قضايا

علي فضيل العربي: يوم العلم في الجزائر

16 أفريل (نيسان) من كل سنة، يوم للعلم في الجزائر.

اعتادت الجزائر، منذ سنوات الاستقلال الأولى، على إحياء يوم العلم، الذي ارتبط بذكرى وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس في 16 أفريل / نيسان 1940 م. يومها، كان العالم غارقا في حرب عالميّة ثانيّة، أزهقت ملايين النفوس البريئة وغير البريئة. أما القطر العربي الجزائري المسلم، فقد كان يرزح تحت نير الاحتلال الفرنسي الغاشم. وكان قد مرّ على الأمّة الجزائريّة مائة سنة وعشرا من القهر ومحاولات الاستيلاب الثقافي والمسخ الديني والتجهيل وسلب الخيرات ونهبها. حتى ظنّ بعضهم، أنّ الأمّة الجزائرية أمست في خبر كان، ولم يعد يُسمَع لها صوت.

حتى قال أحدهم: فرحات عباس:

" بحثت في التاريخ، وسألت الأموات والأحياء، وزرت القبور، فلم يحدثني أحد عن هذا الوطن ".

لكنّ الشيخ عبد الحميد بن باديس ردّ عليه في مقاله الشهير بجريدة الشهاب، قائلا: " إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها ".(جريدة الشهاب).

و توفي الإملم المصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس في السادس عشر من أفريل 1940 م، بمدينة قسنطينة، مدينة العلم والعلماء. احتضنته حيّا بين أزقّتها ورحباتها، وضمّت جسده الطاهر في قلب ثراه. وشيّعته العيون باكيّة، وودّعته القلوب راجفة إلى مثواه الأخير، ولسان حاله ما فتئ يرّدد صادحا:

هَذَا لَكُمْ عَهْدِي بِهِ حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَبْ

فَإِذَا هَلَكْتُ فَصَيْحَتِي تَحْيا الْجَزَائِرُ وَالْعَرَبْ

كان الشيخ الإمام رجلا، بالمعنى الذي وصف به القرآن الكريم الرجولة والرجال (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا). رجل، ومصلح من طينة أسلافه ومعاصريه الكبار (الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، محمد بن عبد الوهاب، الندوي، وغيرهم) من الرجالات العربيّة والإسلاميّة.

- احتفلت فرنسا الاستعمارية في عام 1930 م ن بمرور قرن على احتلالها القطر الجزائري، وأعلن خطباؤها وسفهاءها وعملاءها أن الأمة الجزائريّة قد ماتت وفنيت، ولا وجود لأمة اسمها (الجزائر). لكنّ الشيخ عبد الحميد بن باديس ورفاقه الأبرار(72 عالما من شتى الاتّجاهات الدينيّة)، أبرزهم: (الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والعربي التبسي ومحمد المين العمودي، والطيب العقبي، إبراهيم بيوض، مبارك الميلي، والمولود الحافظي، والطيّب المهاجي، ومولاي بن شريف، السعيد اليجري، حسن الطرابلسي، عبد القادر القاسمي، ومحمد الفضبل اليراتني)

لقد رفعوا راية التوحيد خفاقة في سماء الجزائر على منوال أسلافهم الكرام، وأعلنوها دون كناية أو استعارة أو خوف.

" الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا "، شعارا لهم، لا لبس فيه، وتهاون.

إنّها هويّة الجزائر الوطنيّة، التي انصهرت في بوتقتها مكوّنات الأمة الجزائريّة برمّتها، فأصبحت جسدا واحدا، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.

كانت مباديء جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين واضحة لا لبس فيها. وكانت رسالتها موجّهة إلى العقول الخاملة لإيقاظها من الغفلة والتواكل، وإلى القلوب الغافلة لإيقاد روح العزم والحزم، وإنارة الكهوف المظلمة، وبيان سبل الخلاص من الاحتلال الفرنسي، الصليبي البغيض.

و المتأمّل لكتابات المحتلين الفرنسيين، من رجال الكنيسة الكاثوليكية الإفريقيّة يدرك مدى تحمّسهم الشديد للقضاء على مقوّمات الأمّة الجزائريّة المجيدة. لقد كانوا منخرطين " جنبا إلى جنب مع جنود الجيش الفرنسي، يدرك حجم الحقد الصليبي. لقد صاح لويس فييو، وهو يطأ أرض الجزائر قائلا: " كم كنت أتمنى في هذه اللحظة أن ألبس بدلة جنودنا، وأن أحس بالسيف يقارع ركبتي، إنّه سيف الله نضرب به عدوّه " (لويس فييو – الفرنسيون في الجزائر – 1841)

و في الوقت الذي اعتقد فيه العدو الفرنسي أنّ مقامه في الجزائر قد ترسّخ وضرب بجذوره في أعماق تربتها الزكيّة، وظنّ زعماء الكنيسة الكاثوليكية، أنّ الجزائر قد تحوّلت من انتمائها العربي الإسلامي إلى معسكرهم الصليبي، هبّ رجال الجمعيّة بقيادة الشيخ عبد الحميد بن باديس، ليصرخوا في وجهه القذر. مردّدين ملء الآفاق:

مَنْ قَالَ حَادَ عَنْ أَصْلِهِ

أَوْ قَالَ مَاتَ فَقَدْ كَذَبْ

لقد ردّا مفحما، زلزلوا به أركان المحتلين. وهم الذين قالوا ذات يوم على لسان عرّابهم الكاثوليكي: " لا من أن نستخلص من هذا بأنّ الاسلام أخذ يلفظ أنفاسه الأخيرة في كل مكان، أو على الأقل في ساحل البحر الأبيض المتوسط الذي يحق لنا نحن المسيحيين ان نسميه بعد اليوم: بحرنا " (لويس فييو – الفرنسيون في الجزائر – 1841).

و تكتف جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين، بمحاربة الأعداء الغزاة الصليبيين، بل إن الشيخ ابن باديس رحمه الله، بفضل فطنته وحكمته وذكائه وبعد نظره وإخلاصه لدينه وأمّته – وجّه سهام دعوته الإصلاحيّة التحرريّة إلى صدور طائفة من الحركى (الخونة والعملاء) ودعاة الاندماج قائلا:

أَوْ رَامَ إِدْمَاجًا لَهُ

رَامَ الْمُحَالَ مِنَ الطَّلَبْ

*

وَاقْلَعْ جُذُورَ الْخَائِنِينَ

فَمِنْهُمُ كُلُّ الْعَطَبْ

لقد أدرك الشيخ ابن باديس – طيّب الله ثراه - أنّ الأمّة الجزائريّة، قد تكالب علي إفنائها ومحو هويّتها ومسخ تاريخها التليد، الغزاة والخونة. ولهذا السبب – وغيره – وجب اقتلاع الجذور الخائنة، وتطهير النفوس النجسة، لأنها مصدر الخطر كلّه على مصر الأمّة الجزائريّة. عايش الشيخ ابن باديس ورفاقه، فترة عصيبة في ثلاثينات القرن العشرين. فقد لجأت فرنسا الاستعماريّة إلى محاربة جمعيّة العلماء بكل الوسائل الماديّة والمعنويّة والسياسية، من أجل إفشال مشروعها التعليمي والإصلاحي. فمنعت – بمراسيم – تدريس اللغة العربيّة وتحفيظ القرآن وتفسيره وتدريس تاريخ الجزائر خاصة والتاريخ العربي الإسلامي عامة. واستعملت عقوبتي السجن والنفي وكل وسائل الترهيب والوعيد والترغيب.

آمن الشيخ ابن باديس، بأن الأخذ بزمام العلم، وتربيّة النشء وتعليمه، هو باب الخلاص من المحتل الغاصب.

يَا نَشْءُ أَنْتَ رَجَاؤُنَا

وَبِكَ الصَّبَاحُ قَدِ اقْتَرَبْ

*

خُذْ لِلْحَيَاةِ سِلاَحَهَا

وَخُضِ الْخُطُوبَ وَلاَ تَهَبْ

*

وَارْفَعْ مَنَارَ الْعَدْلِ

وَالإِحْسَانِ وَاصْدُمْ مَنْ غَصَبْ

لقد أدرك أنّ الحريّة لن مُنال إلا إذا أضاء نور العلم عقول الناشئة. ولن ينجلي ليل الجزائر إلا على أيدي رجال العلم والحكمة، رجال مسلّحين بالإرادة والعزم والحزم والطموح.

و قد سعت فرنسا الاستعماريّة إلى طمس هويّة الأمّة الجزائريّة، باتّباع سياسة ثقافيّة وصليبيّة، أداتها فرنسة اللسان الجزائري، ورومنة التاريخ الجزائري، وتنصير وكثلكة (من الكاثوليك) الجزائريين، وتفتيت وحدة الأمّة الجزائريّة (سياسة فرّق تسد)، وإثارة الفتن العشائريّة والنعرات القبليّة والتعدّدات الإثنيّة. لكنّها فشلت، وسقطت مساعيها الخبيثة في الوحل. وهذا بفضل ما قانت به جمعيّة العلماء الجزائريين وتضحيات رئيسيها الفذ الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله.

لقد دافعت الجمعيّة على وجود الأمّة الجزائريّة، وبعدها القومي ورسوخه، المتمثّل في انتمائها العربي والإسلامي الأصيل. من خلال ما سنته من مباديء وأهداف، نشرها الشيخ ابن باديس في العدد 160 من جريدة البصائر الصادرة في 7 أفريل / نيسان 1939 م. أهمّها: 1939.

1 – التعليم والتربية.

2 – تطهير الإسلام من البدع والخرافات.

3 – إيقاد شعلة الحماسة في القلوب بعد أن بذل الاحتلال جهده في إطفائها حتى تنهار مقاومة الجزائريين.

4 – إحياء الثقافة العربيّة ونشرها

5 – المحافظة على الشخصيّة الجزائريّة بمقوّماتها الحضارية والدينيّة والتاريخيّة. ومقاومة سياسة الاحتلال الرامية إلى القضاء عليها.

و هذا ما صرّح به الشيخ عبد الحميد بن باديس في ختام قصيدته:

فَإِذَا هَلَكْتُ فَصَيْحَتِي

تَحْيا الْجَزَائِرُ وَالْعَرَب

و في الختام، وددت أن أتحف القاريء الكريم بقصيدة الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس كاملة، التي قال فيها:

شَعْبُ الْجَزَائِرِ مُسْلِمٌ

وَإِلىَ الْعُرُوبَةِ يَنْتَسِبْ

*

مَنْ قَالَ حَادَ عَنْ أَصْلِهِ

أَوْ قَالَ مَاتَ فَقَدْ كَذَبْ

*

أَوْ رَامَ إِدْمَاجًا لَهُ

رَامَ الْمُحَالَ مِنَ الطَّلَبْ

*

يَا نَشْءُ أَنْتَ رَجَاؤُنَا

وَبِكَ الصَّبَاحُ قَدِ اقْتَرَبْ

*

خُذْ لِلْحَيَاةِ سِلاَحَهَا

وَخُضِ الْخُطُوبَ وَلاَ تَهَبْ

*

وَارْفَعْ مَنَارَ الْعَدْلِ

وَالإِحْسَانِ وَاصْدُمْ مَنْ غَصَبْ

*

وَاقْلَعْ جُذُورَ الْخَائِنِينَ

فَمِنْهُمُ كُلُّ الْعَطَبْ

*

وَأَذِقْ نُفُوسَ الظَّالِمِينَ

سُمًّا يُمْزَجُ بِالرَّهَبْ

*

وَاهْزُزْ نُفُوسَ الْجَامِدِينَ

فَرُبَّمَا حَيَّ الْخَشَبْ

*

مَنْ كَانَ يَبْغِي وُدَّنَا

فَعَلَى الْكَرَامَةِ وَالرَّحَبْ

*

أوْ كَانَ يَبْغِي ذُلَّنا

فَلَهُ الْمهَانَةُ وَالْحَرَبْ

*

هَذَا نِظَامُ حَيَاتِنَا

بِالنُّورِ خُطَّ وَبِاللَّهَبْ

*

حَتَّى يَعُودَ لِقَوْمِنَا

مِنْ مَجْدِهِمْ مَا قَدْ ذَهَبْ

*

هَذَا لَكُمْ عَهْدِي بِهِ

حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَبْ

*

فَإِذَا هَلَكْتُ فَصَيْحَتِي

تَحْيا الْجَزَائِرُ وَالْعَرَبْ

***

بقلم الروائي والناقد علي فضيل العربي – الجزائر -

 

في المثقف اليوم