قضايا

سناء ابو شرار: حين تغير القراءة الأقدار

(اقرأ باسم ربك الذي خلق)

بدأت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، وبها تغير قدر أمة العرب، وبها أصبح للمسلمين حضارة وشأن، وحين تخلو عنها أصبحت حضارتهم من التاريخ وشأنهم هين على أقل الشعوب شأناً وأخلاقاً.

اقرأ تغير القدر للفرد والأمة، فماذا تكون الحياة دون قراءة وماذا تكون مع القراءة؟

من أسوء الأفكار وأشدها فتكاً بالأمم الاعتقاد بأن القراءة نوع من الكماليات يمكن الاستغناء عنه، وأنه يمكن الحياة بسهولة ويسر بدونها، ويتم تداول هذه القناعة حتى في أرقى المدارس، فلا يوجد أي حرص على تنشأة جيل مثقف ومطلع، بل يكاد يكون عدد الكتب التي يقرأها أولادنا أو حتى المتقدمين في السن منا لا يتجاوز عدد كتب المنهج الدراسي، ثم يتحول الكتاب إلى شيء مقيت والأسوء إلى شيء لا وجود له أصلاً ويمكن الحياة بدونه بسهولة ويُسر.

في هذا المقال لا أروج للقراءة ولكنني أستعرض بعض نتائج القراءة ونتائج انعدام القراءة:

القراءة تجعل الفرد يحل مشاكله بسهولة ويُسر أكبر، تجعله يرى الحياة من عدة نواحي ولا يقتصر بصرة وبصيرته على أربعة جدران يضيق بها منطقه بل وحتى أخلاقه.

القراءة تمنح المرأة القدرة على إدارة بيتها بحكمة أكبر وبحلم وروية، وتجعل لها عالمها  الخاص بها منفصلاً عن الزوج والأولاد وهو ما يتيح للزوج مقدار رائع من الحرية النفسية والفكرية ويمنح الأولاد الفضاء الأوسع للإبداع لأن والدتهم لا تحاصرهم برغباتها أو بمخاوفها.

القراءة تحل مشاكل نفسية عديدة وقد تكون مستعصية فيكفي أن نعلم بأنه تم إجراء دراسات حول أطفال أيتام ومشردين أنقذتهم القراءة من الضياع في الحياة واستطاعوا بفضل القراءة أن يجدوا مستقبل وأمل، لأن القراءة تقول لكل انسان، هناك أمل، وهناك هدف ويمكن للجميع أن يركبوا في حافلة الحياة التي تسير للأمام، فحين يقرأ اليتيم أو الفقير أو المُهمش عن من هم مثله ويرى النموذج أمامه ولو بين السطور فذلك يمنحه الخيال الذي لم يمنحه إياه البشر حوله، الكتاب يرسم له طريق لمستقبل بينما من حوله يُغلقون طرق المستقبل أمامه، فيصبح الكتاب أهله الذين فقدهم، أو أهله الذين لم يتخلوا عنه، ويكون الكتاب أكثر دفئاً وقبولاً لهذا الذي نبذته الحياة.

القراءة تغير أدمغة أطفالنا، تزيد من تواصل الخلايا العصبية بعضها ببعض، وبعد سنوات قليلة يصبح هذا التواصل أقل وأصعب دون قراءة، فمن قرأ وهو صغير دماغه يختلف تماما عن من لم يقرأ، ونظرته لأمور مختلفة تماماً.

القراءة تزيد من رقة الشعور لأنها تتحدث عن الحياة، عن الألم، عن المعاناة، وعن السعادة والأمل، إنها حياة نابضة تتدفق دون توقف بين السطور. لذلك نجد أن الأدباء والمثقفين هم الأكثر احساساً بمعاناة الآخرين، والأرق لفظاً والأشد أدباً وإن لم يكونوا كذلك فهم أدباء مزيفين، ومثقفي القشور لا المضمون.

القراءة تُضيء الدماغ، فالصور المقطعية للدماغ وجدت أن القراءة تثير الخلايا العصبية وتنشطها إلى درجة أنه يصبح لها نوراً وهو ما كانوا يقولونه لنا في المدرسة أن العلم نور والجهل ظلام، فدماغ من لا يقرأ وبكل أسف هو دماغ مظلم، وهو دماغ يجتر أفكاره دون أن يُضيف إليها شيء جديد.

القراءة تجعل الصحة أفضل وتجعل الجسم أقوى، لأن كل خلايا الجسد تتفاعل مع ما نقرأ، فهي تشارك في عملية داخلية تُخرج الجسد من الروتين اليومي، وتجعله يعيش عوالم أخرى يتجول بها بكل طلاقة وحرية.

أما انعدام القراءة، فهو التخبط في المشاكل لدرجة الغرق، لذلك نجد أن مجتمعاتنا العربية ومنذ بدأ انحطاط الثقافة والاطلاع بها في دوامات من المشاكل، ولا توجد قدرة على حلها لفقدان الخيال والابداع اللذان تحفزهما القراءة؛ ومنذ عدة عقود نعيش تراكم المشاكل وتعقدها لأنه لم يتم حلها بشكل جذري، وتكاد حياتنا أن تكون على هامش حياة الشعوب.

انعدام القراءة هو تعاسة داخلية دفينة، لأنه حين يغرق الانسان بأفكاره الخاصة وبواقعه الشخصي وبمشاكله اليومية دون نافذة من الضوء تأتيه من مكانٍ آخر، يشعر بتعاسة دفينة ولا يدري ما سببها، فنحن جميعاً لدينا مشاكلنا ولكن كيف نعالجها، هل نعالجها بالحقد واللجوء للمحاكم، أم بالقتل وبالغضب المُدمر؟ انعدام القراءة لا يعطي تلك المساحة الإضافية للدماغ كي يعمل بشكل أوسع، يضيق الدماغ بتلك الأحداث المتكررة وبتلك الكلمات السلبية وبواقع كل المشاكل فيتوقف عن الإنتاج الحقيقي، يترك العنان لمشاعر الغضب والضغينة، فالدماغ هو الأمير وانعدام القراءة يُفقد هذا الأمير مكانته النبيلة وننحدر به إلى مستويات الشعور المتدنية، وفي النهاية يُضرب عن العمل ويسلم كل مقاليد السلطة لمشاعر عدوانية سوداوية بدائية.

انعدام القراءة هي شح الحب للحياة، لأن القراءة تكشف لنا عن أنواع جديدة من الجمال في الكون، فالجمال في الكون ليس فقط الشجر والأرض والسماء، الجمال في الكون هو أيضاً الفكرة والكلمة والشعور، ألا نرى ونشعر عظمة الجمال الإلهي ورقيه وبهاءه ونوره في سطور القرءان الكريم.

القراءة هي ألا تكون وحيداً حين يغادر من حولك، وأن تشتاق لخلوتك مع نفسك حين تكون مع الآخرين. إنها حديثك الذي لا ينتهي مع الذات ومع الكون، حديث صامت دافئ تجد من خلاله حكمة الحياة وتصبح أكثر قرباً من مشاعرك وتفهم ما بداخلك وما يدور بأعماق من حولك؛ إنها باختصار أن تكون أكثر إنسانية، أكثر حلماً، أكثر فهماً وأكثر تديناً لأن أول آية من آيات الله تعالى هي (اقرأ). فحين يأمرنا الله تعالى بالقراءة، فهل يحق لنا بهذا أن نجعلها شيء كمالي يمكن الاستغناء عنه!

وأخيراً، القراءة ليست شيء كمالي في الحياة، إنها مساوية لأهمية الغذاء، ولكن وللأسف أنه حين تجوع المعدة نشعر بألم الجوع، ولكن حين يجوع العقل لا نشعر بألمه وجوعه هو حرمانه من القراءة ومن العلم، فهو يتألم بصمت ولا يصرخ متضوراً من الجوع كالمعدة، ولكن ألمه الصامت يسبب تعاسة الأفراد ويدمر كيانات الأمم ويشوه حضاراتها ويقزم أحلامها.

 

د. سناء ابو شرار

 

 

في المثقف اليوم