تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

محصلة تجربة مهنية تربوية.. نقد في المحصلة

عبد العزيز قريشبعد ممارسة مهنية تربوية لثلاثة عقود وبضع سنوات، أحال الأستاذ نفسه على التقاعد طلبا لمساءلة نقدية لواقع معيش، تدرج فيه من موقع الأستاذية إلى موقع التأطير والإشراف التربوي دون أن يسقط خيطهما الناظم، وهو البحث العلمي، الذي شكل رافدا أساسيا من روافد نهر معرفته الأكاديمية وتجربته المهنية، وعمق لديه الوعي بموقعه في المنظومة التربوية وتأثيره فيها إيجابا وسلبا، وخصب تربة معرفة التجربة لديه بأطر نظرية هيكلت مستخلصاتها المعرفية والأدائية بحدود مقولات تربوية وإبستيمية نظرية وتطبيقية وإجرائية، ساهمت في حل العديد من الإشكالات المعرفية والمنهجية والأدائية والإجرائية في الميدان، وفكت الكثير من طلاسم العملية التعليمية التعلمية المعقدة الغامضة، التي زعمت برمجة وشفرات وتسنينات وهندسة التربية أنها تحقق غايات التربية والتكوين، وتمكن المتعلم من الكفايات المتنوعة التي نطق بها المنهاج، ونشرت في توجيهات وإرشادات الكتيبات والمقولات التربوية للخطاب التربوي الرسمي، الشائع بين مكونات المنظومة التربوية والتكوينية بطبيعته التشريعية والتنظيمية والإجرائية، وبحكم قوته القانونية التي تحمل في عمقها البعد السلطوي، بمعنى البعد المؤسساتي اللازم الأخذ به تحت طائلة المساءلة القانونية والمرفقية المفضية إلى التأديب؛ ما أدى إلى الالتزام بها مهما كانت نتائجها!

في سياق هذه التجربة؛ رشحت جداول مياه تراكمها الخبراتي بقايا مهنية علقت في الذاكرة وكأنها وقعت لتوه وأخرى طمرت في تربة أوراقها العلمية العميقة لعل شرارة ما في يوم من الأيام تشعلها، أو تحفر عنها ملاسة عالم آثار التربية لدراستها والاستفادة منها؛ محفزة على النقد الذاتي، لعل شرايينها تغذي جسمي الأستاذية والتأطير والإشراف التربوي بمعرفة وخبرة وتجربة معيشة في الزمن التربوي، تسعفهما على استثمار الإيجابيات، وعلى تحويل الإكراهات والتحديات إلى فرص للنجاح من منطلق استثمار التجربة المهنية الميدانية بشكل واع وراشد ومسؤول وعقلاني ومنطقي ومبدع متحكم في قوانين وضوابط الفعل التعليمي التعلمي، وفي مدخلاته ومخرجاته وسيروراته؛ ما كانت شذرات التكوين الأساس لتمكنهما من ذلك. ودافعا إلى الاستمرار في المضي إلى الأمام بأمل مفتوح على تطوير منظومتنا التربوية والتكوينية على مختلف مستوياتها ودرجها لرفعها إلى مصاف المنظومات الرائدة في مجال التربية والتكوين والتعليم. خاصة أن هذين الجسمين تشببا بطاقات واعدة طموحة إلى تغيير هذا الواقع البئيس بكل المقاييس المعرفية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والقيمية والإنسانية ... الذي يؤلم لمشاهده المأزومة كل نفس سليمة، ويحزن الجميع لوقائعه المؤسفة التي تجري في واقعنا التربوي اليومي. والتي تعج بها وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي إزاء فضاءات المحاكم ومكاتب الوزارة والمحامين.

فلم يعد اليوم بعد مسيرة عقود طويلة من التكوين والتجربة والخبرة والأداء في المجال التربوي والتكويني الرسمي مقبولا تجاوز المعطى التربوي التاريخي، الذي رصد وراكم ويراكم معرفة التجربة بما فيها من مناهج وتطبيقات وتجارب ومعلومات ومعارف، وخبرة، ومهارة، وقدرة على الفعل الناضج، المبني من الواقع على موجودات وكائنات تربوية تشكل وقائع تربوية تقع خارج المعرفة التربوية، التي تؤسسها معرفة التجربة والخبرة والمهارة والقدرة، على معطى متعلق بما نعرفه، وعلى معطى متعلق بفعل المعرفة ذاته في هذه المناحي جميعها، بمعنى أن الفعل التربوي والتكويني تظل تكمن فيه معرفة التجربة والخبرة والمهارة والقدرة رغم انتفاء الذات التربوية العارفة عنه بسبب من الأسباب " تقاعد، موت، تغيير مجال الاشتغال، تغيير المهنة، ترقي مهني ... " التي توجب على المؤسسة التربوية وزارة كانت أم أكاديمية أم مديرية أم مدرسة أم هيئة تعليمية أو تكوينية أو بحثية الاستناد والاتكاء والارتكاز على خلاصات ومستخلصات التجربة التعليمية التعلمية السابقة تاريخيا في الزمن والتخطيط والفعل لربط ماضي المنظومة التربوية والتكوينية بحاضرها، واستشراف مستقبلها برؤية استراتيجية، تستفيد من الإيجابيات والتحديات على حد سواء لحصد المزيد من تحقيق الغايات والأهداف النوعية لمنظومتنا التربوية والتكوينية لكونها معطى واقعيا بصيغة ما، قابلا للاستثمار. فمثلا: لو تتبعنا دراسة وبحثا تجربة بوكماخ ـ رحمه الله ـ في تدريس الحروف العربية على الطريقة التركيبية/الجزئية على مستويي منهج الحرف ومنهج الصوت أو دققنا في طريقة تدريس الحروف العربية بالمسيد المغربي وهي نفسها تقريبا مع بعض فروق التوصيف والاشتغال؛ لطورنا طريقة قرائية خاصة وخالصة بنا مناسبة لمتعلمنا، وما كنا لنفوت عليه الوقت والكفايات والمهارات، ونهدر الأموال الطائلة على نتائج سلبية عادت في محطات زمنية على المتعلم بالأمية المعرفية وغياب الوعي ... وعلى المسؤول التربوي بتشويش الرؤية وتخبط المسار وضبابية الهدف ... فلماذا كانت هذه النتائج؟ لأننا تخطينا المعطى التربوي التاريخي وألغيناه من حساباتنا وتقديرنا ومن رصيدنا الفردي والجماعي، المؤسساتي والمدني، عملا بمنطق القطيعة والبداية من الصفر لا مما انتهى إليه الآخر، فتخلفت وتأخرت منظومتنا التعليمية لعقود زمنية، وفقدت القدرة على تحقيق التطوير والتجديد والتغيير والإصلاح المنشود في زمن المعرفة والتطور التكنولوجي والرقمي؛ فأزمت المأزم وعمقت اليأس من الإصلاح في نفوس مكونات المنظومة المجتمعية، التي أصبحت بحكم تراكم الإكراهات لا تأمل في المنظومة التربوية والتكوينية الكثير من التغيير العلمي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والقيمي رغم الجهود التي بذلت ومازالت تبذل. فهي محط الشكوى من أغلبية المجتمع.

فاستثمار المعطى التربوي التاريخي في الفكر التربوي بما هو رأس المال الفكري للمنظومة ضرورة تطورية من الداخل، تسوق إلى تغيير منظومة التربية والتكوين في مسار خطي غير متقطع بتذبذباته ومنحنياته، تماشيا مع سنة التطور والتجدد والتغير التي أودعها الله كونه وخلقه حتى تستمر الحياة في مسار تصاعدي. وفعل التغيير هذا في المنظومة التربوية والتكوين لن تقوم به سوى الجهة الرسمية المسؤولة قانونيا واجتماعيا عن التربية والتكوين ومؤسساتها وأطرها انطلاقا من:

ـ  تاريخ تربوي متراكم من الخبرات، وجب دراسته من منطلق الثقة بالنفس لكي تستفيد من نتائجه في تفسير قضاياه التربوية التاريخية ذاتها، وشرح وقائعها وأحداثها وسياقها ونتائجها، وإدراك وفهم ووعي تعالقها وترابطها وتداخلها وتشابكها وتعاقدها، واستخلاص ميكانيزماتها وإوالياتها وأبعادها وغاياتها وأهدافها، ومعرفة منطلقاتها وشروطها ومتطلباتها للاستفادة منها في التعاطي مع القضايا والوقائع والأحداث التربوية الراهنة التي يعيشها المشهد التربوي الرسمي، والتي تعوق مساره الطبيعي وتكبح فعله عن التطور والتقدم والتجدد، وتضع في دواليب عجلاته النظيفة العصي والقضبان الصدئة والعفنة، وقمامة المتلاشيات التي خلفها التقدم من ورائه.

ـ تاريخ تربوي عالمي رصد من التجارب والرؤى والمعارف والمعلومات والمناهج والمسلكيات والاستراتيجيات والكفاءات؛ ما يسمح بالتنقيب في كليتها وفي آحاد جزئياتها عن المناسب لمنظومتنا التربوية والتكوينية من فكر علمي وتربوي إنساني مشترك قابل للتعديل وللتطبيق والإجراء غير منفصل بالمطلق عن واقع منظومتنا التربوية والتكوينية، ومنسجم مع معطياتها وخصوصياتها، يجد فيها التربوي والمكون المعالم الأولى الأساسية لبناء خصوصية تربوية تكوينية ذاتية مستقلة، حرة منفصلة عن الآخر في الرؤية والتخطيط والتنفيذ. تستفيد منه ولا تغرق فيه، ولا يسلبها العقل والإرادة إعجابا وانبهارا أو ضعفا أو غياب ثقة في النفس والقدرات. وتستطيع به منظومتنا التربوية والتكوينية خلق وإبداع فكر تربوي ورؤى واعية بالكائن والقائم فيها من وقائع وأحداث ومسارات ونتائج، يمكن التحكم فيها بمنطق المعرفة والوعي والفعل.

وضمن هذين المنطلقين تبرز أهمية المعطى التربوي التاريخي الذي يمنحنا بعضا من المؤشرات الرئيسية التي تشكل فكرة واضحة غير مشوشة عن مشكلات وإشكاليات وقضايا تعليمنا الحالي، وتبسط فهم نسقها واشتغاله تحت طائلة الخطية الزمنية لسيرورة الفعل التربوي والتعليمي والتكويني ولولبية تراكمه فضلا عما يحدثه هذا الفعل من تفاعل فكري يساهم في بسط قضاياه على مائدة التشريح والنقد ومن قَبل القراءة. وفي تقليص الفجوة بين الكائن التربوي والممكن التربوي بزيادة فعل التجديد والإبداع والابتكار في المنظومة، وخلق أسس المواجهة لكل الإشكاليات والمشاكل والقضايا لتقدير المنظومة على منافسة المنظومات الأخرى من جهة أولى، وعلى تكوين خريج مؤهل فكريا وعلميا وأدائيا وقيميا لخوض معركة بناء المجتمع ومستقبله وحضارته، والعمل على تقدمه ورفاهيته. فالتربية والتكوين والمعرفة قوة تمنح المجتمعات الريادة والسلطة والثروة. والمجتمع الغني غني بموارده البشرية العالمة والعارفة والواعية والمبدعة والصبورة على العمل ولو كان شاقا ومؤلما. فليس هناك تقدم ورفاهية دون ضريبة يدفعها الفرد والمجتمع معا. وإلا فالفشل والتخلف والتأخر حليف كل مجتمع موارده البشرية غير صبورة وغير كادة ومجدة وغير مؤهلة وغير متعلمة وغير واعية ومعطلة وعاطلة ... تغيب العقل والفكر عن المشهد المجتمعي، ولا تستحضر أن التطور العلمي والتقني والرقمي، والتراكم المعرفي والمعلوماتي والخبراتي، في مختلف حقول المعرفة النظرية والتطبيقية والإجرائية، هو أهم سمة المرحلة التاريخية الراهنة من تاريخ تطور المجتمعات الإنسانية يجب الانغماس فيها بجدية ومسؤولية حتى ترتفع كل الأمراض النفسية والاجتماعية والتربوية والثقافية والاقتصادية والسياسية والفكرية عن المجتمع الجاهل الفاشل.

وطرحا لهذه الممارسة التربوية التي دامت تقريبا لأربعة عقود، على بساط النقد في منحى نقد الذات المهنية التي حملتها بصيغتي المفرد والجمع، ومنحى الذات المهنية الجماعية الرسمية أو قل الذات المؤسساتية التي كونت، وأهلت، وهندست، وخططت، ووظفت، ووجهت إلى التنفيذ، وقومت، وقررت ما يمكن إجراؤه من مشاريع للإصلاح وغير ذلك. وبالتالي ستتطرق هذه المساحة الورقية لهذين المنحيين بما سجلته الذاكرة المتعبة بألم التربية.

1 ـ  في منحى نقد الذات المهنية بصيغتي المفرد والجمع:

1.1.   منحى نقد الذات المهنية بصيغة المفرد:

1.1.1. في التكوين الأساس والمصاحبة الميدانية:

بعد تكوين مهني أساسي بمركز تكوين المعلمين، هو في جانبه النظري أقرب إلى التعليم والتدريس منه إلى التكوين؛ يعمق نظريا الحقول المعرفية المدرَّسة في التعليم الابتدائي، ويمد المكوَّن بمداخل أساسية لعلم النفس التربوي والديداكتيك العام والخاص، ويمرسه على تدريس المنهاج، وعلى تطبيق مختلف منهجيات المواد الدراسية وفق المقررات الرسمية، وعلى توظيف المعينات البيداغوجية، وعلى إعداد الخطط والوثائق التربوية المتنوعة تحت إشراف أساتذة المركز ومعلمين مطبقين، لهم خبرة وتجربة وممارسة تعليمية متحكمة في أدواتها وتقنياتها وخططها وأهدافها، ومتمكنة من الديداكتيك العام والخاص. تشكل موجها ومدربا للطالب المعلم يمكنه الاقتداء بها والاسترشاد بمقترحاتها وتوجيهاتها ونصائحها.

وللتاريخ اعترافا بالكفاءة المهنية؛ هناك في المدرسة الابتدائية التطبيقية ممارسات تعليمية متميزة التكوين والأداء. لها أساليبها الخاصة التي ساهمت بدرجة كبيرة في دعم المنهاج الدراسي نقدا وتصحيحا وإجراء مع تحقيق النتائج المهمة فضلا عن الأهداف المرسومة للمنظومة التربوية والتعليمية وقتئذ. ولولا تلك الممارسات التربوية الكفوءة المتمتعة بمؤهلات مهنية عالية، ومقتدرة في أداء رسالتها ضمن إطار من القيم النبيلة وأخلاقيات المهنة، لما تحققت أهداف المنهاج الدراسي ولا أهداف التكوين الأساس. وهي ممارسات المهنية تربوية يجب أن تجد امتدادا لها على الخط الزمني التربوي للمنظومة التربوية والتكوينية بتدوينها ونشرها على أجيال هيئة التدريس.

فمن خلال هؤلاء الأشراف وجهودهم تمت مهننتنا على التربية والتعليم لنتخرج معلمين بالمدرسة الابتدائية المنتشرة على جغرافية الوطن بكل أطلسيتها المتنوعة. والتي عرت بعض نقائص التكوين الأساس، وأظهرت بعض التحديات والإكراهات، التي عمقت مأزومية التعاطي مع واقع المتخرج الجديد؛ حيث توجد في المنظومة التربوية والتكوينية بعض الظواهر الاجتماعية والثقافية واللغوية والأدواتية ... لا يتعرف عليها الطالب المعلم ـ الطالب الأستاذ حاليا ـ ولا يعيها بمدخل الدراسة والمعرفة والعلم، ولا يتدرب على مقاربتها وتحليلها وإيجاد الحلول لمشاكلها وإشكالياتها وقضاياها المختلفة، مثل: التكيف مع الوسط القروي بالنسبة لهيئة التدريس التي لم تعش في العالم القروي، التكيف مع الجغرافيا النائية بمختلف طقسها وفصولها ومناخها، الاندماج في المجتمع الخارجي للمؤسسة التعليمية ضمن خصوصياته الاجتماعية والعقائدية والثقافية والاقتصادية واللغوية، اكتساب مهارة التواصل مع الآخر، وقبوله واحترامه، والانسجام معه من خلال المشترك معه، والاعتراف بالاختلاف مع الآخر وبالتنوع والعمل على استيعاب ذلك وتفهمه، الأقسام المشتركة/متعددة المستويات، تدريس اللغة العربية للمجتمع الأمازيغي والتواصل مع جماعة القسم، ابتكار وإبداع المعينات البيداغوجية حسب الكائن والمتاح والممكن ...

هذه القضايا؛ أغلب خريجي مراكز تكوين المعلمين يومها لم يستطيعوا مقاربتها ذاتيا بناء على تكوينهم الأساس داخل سنتهم الأولى من حياتهم المهنية، بل اعتمدوا في مقاربتها على نظرائهم القدامى من معلمين ومعلمات ـ جزاهم الله خيرا على مساعدتهم ومصاحبتهم للجدد من هيئة التدريس ـ ولم يتكيفوا مع واقعهم الجديد إلا بعد مرور سنوات عدة، أكسبتهم الخبرة والمهارات والقدرات المطلوبة للعيش ضمن معطى المنظومة التربوية والتكوينية المعيش. وبدأت تتجلى معالم الطريق المهني لأغلب الخرجين الجدد، وأصبحوا بدورهم في عداد القدامى ذوي الممارسات والتجارب المتميزة التي تساهم بقسط كبير في توفير الأرضية الممهدة للخريجين الجدد من أساتذة التعليم الابتدائي من البداية استثمارا للوقت والجهد والموارد في إنجاح الفعل التعليمي من بدايته. ولا تترك للصدفة وللتجربة بمنطلق المحاولة الواقعة بين حدي النجاح والفشل أن تستهلك جهود وزمن وطاقة الأستاذ المبتدئ والمتعلمين كذلك. فالاستفادة من تجارب وخبرات وممارسات قدامى الأساتذة والأستاذات ضرورة مهنية لربح الوقت والجهد والموارد، وتحقيق النتائج المرجوة بأقل تكلفة وجهد. وهو مطلب مشروع للمنظومة التربوية والتكوينية في ترصيد خبرة وتجربة وممارسة أطرها التربوية والتكوينية لتشكيل تراث تربوي ومهني مرجعي.

هذه المصاحبة غير المهيكلة والمقننة التي قدمها وقتئذ القدامى للجدد مجانا وحبا في المهنة وفي الوطن وأجياله المستقبلية؛ ذكرتني اليوم بالمصاحبة المقننة تشريعيا ورسميا، التي اعتمدتها الجهة المسؤولة يوم وظفت هيئة التدريس توظيفا مباشرا، فرغم أهميتها في تأهيل المدرس مهنيا، فهي تظل قاصرة في غياب التكوين الأساس لأن التأطير النظري والتطبيقي والمهننة تكسب الطالب الأستاذ الأسس العلمية والمعرفية والنظريات المؤطرة لكل تفاصيل أدائه التعليمي في حدها الأدنى، كما تكسبه الوعي بدرجته الأولى بالمهنة وبماهيته ودوره في أنسنة الإنسان وبناء الحضارة والتنمية البشرية وما ينتج عنها من تنميات متعددة ومتنوعة إزاء إغناء الحقول المعرفية المدرسة بالجديد من المعارف والمعلومات والأدوات والآليات والمناهج والنظريات المنبثة من البحوث أو تلك التي تمتاح وجودها من التجربة والخبرة الميدانية. وأذكر هنا بأن معطيات البارحة ليست هي معطيات اليوم، ولا يمكن القياس الثانية على الأولى لوجود فوارق جوهرية بين الجيل القديم والجيل الجديد من هيئة التدريس، خاصة إذا كنا نتحدث عن فارق زمني تعدى الأربعين سنة حسب تجربتي المتواضعة، بما حوى من سياسات وإيديولوجيات وقيم وثقافات واقتصاديات واجتماعيات وكائنات وأدوات وتمفصلات وتفاصيل ورؤى وقناعات وقرارات. لكن يبقى للمصاحبة أهميتها في تأطير الفعل المهني المبتدئ إن توفرت فيها شروطها ومطالبها من كفاءة علمية ومهارة تأطير، وقدرة فعل ناجع وناجح، ووعي بالمشاكل، وذكاء وجرأة وإبداع، واستقلالية فضلا عن تحفيز معنوي ومالي ومادي لها، والاعتراف بها من قبل جميع أطر المؤسسة التربوية والتكوينية وما ينتج عنها من مهننة ...

2.1.1. في التعيين والممارسة الميدانية:

هذا المعطى المهني والواقعي تتخلله عدة أبعاد مهنية، وأكاديمية، وثقافية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، ونفسية تمتد إلى عمق المجتمع ومكوناته الاثنية، وطبقاته الاجتماعية، ونخبه السياسية والاقتصادية والثقافية، وأطلسية جغرافيته، وما تحمل هذه الأبعاد من تفاوتات واختلافات مشمولة بستار التدافع الاجتماعي، الغطاء الذي يوظفه البعض في تبرير أية فوارق تقع بين مكونات المجتمع. ويجد له في كثير من الأحيان الدعم العقائدي/الديني التفسيري من المرجعية الدينية بما يتوافق مع أهداف التوظيف أو قل بما يخدمه استجلابا لمصالح فردية أو طبقية في منأى عن البعد الجماعي والوطني للمجتمع؛ وهو ما يعمق الشروخ والشقوق بين طبقات المجتمع ويكرس في بعض الحقب الزمنية القطيعة بينها. ونظرا لتشعب وتعقد هذا المشهد سوف أركز على بعض لقطاته المؤثرة من قبيل:

ـ في التعيين لم تكن الجهة الرسمية المكلف بالتربية والتكوين تعير أي اهتمام لمطلب المتخرج مهما كان وضعه في مركز التكوين؛ أكان من المجتهدين المجدين الحاصلين على لوحة الشرف أم كان من المتأخرين النائمين، فالكل عندها سواسية! فقد تعينك في " نيابة " مديرية غير تلك التي طلبتها وتمنيتها، وهذه الأخيرة قد تقرك في منصب تربوي ناء في أقصى براري وجبال وصحاري البلاد. وترمي بك إلى جغرافية لا تعرف عن أهلها وعنها شيئا، ودون أن تدردش معك حول معطيات المنطقة وأهلها اللغوية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية بما فيها قواعد التواصل والاندماج في وسطها الاجتماعي والمجتمعي. فأنت غريب؛ قد ترتكب سوء تواصل مع أحد أفراد القبيلة بدون قصد، وتحسب أنك فعلت خيرا، بينما القبيلة ترى فيك منتهكا لقيمها وعاداتها وتقاليدها. فهناك في الفيافي والقفار من تظل عنده غريبا عنه مهما طال الزمن بك معه، ومهما تعرفت إليه وتعرف إليك. فأنت دخيل على القبيلة، اللهم إذا صاهرتهم وطلبت نسبهم، فحينئذ قد تصبح " فردا " مقبولا لديهم. في المقابل هناك الكثير من القبائل التي تحتفي بالمتعين الجديد وتعتبره فردا منها، وتتواصل معه من باب الإنسانية والأخوة في الدين والوطن، وتجد كل المساعدة منها ـ جزاهم الله عنا خيرا، حيث لن ننسى أفضالهم عنا وجميلهم لنا ـ وما بين هذا الوضع وذاك؛ هناك العديد من الوضعيات والحالات التي تشكل المنطقة الرمادية في التواصل مع المجتمع الحاضن للمؤسسة التعليمية أو لنقل المجتمع المدرسي الذي يرتبط بالمدرسة ومكوناتها بعلاقة التمدرس رغم أن هذه العلاقة هي جزء من العلاقة الواسعة التي هي العلاقة الاجتماعية التي تفتح المدرسة على محيطها مقابل فتح الوسط المجتمعي على المدرسة.

فالتعيين في وسط جغرافي ومجتمعي واجتماعي معين يتطلب معرفة به أولا ثم خبرات ومهارات في التواصل والتعامل معه والاشتغال فيه. وهذا ما يفتقده غالبية خريجي المراكز وقتئذ، ما يسبب مشاكل مع سكان القبيلة كتحرر أبناء المدن عن أبناء القرى، الذين تطبعهم المحافظة بطابعها الخاص. فما يقبله ابن المدينة والحضر من سلوك قد لا يقبله ابن البادية ويعتبره مجاف للقيم والأخلاق والتقاليد والأعراف. فتثار المشاكل بينهما جراء الاختلاف في الرؤى والسلوك والأفعال والقيم. فكم من شكوى نتجت عن لباس رآه المتعين الجديد عاديا، في حين رآه ابن المجتمع المحلي للمدرسة غير لائق وغير محتشم ويخرج عن اللباقة الإنسانية، وجب شجبه واستنكاره حتى لا يتكرر. وكم من انتقاد حاد وجه إلى متعين جديد ذهب إلى دكان بوسط القرية " الدوار " لاقتناء المؤن باعتباره خرقا لحرمة القبيلة أو ذهب إلى السقاية أو العين أو البئر لجلب الماء يعده اطلاعا على حرمات الساكنة أو استجدى خبزا أو ماء أو حطبا ينظر إليه إكراها غير صريح يخرج عن واجب المتعلم والأسرة والمجتمع المحلي ... فالمعرفة المسبقة بمعطى القبيلة والدوار مهم جدا في تلافي المشاكل، كما أن المهارات والخبرات الاجتماعية تساهم بقسط وافر في إكساب المتعين الجديد لباقة التواصل وهدوء الشخصية ورحابة التفهم المحتضن للجميع ...

ـ بعض مصاعب الأداء التعليمي تظهر أثناء الممارسة الصفية من حيث تواجه الممارس البيداغوجي ظواهر لم يعتدها في تدريباته الميدانية كالأقسام المشترك أو متعددة المستويات، حيث يدرس مستويين أو أكثر في نفس الحجرة الدراسية وبمنهاجين " برنامجين " مختلفين. يتطلب منه ذلك تمرسا على تدريس القسم المشترك من حيث كيفية الاشتغال مع المستويين في نفس الوقت وتحقيق الأهداف التعليمية، وتجاوز التحديات التي يطرحها هذا النوع من الأقسام. كما أنه يواجه حقولا معرفية غير مختص فيها، وما تلقاه منها سوى إطلالة بسيطة ومعالم أولية منها، كالتربية التشكيلية والتربية البدنية والمواد العلمية بالنسبة للمختص في اللغة العربية " أدبي " أو المواد الأدبية للمختص في المواد العلمية وهكذا ... كما أنه يواجه بعض القضايا والإشكالات المعرفية داخل المادة الدراسية ذاتها التي تنتج عن خلل النقل الديداكتيكي للمادة العالمة إلى المادة المدرسية دون كفايته في مقاربتها لفقده مهارة البحث العلمي والتدخلي أو الإجرائي، وانعدام المساعدة المؤسساتية في ذلك. فيظل يواجه ذلك لوحده وتظل معاناته قائمة حتى يهتدي بحكم التجربة الميدانية والممارسة اليومية من حلها أو تبقى دون حل تسبب العاهات المعرفية والأدائية لدى المتعلم وتعوق الممارسة الصفية نحو تجويد النتائج.

في ظل هذه المصاعب تنبعث مشاكل تزيد المشهد التعليمي تأزما كقلة الأدوات المدرسية أو غيابها عند بعض التلاميذ، وغياب بعض التجهيزات والمعينات البيداغوجية عند المؤسسة التعليمية، ما يتطلب من المتعين الجديد التدخل بشراء بعضها للتلاميذ أو تقاسمها فيما بينهم أو تعويضها بما قدم منها. وإبداع الغائب من التجهيزات تحت ضغط غياب المواد الأولية المناسبة خاصة في الوسط القروي. فيقف المسكين في حالات كثيرة متحسرا حيث لم يحصل واجباته الشهرية بعد من جهة التوظيف ومازال ينتظر تسوية وضعيته المالية! وقد غرقت ذمته في الديون وكثر مطالبوه بالسداد، وما له حيلة سوى طلب التأجيل حتى تسوى وضعيته الإدارية والمالية على دريهمات ليست في مقابل خدمته تماثلا، وإنما في حقيقتها دون المطلوب مقارنة بدول متقدمة في العلم والمعرفة تقدر أهلهما وتعرف قيمة هيئة التدريس في تنمية المجتمع على مختلف الأصعدة. لكن في ظل فراغات فكرية وقيمية وسياسية يكون العلم والمعرفة وأهلهما آخر المفكر فيهما لثانوية دورهما أمام أدوار أخرى لها أولية عند هذه الفراغات والفقاعات الوجودية التي تساهم بقسط وافر في تخلف البلاد والعباد، وتبذر الأموال العامة في مجالات لا تعود على المجتمع إلا بالتخلف والتأخر الحضاري والإنساني. وإن نطقت وتكلمت سفهت النوايا الحسنة وذوي المروءة والنقاد، ولفقت لهم القضايا والتهم الجاهزة، وزجت بهم في السجون تكميما لأفواههم وقتلا لكلماتهم الحرة الحقة، ولا ضير أن يدفع هؤلاء الشرفاء ثمن كلمتهم الحرة الحقة سجا أو دما أو حياة أو مالا على أقل تقدير. فما الحياة سوى سويعات تنقضي بمرور الأيام تستحق التضحية من الإنسان الإنسان لكي يعيشها حرا مستقلا في تقدم ورفاهية وعز وكرامة.

يجود بالنفس، إذ ضن البخيل بها ** والجود بالنفس أقصى غاية الجود

(مسلم بن الوليد)

تحت سقف هذه المصاعب تولد معرفة التجربة مع مرور السنين عند المتعين الجديد بعد أن تكون المناهج الدراسية ومنهجيات تدريس موادها أحدثت ما أحدثت من نتائج هشة عند المتعلم أولا ثم عند الأستاذ/ة ثانيا وعند الأسر والنظام التعليمي ثالثا. الأمر الذي يفاقم أزمة المنظومة التربوية والتكوينية في ذاتها وأدائها ونتائجها. حيث نظن في أحيان كثيرة أننا نسير على النهج الصحيح في التربية والتعليم والتكوين، وفي الإصلاح وبناء الأجيال؛ وبعد حين نكتشف أننا ما زلنا لم نبرح العتبة الأولى من الأزمة إن لم نكن رجعنا بعدها عتبات. فنرفع الصوت مطالبة بالإصلاح من جديد، وهكذا نقف في مركز دائرة الأزمة تدور حولنا وندور نحن نحو أنفسنا بدرجة ثلاثمائة وستين! فالتربية والتعليم والتكوين ليست حشوا لعقول الناشئة بمعلومات ومعارف ومتن تعليمي فحسب وإنما هي بناء وصناعة العقول عبر تمكينه من أنماط التفكير المختلفة وكفاياتها ومهاراتها وتأهيلها عمليا للتفكير في كل ما يعرض عليها ويعترضها من موضوعات ذاتية أو خارجية؛ حيث يستخدم العقل طاقاته الفكرية والإبداعية في تدبير موضوعاته. بينما الحشو يذهب مع السنين ولا ينفع في مقاربة الموضوعات، خاصة منها المشاكل العميقة والمستترة تحت السطح، التي تعترض الفعل التعليمي كالقضايا الإبستيمية والديداكتيكية والمتنية1  الواقعة في الكتب المدرسية أو في النظريات والمداخل المنهجية أو المناهج فضلا عن المشاكل الواقعة في السياسة التعليمية والتوجيهات والإرشادات الرسمية مع مشاكل تطرحها بعض الفتاوي التربوية غير المختصة. وقطاع التربية والتكوين حافل جدا بمثل هذه المشاكل التي تعاني منها هيئة التدريس والتدبير الإداري والإشراف التربوي. فسيطرة الفكر الإداري على الفكر التربوي بحكم موقعه التدبيري المركزي الذي أسند إليه كل شيء، والذي يتحكم في الفعل التعليمي التعلمي بكل حيثياته العامة والتفصيلية، هو المقرر والموجه رسميا للتربوي ولو كانت قراراته خاطئة، ومهما كانت أطروحات التربوي صحيحة مبررة بالدليل العلمي وبالتجربة العملية. فهو يدبر الشأن التربوي وفق معطياته الخاصة به؛ فمثلا: إن كان للفكر الإداري ـ بمعنى الإدارة التربوية ـ خصاصا ونقصا في الموارد البشرية، فهو سيحل مشكله على حساب التربوي كأن يرفع عدد المتعلمين بالحجرة الدراسية رغما على النظريات التربوية الداعية إلى تخفيض عدد المتعلمين بالقسم لأجل تعلم مناسب أو يلجأ إلى القسم المشترك للحصول على فيض من المدرسين. وهكذا يفعل في مقاربة المشاكل التربوية حسب مخزونه البشري والمادي والمالي دون اعتبار لمتطلبات وشروط الفعل التربوي. فنجد في هذه الحالات المتعين الجديد عاجزا أمام الرسميات في معالجتها، ويتحمل مسؤولية نتائجها في نفس الوقت ولو لم يكن له دخل فيها. فالمجتمع لا يعرف كيف تدار شؤون المنظومة التربوية والتكوينية، وإنما يعرف بأنه ألحق أبناءه بالمدرسة تحت مسؤولية المدرس، فإن نجحوا فمن المدرس وإن فشلوا فمنه. ولا يعرفون لا مناهج ولا سياسات تعليمية ولا برامج ولا فلسفة تربوية ولا جهة القرار ولا ... المهم المدرس هو المسؤول عن كل شيء! فالنجاح والفشل متعلقان به وحده في غالب الأوقات. ومن ثمة يصب رضاه أو سخطه عليه حسب الحصيلة التعليمية. كل هذه المتاعب والمصائب يواجهها المدرس المبتدئ في بداية مشواره المهني دون أن يمتلك الكفاية اللازمة لمواجهتها والتصدي لها.

وأخطر المصاعب التي يواجهها المدرس المبتدئ هي تلك المدفونة بين ثنايا حيثيات الفعل التعليمي التي لا يفطن بها، فتعوق الأداء التعليمي دون أن نقف على أسبابها الحقيقية ومعالجتها فيظل المعوق قائما دون حل. ومن هنا وجب إعادة النظر والتفكير في التكوين الأساس لهيئة التدريس وفق المستجدات العلمية الحاصلة في الحياة وكذا التغيرات والتطورات الواقعة في المجتمع، ومجمل التطورات العلمية التي استجدت على الحقول المعرفية والمهنية في عصر المعرفة.  فلم يعد مقبولا بالمطلق تكوين هيئة التدريس بما كونت به الأجيال السابقة من معارف وتقنيات ومناهج، يطبعها البعد النظري باختلاف تياراته ومدارسه في نفس اللحظة التعليمية، وتحكمها تطبيقات وتدريبات تقنية وفنية محضة تساهم في إنشاء حرفي لا مدرس.

(يتبع)

 

عبد العزيز قريش

......................

1- انظر على سبيل المثال: عبد العزيز قريش، القضايا المعرفية والإشكالات الديداكتيكية في المتن التعليمي بين المتعلم ووعي المدرس " نماذج من المدرسة الابتدائية للدرس وللوعي "، عالم التربية، منشورات عالم التربية، الجديدة، المغرب، 2014، عدد 25، صص.: 259 ـ 314.

 

في المثقف اليوم