قضايا

الطيب النقر: الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا والتكامل المعرفي.. رؤى ومقترحات

الطيب النقريهدف هذا التصور لوضع الأطر والثوابت التي تمضي على هديها مسيرة هذه الجامعة بتصعيد وتيرة العمل حتى تواكب النهوض الذي أضحى سمة هذا العصر، وجامعتنا التي اتخذت من الدين أساساً لتخوض به حروبها ضد الرجعية والتخلف، تؤمن بأن ضرورة التطوير تستدعي إعادة النظر في مناهجها التربوية، وبرامجها التعليمية، ونشاطاتها الثقافية، وأطروحاتها الفكرية، لأجل هذا نجدها تستمد مشورتها من طلابها الذين تتفاوت مشاركاتهم بين القصد والإسراف باختلاف أمزجتهم، وقد لا تأتي مشاركاتهم تلك بشيء جديد، ولكنها ترسخ الثقة في دواخلهم، وتهيئهم لقضايا التحول والتغيير والتجديد والتحديث، وتعدهم لحياة طابعها النقد والتقويم.

مما لا يند عن ذهن أو يلتوي على خاطر، أن اتجاهات التحول تلك تتوافق مع هدي الدين الخاتم ولا تتقاطع معه في شيء، ولعل الشيء المحقق أن هذه الجامعة لم تمر بتلك الأزمات العنيفة التي قد مرت بها غيرها من الجامعات، التي اعتقدت جازمة أن تجازوها لعزلتها يكمن في أن تأخذ بحظها من جامعات الغرب التي حررت العقل من أساره، وأول خطوات هذا التحرر هو التجرد من أنماط لا تقرها هذه الجامعة، ولا نستطيع أن ندعي أن تلك الجامعات العربية والإسلامية اللاهثة وراء نهج الجامعات الغربية تستهدف إضعاف تلك المجتمعات، أو تسعى لتمزيق هويتها، ولكنها في حاجة ماسة لزيادة التآلف بينها وبين منظومة الدين، فكثير من الجامعات لا تكترث بمخالفته، وقريحة هذه الجامعة ومناهجها استطاعت أن تطور من وتيرتها بانتهاج ما يتوافق مع شمولية الدين دون أن تلغي تطور نظرتها للإسلام المنفتح على الحياة.

أ-  التزكية والسلوك:

الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا أخذت على عاتقها أن تأتي المناهج التي اختارتها لا لتنصر هذا المذهب أو ذاك، أو لتحقق هذا اللون من المعرفة أو غيره من ألوان المعرفة، ولكن ليأخذ طلابها بحظهم من القيم العليا لمنظومة المحجة البيضاء، فنصوصها التي نجد بالتماثل معها نصوصاً أخرى كثيرة من الأديان الأخرى أنشأت هديها الخاص على طاعة الله وعبادته، والتعمق في الفضيلة، وأن يبلو الناس-  كل الناس-  حقائقها ومزاياها، ولعل المناهج التي لا تتغير ولا تتبدل في الجامعة الإسلامية، هي المناهج التي تتخذ من الأخلاق أنموذجاً يعتمد تزكية النفس وتطهيرها من أوضار الانحراف، وهي في ذلك لا تعتمد فقط على الأوراق الصفراء التي تحتكم عليها غيرها من الجامعات الإسلامية، ولكنها تتوسع في معين قطافها، وسياستها في قطف هذه الثمار سياسة يشوبها الاستنفار والحذر، ولعل من الأمور التي شكلت لها قوة هائلة هي تحررها من التبعية التي قد تختزلها في مرحلة تاريخية دون أن تسمح لها بتخطيها، لقد نجت إذن الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا من أشكال الانغلاق والتقوقع، وتفاعلت مع حاضرها دون أن تتنازل عن مرجعية القيم والأخلاق التي أحيت وجددت من وهجها. ولكن لنا أن نسأل عن مدى التزام طلاب الجامعة الإسلامية العالمية من الجنسين بالممارسات التي تعكس التزامهم بتزكية نفوسهم؟ وما هي الخطط والمشاريع التي يمكن حشدها حتى تستمر هذه التزكية قائمة، فمن المؤكد أن أواصر هذه التزكية قد تتضمحل معانيها ومضامينها عند بعض الطلاب لظروف قد يطول شرحها، فبعض الطلاب قد لا يتماهوا مع المنظمة السائدة في الجامعة، فماهي طرق التصدي لهذه الظاهرة؟

إن مثل هذه الظاهرة قد تستدعي استطراداً من الباحث، ولكن المقام هنا مقام اختصار لا مقام إسهاب أقول إن من ضمن الأسباب التي من أجلها أنشئت هذه الجامعة هو تقويم النفس وتزكيتها وحثها لأن تتخلق بأخلاق الإسلام، وحتى يتحقق هذا الهدف نشير إلى الآتي:

1-  توثيق الوسائل التي يتخذها طلاب الجامعة في شتى مراحلهم لتوثيق الصلة بينهم وبين منظومة القيم، ومراقبة أفعالهم وتصرفاتهم لدراسة هل هي صادرة مباشرة من الشريعة؟، أم هي نابعة من هذا الغثاء الذي تعيشه المعمورة في مختلف أرجائها.

2-  التوقف عند الشعائر الدينية ومعرفة هل هي تتمتع باحترام الطلاب؟ وهل هم يتهافتون على تأديتها؟ وذلك يتأتى بمراقبة المساجد في الجامعة وفي ثكنات الطلاب.

3-  هل يطمح الطلاب إلى إقامة مجتمع إسلامي قوامه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟، أم أن غاية آمالهم مجتمع تركض فيه الدنايا ويتسابق إليه الخنا والفجور.

4-  الصرامة الأخلاقية هدف يجب أن تتبناه الجامعة الإسلامية أمام التفريط غير المقبول في المظهر والسلوك، فلا ضرورة من أن تعلي من صوت الحلم والتغاضي عن ظواهر تعمق التواصل مع إبداعات الغرب وصيحاته التي تظهر إلى أي درك انحسرت عنده الفضيلة.

5-  الاهتمام أكثر بخصائص النفس البشرية ومعرفة تفاوتها في الأخذ بالتكليف، لوضع العلاج الناجع الذي يذهب عنها هذا الوصب ويكفل لها ولغيرها من المهج المتغربة أن تعود بكامل قواها الروحية والنفسية والعقلية لمزاولة المهام التي لا تنفصل عنها، إذا كانت هذه الأنفس حقاً تبتغي خير الدنيا ونعيم الآخرة.

ب-  الجانب القيادي والمهني:

التواصل الشخصي والفكري الذي يتم في أروقة هذه الجامعة بين الطلاب وأساتذتهم، هو المحك الحقيقي الذي تختبر به هذه المؤسسة التعليمية الرائدة جدوى هذه الجسور التي تتشكل وتتخذ عدة صور وأشكال، فهي تحفز الطالب أن يبدد كل خوف ووجل من التحدث لأستاذه داخل قاعات الدرس أو خارجها، كما تساعده لأن يجابه تلعثمه وتردده في المناقشات الهادفة التي تقام من أجل ترسيخ العلوم التي يتلقاها في ذهنه، وتلعب الندوات والأنشطة الترفيهية التي تحرص عليها الجامعة في كل فصل من فصول الدراسة إطاراً تكاملياً يعزز من هذه الجوانب التي تصقل من شخصية الطالب، ويشحذ فيه هذا الدفق المتعدد وغيره من أيادِ أساتذته، الخبرات التي ينبغي توفرها في أي شخصية قيادية تنغمر فيما بعد في قضايا مجتمعاتها لتنظم صفوفه بكل حزم وإتقان، ولعل من أهم الخبرات التي يحصدها الطالب من هذا الصرح العظيم، هي اعتداده بنفسه وثقته في مقدراته، وقدرته على مواجهة المشاكل والصعاب بيقين ثابت، وإيمان لا يتزحزح، أيضا تنوع الأصول التي يمكن أن يأخذ الطالب من معينها، وذلك مرده الأطروحات العامة التي تلقاها في جامعته، والتي تؤهله لتشخيص جل المسائل التي تعترضه في دروب الحياة وتعرجاتها. وخلاصة القول إن هذه الجامعة تنمي من معايير السلوك القيادي بين أوساط طلابها، وترشده إلى كيفية أن يكون مؤثراً وفاعلاً على مرؤوسيه، فإفساح المجال للطالب أن يعبر عن دخيلة نفسه، واحترام أساتذته لرأيه ومقترحاته، ومناقشته بحرية علاما يعرض عليه في حجرات الدراسة، تحدد كل هذه المعايير القاعدة الشعبية التي سوف يحظى بها فيما بعد، والقوى السياسية التي سوف يمثلها بعد عدة سنوات من تخرجه.

ولكن كل هذه الإيجابيات لا تمنعنا من أن نبخل بعدة مقترحات تلهب من صور التراكم الإيجابي لخريج هذه الجامعة وتمنحه صفات تكرسه للقيادة المجتمعية. هذه المقترحات بعضها تشربها من جامعته على شاكلة:

1-  الالتزام بالوقت وعدم تبديده فيما لا يفيد.

2- احترام من يكبره في السن والمنزلة.

3- الإلمام بمهام وظيفته والتفاني في تأديتها.

4- التحلي بالأخلاق النبيلة وعدم الوقوع في براثن الكبرياء والغرور.

5- تقبل النقد البناء الخالي من التجريح وهوى النفوس.

6-  التراجع عن رأيه وقراراته إذا لاح له مجافاتها للصواب.

ومن مقترحاتنا التي تحيط بها الضعف والهشاشة:

1- على الجامعة أن تسعى لتوفير المناخ المؤات الذي يعضد من اكتساب المهارات القيادية، وذلك بإزالة الجفوة الغير متعمدة بين الطلاب الوافدين وطلاب هذا البلد الكريم، وذلك بتبني طرق لم تتبناها إدارة الجامعة من قبل، فالشيء الذي لاح لي أن مشكلة التنافر تكمن في اللغة، فالطالب الملايوي رغم تمكنه من ناصية اللغة الإنجليزية، إلاّ أنه قد يرى أن الحديث بغيرها في وطنه انتقاص منها، فلماذا لا تجعل الجامعة الطالب الوافد يحرص عليها أكثر مما يحرص على شيء آخر، كما أن حياء الطالب الماليزي يجعله ينحرف إلى الانزواء عن التأخي مع ضيوفه، كل هذا يجعل من التوسع في تدريس اللغة الملايوية ضرورة لابد منها، مع اعتماد عدة طرق حتى تكون جاذبة لهذه الفئات القادمة من بلدان وبيئات شتى، فهناك من هؤلاء الطلاب من يجلس عقد من الزمان في هذه الديار دون أن يلم بأبسط أبجديات هذه اللغة،كما لا يعرف بطبيعة الحال ثقافة هذه البلد معرفة كافية، ولا يدري من هم القروم الخناذيذ من علمائها وأدبائها وساستها.

2- على الجامعة أن تحتفي بالمبرزين من طلابها وذلك بإرسالهم إلى مجتمعات تختلف عن تلك المجتمعات التي نشأوا فيها، وذلك من أجل تنمية خصال المثابرة والتفوق في بيئتهم الجديدة، وبذل أقصى ما يمتلكونه من الجهد والتحصيل حتى يرفعوا من راية الجامعة التي ابتعثتهم.

ج-  التكامل المعرفي:

مفهوم التكامل المعرفي يشير إلى: "عملية تفعيل الرؤية الإسلامية في كل مجالات العلوم سواء كانت علوماً طبيعية أو اجتماعية أو إنسانية أو شرعية، فالمعرفة التي تجمع بين هداية الوحي والخبرة البشرية في عملية تفهم الحقائق التي تبحث فيها يمكن وصفها بالمعرفة المتكاملة، وتقتضي عملية تفعيل الرؤية الإسلامية رؤية منهجية تكيف في إطارها إجراءات التعرف على الحقائق العلمية المرتبطة بالظواهر التي يسعى الإنسان لدراستها وتفسيرها".[1]

وتعتبر هذه الجامعة التي اعتلى دفتها نحارير تاقوا إلى سموها وتفردها، وسعوا إلى تحقيق هذا السمو وذاك التفرد، مثل العالم الثبت بروفيسور عبد الحميد أبو سليمان عليه رحمة الله، بفضل جهود هذا النفر من العلماء أصبحت الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا من أوائل الجامعات التي سعت لتطبيق التكامل المعرفي بين كلياتها، فقد اعتمدت هذه الجامعة العريقة سياسة " المزاوجة بين معارف الوحي والتراث والعلوم الإنسانية، أو ما عُرِف داخل الإطار الفكري والعملي للجامعة باسم التخصص المزدوج، إذ كانت السياسات التعليمية التي تبنتها كلية معارف الوحي الإسلامي والعلوم الإنسانية تقوم على أساس نظام التخصص المزدوج، فإذا كان التخصص الرئيس لأي طالب هو معارف الوحي والتراث، فإن عليه أن يختار تخصصاً فرعياً في أحد العلوم الإنسانية، أما إذا كان تخصصه الرئيس في أحد هذه العلوم، فإن تخصصه الفرعي يجب أن يكون معارف الوحي والتراث".[2]

ولقد استفاد كاتب هذه السطور المتداعية من هذه السياسية الرشيدة، واستطاع أن يحتفظ بما يستطيع أن يحتفظ به من معرفة خصبة، وشهادات ما زال لا يرى شيئاً يضاهيها في الجمال المغري، والحسن الفتّان، ولا أدري هل هذه السياسة ما زالت مطبقة في جامعتنا التي تأخذ بمجمع القلوب، أم حادت عنها لزهد الطلاب في الهيام بدراسة تخصصين في مرحلة البكالوريوس، وفضلت عوضاً عنه دراسة الماجستير ثم الدكتوراه إن أسعفته الظروف لذلك، ونحن في شيء كثير من الإلحاح ندعو لتوسعة هذا التكامل ليشمل مجالات ترتبط ببعضها ارتباطاً وثيقاً، مثل الارتباط بين العلاقات الدولية وبعض التخصصات في كلية القانون مثل القانون الدستوري والقانون التجاري، وأيضاً بينها وبين الاقتصاد، إذن من الإستحالة أن يستلقي أمامنا التكامل المعرفي بلا حراك، بل سيظل سامقاً باذخاً، ويجب أن تعلي هذه الجامعة من سموه ونضاره. ومن أبهى الطرق التي تساهم في رفعة التكامل المعرفي:

1- السعي لتقنين التكامل المعرفي في كل الجامعات الإسلامية حتى تغدو ظاهرة الحرص عليه حادة عنيفة.

2- إجراء تحديثات عليه تتضمن تدبيجه بأحدث ما آلت إليه طرق التدريس التي تحقق غايته وجوهره.

3- إصدار العديد من المجلات العلمية المحكمة والكتب التي تعلي من كعبه، وتظهر الغاية منه.

4- تأسيس العديد من المعاهد العلمية التي تحمل رسالته في هذه الجامعة وغيرها من الجامعات التي تصطحب مستويات متقاربة من السلوك والتفكير.

5- تحفيز طلاب الدراسات العليا للكتابة حول موضوع التكامل المعرفي تستدعى هذه الأطروحات الجامعية التواصل الفكري بين العلوم المختلفة وبين العلماء في عهدنا هذا وبين العلماء السابقين ورصد روح التكامل المعرفي وعوائدها عند هؤلاء العلماء.

خاتمة:

لا أستطيع أن أزعم أن هذه المقترحات التي جادت بها قريحة لا حظّ لها من الغوص في أعماق المعاني والأفكار قد نهضت بكل ما تحتاج إليه، ولكنها ظفرت بما يظفر به أي طالب في هذه الجامعة وهي الجرأة في تضمين أفكاره ثم ينتظر أساتذته ليبصروا ما دونه صرير قلمه، ويستمعوا لترهاته ساخطين عليها، أو راضين عنها، ولكن يسر الباحث أن يعلن إلى الناس جميعاً وفي كل مكان عن تفرد هذه الجامعة وعن مكانتها فهي أجل خطراً، وأبعد أثراً في نظامها التعليمي على غيرها من الجامعات التي لا تقوم إلا بوظيفة واحدة، وهي تعليم من وفد إليها، أما هذه الجامعة  فهي دون شك تفرض على جميع طلابها نظاماً ليس من السليم أن يتجاوزوه، كما تمنحهم هبات عديدة من البناء والتطور. ولنا أن نذكر في شيء من الخجل أن هذه المقترحات المفرطة في الضعة والصغار تتطلب من بين العامين للثلاثة أعوام لتطبيقها حتى تؤتى أُكلها وثمارها.

نسأل الله العلي القدير أن يلهمنا جميعاً مراشد أمورنا، ويوفقنا لما يحب ويرضى، هو ولي ذلك والقادر عليه، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

 

د. الطيب عبد الرازق النقر عبد الكريم

كوالالمبور-  ماليزيا

 

 

في المثقف اليوم