن التقاليد التي سبرها عن كثب، واعتاد الاحتكاك معها من باب العادة والروتين والاستئناس لما تمده من الاطمئنان والعادة في تدبير شؤونه. بينما المجهول يشكل عليه خطرا للمفاجآت التي قد يحتويها فضلا عن كونه لا يملك الجرأة الفكرية التي تقحمه في التعاطي معه، والدخول إليه بمنظومة أسئلة وبجهاز نظري ومفاهيمي ومنهاجي لتفكيك بنيته المجهولة والوقوف على وظائفه وأدواره فيما أشكله من قضايا ومعيش يومي. كما أن هذا الفكر الهش  يخاف النقد والرفض، يتردد في قراراته نتيجة ذلك. تتشكل لديه قوة المعارضة والرفض بحدة لكل جديد مجهول موحش لأن هاجس الخوف منه يسيطر عليه. وفي أحسن الأحوال قد يطلب من يعري على مجهوله حتى يتلمسه ويقبل التعاطي معه مع وجود المساعدة الفكرية والمدرب المرشد " coach "، وإلا فهو من القوى المضادة للجديد لكونه مجهولا لديه، طارئا عليه. كما يخاف المجهول فهو يخاف النقد لأنه من جهة أولى يكشف عورته التي تسترها أوراق التوت، فهو يهاب سقوطها مع رياح النقد في خريف مقولاته وادعاءاته وزعم أصالة أفكاره ومتانة أطروحاته عند أول تجربة تواجهه حقا. ولأنه من جهة ثانية يعتقد أنه على الصواب دائما وفوق التقييم والمساءلة بل والمحاسبة.

والفكر الهش هندام لغته منمق، وتركيب عباراته سلس. له من الكلام حلوه، مسالم لا ينازع المعرفة الغائبة المغيبة إلا باستحياء وتوجس وهيبة وخوف. والفكر المنازع عند عامة الفكر الهش خروج عن المعتاد يبلغ جرمه حد الزندقة والمروق من المعتاد الأليف الذي يسمونه إجماعا أو تواضعا أو توافقا، ويستحق التكالب عليه ونعته بأقبح الصفات والأوصاف والنعوت حتى تتعالى أصوات الغوغاء الفكروية تحشيدا وتحريضا في أذنيه طالبة بالإطاحة به، والتنكيل به. وتاريخنا حافل بمن تزندق حين خرج عن فكر السلف والآباء المؤسسين للفكر العربي والإسلامي ومقولاتهم وأفكارهم وتفسيراتهم وطرائقهم، فرجم وقتل وسحل وسلخ ... فالفكر الهش فكر عقيم البطن لا ينجب إلا خدائج الفكر والثقافة والعلم. ولا إبداع في صلبه وإنما التكرار وإعادة إنتاج نفسه حتى التخمة!.

ـ لماذا رهاب النقد؟ معلوم بالضرورة العلمية والمعرفية أن النقد كائن وجودي طبيعي في سياق الحياة الإنسانية لفاعليته في استدراك الهفوات والأخطاء والأغلاط وتصحيحها وتصويبها بوضعها على سكة السير الصحيح بخطوات واثقة صامدة محققة للنتائج المتوخاة والمرجوة في تقويم الفكر قبل السلوك، وفي الارتقاء بأبعاد الشخصية الإنسانية على مستوى الأفراد والجماعات والمجتمعات، فهو يعري بمشرطه عن المناطق المظلمة في تفكيرنا ومناهجنا وأقوالنا وأفعالنا وسلوكنا وثقافاتنا ونظرياتنا ومنتوجاتنا الفكرية وغير الفكرية. بل؛ يعري حتى عن محرماتنا ومقدساتنا ومعتقداتنا. ويضيئ على مناطق سلبياتنا بمصباح العقل والوعي؛ فتنكشف لنا الحقائق والوقائع التي تؤدي بنا إلى اتخاذ القرارات الصائبة والجريئة في بعض الأحيان. فهو الحارس الواقف على نقاء وصفاء فكرنا ومستلزماته ونواتجه، فيزيدنا إنارة على التحديات التي تعترضنا، ويغني ثقافتنا، ويوسع مداركنا ويرقي مدارجنا في الحياة. فيفهمنا متغيرات عصرنا ومتطلباته، ما يسهم بفعالية في تملكنا كفاية التعامل مع معيشنا اليومي والمستقبلي. وهو الذي يثورنا على أوضاعنا بغية تغييرها وتطويرها وتجديدها وتحبيرها وتحسينها. وهي العملية التي يخافها الفكر الهش بشدة لأنه وطن من خلال هشاشته مصالح جمة ومنافع عدة تعود عليه نفعا ورزقا ومتاعا ورفاهية. وضمن لنفسه موقعا رياديا وموضعا مريحا على رأس القوم يسوقهم حيث مصالحه. والتثوير في نظره علامة من علامات الشفاء والتعافي منه، ومما جلبه على المجتمع من كوارث عظمى، ومما عل به الفكر والثقافة والتفكير. لذا تراه يمقت النقد وأهله مقتا، ويتصدى له محاربا مقاوما بكل ما استجمع من أسلحة وضغائن ودسائس ومكائد ومصائد وخدائع! فيسخر أقلامه وإعلامه وزبانيته للدعاية له والترويج بصلاحيته وصوابيته مقابل تغليط النقد وتفحيشه وتجريمه، وتبخيسه في كثير من الأحيان. فتراه كالطاووس ينفخ ريشه ويفرشه خيلاء وتجميلا لذاته! ولكنه المسكين حين يرمى بسهام النقد ينكمش حجما حتى يغدو دجاجة تستنجد بالديك الأصيل لإغاثتها وإنقاذها من نتف ريشها! ...

فرهاب النقد للفكر الهش مرض نفسي يستدعي طبيبا نفسانيا أو محللا اجتماعيا للعلاج منه. فهو يدخله في نوبات صرع حادة وهستيريا قاتلة تفقده الأعصاب وتعطل لديه باحات التفكير وتخدر أعصاب الردود. فيخبط خبط عشواء. لا يدري الاتجاهات ولا المسارات ولا المآلات. لذا يطلب منه العقل والوعي مراجعة الطبيب للتداوي، فلكل داء دواء كما جاء في الأثر.

 

عبد العزيز قريش

 

 

في المثقف اليوم