قضايا

مهدي الصافي: الاسلام والحضارة المدنية الحديثة

يذكر اهل الشعر والفن او الادب عموما اعمالهم الابداعية على انها نتاج الالهام، ويهتم جميعهم بالترويج للفكرة او الغاية والهدف او القصد، وكذلك الكتاب والمثقفين اصحاب الفكر المتحرر من القيود العامة او الخاصة، فهي وان كانت الهام او هبة من الله سبحانه وتعالى، لابد تصب في مجرى خدمة البشرية دون تمييز او تفرقة، فما يطرح من ثقافة او تذكرة او اشارات استفهامية او نظريات علمية منطقية، تعد بمثابة خطابات تنورية او محاولات فردية لدعوة الناس الى المشاركة في البحث والتفكير او اشغال العقل بالمعرفة....

الاديان السماوية ليست فكرة ارضية معزولة عن حركة تطور الحضارات والاساطير القديمة، لانها جاءت بشكل واضح على يد الانبياء والرسل ع، ورافقت رسالاتهم وبعثتهم العديد من المعاجز، ومن اهمها الكتب السماوية المقدسة وقصص الاولين والاثار، ومايسجل من اعتراضات غير علمية حتى الان لايمكنها ان تنفي هذه الحقائق (الا اذا تحولت الى حقائق علمية مستقبلا، عندها يختلف الامر والاعتقاد)، الا ان الاسلام خاتم الاديان فتح للناس طريق اخر للتطور الحضاري، عندما اسس قاعدة الثوابت والمتغيرات في الاسلام، وحدد المحرمات وقيدها بقيود الاحداث والوقائع والاسباب، وجعل للجرائم والكبائر الموثقة بالادلة والشهود عقوبات بعضها ثابت واخر متغير (كجرائم القتل والزنى والسرقة والربا الخ.)، ولم يترك مجالا للاجتهاد والتأويل فيها (اي في الثوابت القطعية الدلالة كما يقول اهل الفقه)،

وكأن فهمنا المتواضع لارادة الله سبحانه وتعالى في هذه القواعد الالهية، انه يقول للناس ان الانطلاق نحو الحضارة الحديثة تبدأ بعد وفاة النبي محمد ص، ونهاية تبليغ الرسالة القرانية وانقطاع الوحي، ولكن الذي حصل ان المسلمين ارتدوا على اعقابهم، فظهرت التشريعات المخالفة لصريح القران الكريم (حروب ابو بكر بمايسمى مانعي الزكاة او حروب الردة، وتوريث الحكم في الاسلام، وتقديم طاعة الحاكم المسلم على حكم الله عبر التأويل، زيادة المحرمات والمكفرات الخ.)، وتوالت تلك الانحرافات بتشتت الامة الاسلامية وتفرقها الى مذاهب ومدارس وفرق، وهي ليست نعمة كما يدعي اصحاب المصالح الدنيوية من رجال الدين السابقين والحاليين، بل نقمة وبلاء تسبب بخروج وولادة الفرق الارهابية وظاهرة التدعيش، مما يؤكد على ان الماضي الاسلامي هو ماض سيء مليء بالنفاق والتخلف والتشرذم، وكل ماض لايمكن ان يكون افضل واكثر تطورا من الحضار الا في الدول والمجتمعات الفاشلة...

ان من سنن الكون وصيرورتها الالهية التكوينية التقدم الى الامام بالعلم والمعرفة والاخلاق، وهذه قطعا عقيدة من يؤمن بالله عزوجل وباليوم الاخر، ومن ان ارادته ومشيئته سبحانه وتعالى فوق ارادة البشر والملائكة والكون كله، اي لايمكن لمن جاء بعد النبي محمد ص، ان يأخذ مكان الانبياء والرسل ع، ليكون مبتدعا او مشرعا في الحلال والحرام، وكيلا عن الله عزوجل او ممن يمنح نفسه حق الانابة عنه، ويجلس على كرسي وصندوق الفتاوى الكيفية او الاعتبارية،

بينما يمكن للمؤمنين منهم ان يشتغلوا في المنطقة الوسطى (منطقة الاستحباب والمكروه والذنوب والاثام والشك والعقائد الخ.)، بعيدا عن العنف والتشدد والافتاء الملزم للناس،

فغياب تلك المساحة جعلت المؤسسات الدينية عموما تزحف باستمرار نحو تقييد الحريات، وجر المزيد من المسائل والقضايا المباحة الى ضفة المحرمات، فكلما تقدمت الحضارة الانسانية العلمية، ترى انهم يتقدمون ايضا في مجال زيادة حزمة المحرمات المستجدة، وكأن الحياة لا الوان فيها غير الابيض والاسود...

الخلل المتوارث في البلدان الاسلامية ان النخب الفكرية والمثقفة لم تشتغل في المساحة الوسطى، انما اعتمدت نفس الاسلوب الاقصائي او الاحادي في الطرح، اي اما الرفض الكامل او الالغاء التام لفكرة التعايش مع الواقع او التاريخ والموروث، قسم منهم كان يعتقد نسف جذور الاديان ورفضها واعتبارها مجرد اساطير الاولين، سوف تضع هذه الشعوب المسلمة على جادة الحضارة العلمانية الحديثة،

والقسم الاخر عمل في منطقة المحرمات لاضافة المزيد من المكاسب للحريات الاجتماعية العامة (كتحرير المرأة، وتخفيف بعض الفتاوى كما في فوائد البنوك، والزواج المدني، الخ.)، وقلة منهم من كان يعمل في المنطقة الوسطى، تلك المنطقة التي يمكن من خلالها ان يقدم الاسلام للمسلمين اولا وللعالم ثانيا، على انه خاتم الاديان المقدسة الراعية والمتناغمة او المنسجمة مع الحضارة العلمية التكنولوجية الحديثة، بالفكر والفلسفة الانسانية، وبالعلم والفهم والادراك الفطري السليم...

اتساع رقعة المنطقة الوسطى بين الحلال والحرام هي تعني زيادة في الوعي الحضاري، وتنمية فكرية متحررة للمسلمين، لكنها ملتزمة بالثوابت واخلاقية المتغيرات، وتضييق لمجالات العنف والتحجر والانغلاق في الاسلام، ويمكن ان تحدد هذه المساحة المهمة من مرحلة انقاذ الامة العربية والاسلامية من الانحطاط الحضاري او كما يسمى بالاسلام المعتدل او الوسطي بما يلي:

اولا:كل مسألة او ظاهرة اجتماعية حضارية لم يحرمها الله عزوجل ويذكرها صراحة في القران الكريم، لايجوز ان تدخل باب التحريم الاجباري، انما تبقى ضمن حدود الاجتهاد الشخصي (غير الملزم شرعا كما ذكرنا)، تخضع هذه التعريفات الى التشريعات والمساءلة القانونية والقضائية المدنية الرسمية، لتصبح جزءا من منظومة القيم الاجتماعية الرسمية

ثانيا: لكل ابداع انساني اخلاقي حلال او يعد من الحالة الوسطية، التي لايجوز للمؤسسات الدينية ابداء الرأي فيها او الافتاء بخصوصها، لانها تعد من الالهامات الالهية والشخصية غير الخاضعة للتأويل، كالعلوم والابتكارات والانجازات العلمية والفنية او الثقافية...

ثالثا: منطقة حرية الفكر وابداء الرأي في المتغيرات الشرعية الاسلامية، والتحقيق في الثوابت لغربلتها واكتشاف الثابت الفعلي منها والمتغير

رابعا:انهاء ظاهرة الافتاء لرجال الدين او المؤسسات الدينية في الدول التي جعلت الدستور لايتعارض مع الثوابت الاسلامية، وادخال الفتاوى الثابتة والمتفق عليها في القوانين والتشريعات القضائية، واعتبار المؤسسات الدينية مؤسسات للوعظ والارشاد والنصح، تعمل على هداية الناس، وتدعوهم بالعودة الى طريق الاسلام الناصع، على اعتبار انها جزء من منظومة القيم الاخلاقية الاجتماعية

خامسا: منطقة المستحبات والمكروهات والاثام والذنوب، منطقة الفراغ المتروكة بحرية للناس، كما ترك الله عزوجل حرية الاختيار في مسألة الاعتقاد والاسلام والايمان، هذه منطقة الثقافة والفكر والاراء الشخصية الحرة

سادسا: منطقة الجدل وظاهرة الالحاد واثارة الشكوك والازمات الفكرية والنفسية، هي مساحة حرية المعتقد والقناعات الشخصية، وهي منطقة الحوار السلمي الهادف، وبيئة عمل المؤسسات الدينية والمدنية والثقافية...الخ.

مما لاشك فيه ان من اسباب التأخر الحضاري العربي او الاسلامي هي المذاهب والمؤسسات الدينية وفتاوى المراجع ورجال الفقه، وهذه الظاهرة اي الافتاء والمفتي تلغي بصورة واخرى دور الدولة الحديثة ومؤسساتها المدنية الشرعية (على اعتبار انها كانت سببا بوجود الانظمة المستبدة السابقة والحالية)، اذ ان مسألة بقاء الافتاء واظهار عجز الدولة الدائم عن مواكبة التطور الحضاري الانساني، وعدم تمكنها من ايجاد التشريعات والقوانين المنظمة لادارة الدولة والمجتمع، هي عملية تفكيك غير مباشرة للدولة والمجتمع،

من هنا دخل رجال السياسة والفكر والدين منذ قرون في ازمة الفهم والتعريف لعلاقة الدين بالدولة، علما ان التاريخ الانساني القديم والحديث اثبت ان السلطات الاستبدادية كانت تستمد قوتها ووحشيتها من السلطات والمؤسسات الدينية، لهذا ظهرت فكرة عولمة الدولة الديمقراطية الحديثة، وليس اجبارها على الفساد والالحاد والتكفير (الخ.)

، فالاديان ودور العبادة ازدهرت وتطورت وانتشرت تحت سلطة الدول المدنية العلمانية، (على ان لكل دولة ومجتمع خصوصيات وتراث وبيئات ومستويات معينة من الجهل والتخلف او النضج والوعي)،

واصبحت تلك الدول المتحضرة نموذجا رائعا للتعايش السلمي بين الاديان والطوائف والحريات والثقافات او التوجهات المختلفة والمتعددة، وهي وجهة الهاربين من جحيم الدول الفاشلة والمجتمعات القروية المتزمتة......

المنطقة او المساحة الوسطية في الاسلام هي اساس الانطلاق نحو التنمية والازدهار وبناء الدول المدنية المتحضرة، وهي منطقة عمل وشغل الدولة والنخب السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية والفعاليات المدنية الابداعية الاخرى، تبحث في تخفيف لغة وخطاب المحرمات المضخم بطريقة غير منطقية، التي صارت كالطوق المسنن الكبير يلف بقسوة حول رقاب الناس، لايسمح لهم بادنى حركة او حتى ابداء الرأي، ولهذا تجد في بلادنا التطرف سيان في التشدد الاسلامي وكذلك في الانحلال والفساد والانحراف، لان ثقافة مجتمعاتنا ثقافة احادية متطرفة كما كانت تفعل الاحزاب السياسية سابقا (اليسارية او اليمينية المتطرفة)،

قبل ان تترك وتهمل تلك الايديولوجيات، وتتجه المجتمعات المدنية المتقدمة للبدائل اي لفكرة الاحزاب التنموية الرأسمالية (اما بخصوص عودة الفكر اليميني المتطرف الى اوربا فهذا بحث اخر، سببه بشاعة الانظمة الراسمالية، وزيادة اعداد المهاجرين في بلدانهم ونسبة المثليين، الخ.)،

هذه الدعوة الى انهاء منصب المفتي ليست الغاءا للدين او الفتاوى الشرعية، انما دعوة للوسطية، وتحويل هذه الفتاوى الى دوائر حكومية دينية مدنية دستورية تأخذ على عاتقها المساهمة بأبداء النصح والرأي في مسألة طرح التشريعات والقوانين المتداخلة مع الشريعة الاسلامية، وبهذه الحالة ترفع الدولة من مكانة المؤسسات الدينية ومراجع الافتاء من جهة، بجعلها طرف اساسي في التشريعات الرسمية، وتبعد من جهة ثانية رجال الدين عن التفرد والتورط باصدار الفتاوى او المحرمات، وتحمي كذلك المجتمع والاجيال القادمة من مدارس التكفير والارهاب،

وهذا كما هو معروف زمن الفوضى والفتاوى العشوائية، فكل مسلم متزمت ومتشدد وينتمي لجماعة او خطيب منبر او امام جامع يمكن ان يصبح مفتي او امير جماعة ارهابية او تكفيري قاتل، يصدر الفتاوى ويطبق الاحكام بنفسه احيانا او يسخر لافعاله الارهابية جهلة مأجورين تحت قناعات شخصية لاتمت للاسلام الوسطي باية صلة...

الاسلام دين الوسطية، ومن يريد اللحقاق بالركب الحضاري عليه ان يعمل على تحريك عجلات تلك المنطقة بقوة الفكر والطرح العقلاني المعتدل.

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم