قراءة في كتاب

محمد البندوري يسبر أغوار الخط المغربي

12 محمد الندوريقراءة نقدية في كتاب جمالية الخط المغربي في التراث المغربي

تناول محمد البندوري في هذا الكتاب جمالية الخط المغربي ودورها في تغيير ملامح النصوص الأدبية في التراث المغربي، حيث تفاعل مع عدد من النصوص الجمالية المؤطرة بجماليات الخط المغربي. وقبل تناول أهم مضامين الخط المغربي انهال بالدراسة على أهم الإسهامات النظرية التي تناولت الخط العربي عموما والخط المغربي خاصة، ورصد أبعاده الجمالية وانفتاحه على المجالات والفنون الأدبية الأخرى، وذلك ليرصد من خلال أبحاثه العلمية مختلف العلائق الوطيدة بينها وبين الخط العربي من جهة، والوقوف على البعد الجمالي للخط المغربي ودوره في تحريك عملية الإبداع وقلب المفهوم السائد من جهة أخرى. وقد رام جهود العلماء وأدوارهم الكبيرة في ذلك، فعرض الكاتب آراء الجاحظ التي اتسمت بسمة إيجابية كونها رامت كل أشكال الخطوط والقنوات التواصلية، مما أسهم في التحولات التي عرفها مجال الخط، وأنتجت أبعادا جمالية مما تزخر به نظرياته، وقد تبلورت أساسا في الصيغ الجمالية والسبل المظهرية الإقناعية خصوصا وأن النصوص الشعرية قد كتبت بخطوط متفاوتة الجمال ومختلفة الشكل والنوع. فقد تطرق لبيان الخط واستثمره في البعد الجمالي وفي التواصل، وقرع سيميائية الخط وفق أنظمة رمزية وسيميائية في إشارة لأداء وظيفة البيان عن طريق الرؤية البصرية التي تحقق التواصل.

وفي نطاق المراحل التجديدية، فإن محمد البندوري قد تناول مشروع التأويل بالدراسة والتمحيص وتوصل إلى أن هذا المشروع قد ساهم هو الآخر في تثبيت بلاغة الخط وإرسائها، خصوصا مع ظهور مجموعة من المؤلفات التي خصبت المجال البياني والفلسفي والجمالي، فحازم القرطاجني قد لفت الانتباه إلى التماثل الحاصل في الإبداع الشعري وفي الفن البصري حين إشارته إلى العلاقة القائمة بين فن الشعر وفن التصوير، في حين نجد عددا من المؤلفات الأخرى منها المنزع البديع الذي يشكل حلقة مهمة في النقد والبلاغة تطرق من خلاله السجلماسي إلى علاقة الفن بالنفس أثناء العملية الإبداعية، وحد الشعر وعلاقته بالخطابة، والتخييل، وثنائية الصدق والكذب، والمحاكاة والتمثيل.. وكتاب ابن البناء المراكشي الذي طال إظهار العلاقة الكائنة بين اللفظ والخط والسمع. ورسم لذلك صورة مظهرية قوامها الحرف، إلى غير ذلك من المؤلفات الأخرى التي تحمل مجموعة من الأفكار والتصورات. هذا فضلا عن ظهور حركات فنية تهتم بمجال الكتابة تنميقا وتزويقا وجمالا. بالإضافة إلى إسهامات المنظرين المغاربة لجمال الخط أمثال أحمد بن محمد الرفاعي من خلال حلية الكتاب ومنية الطلاب، كإسهام مغربي تناول جمالية الخط وحسن الخط ومنافع الخط وأدوار الخط التواصلية. وقد أسهمت مجموعة من النظريات لمجموعة من النقاد المغاربة في لفت الاهتمام إلى مجال الكتابة الخطية بكل خصائصها الجمالية لصنع النظام والجمال الذي يغدو موضوعا بدلالات أخرى في مستويات متعددة، استنادا إلى ما يزخر به التراث المغربي من قيم خطية وجمالية تفعل فعلها في مختلف النصوص. فقد وعى النقاد المغاربة أولا بأهمية الخط، حين أدركوا خصائص لغته، ثم رسموا له ثانيا من خلال إسهاماتهم النظرية الطريق القويم، فوضعوا له جهازه المفاهيمي لبعث الجمال والبلاغة وارتياد عوالم التجديد في النصوص الشعرية والنثرية وغيرها. ويرجع الفضل في ذلك إلى التطور الحضاري الذي ساهم في اضطلاع المغاربة بعلوم مختلفة منها الهندسة والرياضيات والفلسفة والفن والزخرفة وغيرها، حيث تنوعت التصورات والأفكار. كما أن تأثير القرآن الكريم في بلاغة الخط كان واضحا، حيث يظهر بأن الأساليب الخطية بجمالياتها المتعددة قد ترعرعت في أحضان الآيات القرآنية الكريمة، إذ منها استمد المبدعون الصيغ الجمالية للخط التي ساهمت في تأثيث مختلف النصوص الأدبية، وساهمت فيما بعد في الوجود البلاغي الخطي البصري.

واستند محمد البندوري على أهم المنجزات الفنية/ الأدبية التي ارتبطت بالتحول الحضاري والتحول في ذهنية الإنسان المغربي التي انفتحت على الإبداع والتجديد والابتكار، واعتبرها إسهاما إضافيا أثر بشكل أو بآخر في تغيير المنحى السائد، حيث ظهرت نصوص جمالية تجديدية في الكتب وفي المعمار وفي كل الوسائل، مما أثرى الساحة الثقافية بتحولات إبداعية رائدة. وأكد محمد البندوري على أن هذه الجهود قد رسمت معالم الخط المغربي وقدرته على اختراق النصوص وتغيير ملامحها ودلالاتها. فكانت أحد أهم الأسس التي صنعت الخارطة الجمالية للتحول إلى البلاغة البصرية من منطلقات فنية، ارتبطت في عمقها بتصورات وآراء وأعمال ذات قيمة كبيرة في الثقافة المغربية العربية الإسلامية. وشكلت تحولا مباشرا إلى بلاغة مكتوبة بصرية، وتحولا في صياغة البعد الجمالي للخط، مما عمق من صيغ الإدراك لطبيعة العلامة الخطية، وعمق من الصيغ الجمالية للخط المغربي، في نطاق فلسفته الفنية، وفي نطاق أشكاله الجمالية التي كان لها أثر بالغ في توجيه العمليات الإبداعية نحو التجديد والابتكار. وكل ذلك وغيره كان له وقعه في المشهد الثقافي الخطي المغربي نقدا وتصورا وإبداعا، أخذ أسسه من هذه التجارب، لينتج نصوصا جمالية اتخذت صورا متعددة في التراث المغربي.

وفي ذ=ات السياق أظهر محمد البندوري العلاقة بين جمالية الخط وجمالية النص واعتبرها أحد المياسم التي طبعت الثقافة المغربية، حيث ظلت مختلف النصوص تمثل أمام القارئ في صيغ جمالية تنطوي على تساؤلات نقدية وبلاغية، وتستبطن مختلف المعاني والدلالات، على غرار ما يشكله الأسلوب الفني للخط المغربي في النصوص باعتباره أحد الركائز الهامة لإنشاء مساحة نقدية جمالية وبلاغية، وأحد المظاهر الفنية البصرية في التراث المغربي، يقوم على تطويع أدلته الخطية وفق تناسب فني مكون من اللون والحرف والرمز والتجريد والخامة. فضلا عن قدرته العالية لتطويع جوهر الشكل ككل للنصوص باستخدامات جمالية تروم المدركات البصرية لأشكال الحروف، فتعنى بتخصيص المرئي بموجب شكله الفريد، الذي يستند إلى الحقيقة التواصلية للخط، وحقيقته الجمالية، وحقيقة الأشكال الخطية التي تستوعب كل التفاعلات التي تنتج عن المكونات الجمالية والحس حركية للخط النابعة من استرسالاته وتدويراته وتقويساته وغيرها..

لقد عمل محمد البندوري على تثبيت هذا الموضوع بكل ما لفه من قيم تعبيرية وفنية وجمالية في المشهد العلمي والمعرفي والثقافي المغربي والعربي والعالمي باعتباره موضوعا جديدا وثريا ساهم في إخراج بعض النصوص إلى الواجهة الجمالية من منظور مخالف، يعتمد شكل الحرف مفردا ومتصلا، مما عمق من دلالاته في نطاق بلاغة جديدة استثمرت البعد الجمالي للخط المغربي بأنواعه المختلفة. وبذلك فأهمية هذه الدراسة تكمن فيما تم الكشف عنه من عوالم جديدة، وما تم التوصل إليه من نتائج.

ولقد اقتضت هذه الدراسة التي قام بها محمد البندوري في نطاق التحليل والتأويل الالتزام بمنهج يتلاءم مع طبيعة النصوص التي تمت دراستها، فاختار طريقا تسهل عملية الاختراق إلى الجوانب المبهمة في النصوص، لأنها نصوص غير عادية، ولأنها نصوص مبنية وفق أشكال جمالية وعلامات وصور وأنواع معقدة من الخطوط، الشيء الذي تطلب من محمد البندوري قراءة سيميولوجية بصرية لصور الحروف ولأشكال الخط المختلفة. وقد بذل جهدا في البحث عن نصوص متنوعة بغاية الحصول على معاني ودلالات تثبت جدية هذه النصوص بعيدا عن الترف البديعي. وبذلك فقد فرضت عليه طبيعة هذا الموضوع منهجا محددا للحصول على نتائج ذات أهمية.

وبناء على ذلك، اعتمد محمد البندوري المقاربة السيميوطيقية لسندرس بورس التي تتعامل مع الظواهر باعتبارها علامات وإشارات ورموزا وأيقونات واستعارات ومخططات. حيث إن دراسة الإنتاجات الإبداعية تتأتى من خلال منهجية سيميوطيقية تعتمد البنية، والدلالة والوظيفة. باعتبار أن السيميوطيقا تروم التفكيك والتركيب، وتحديد البنيات العميقة الثاوية وراء البنيات السطحية المتمظهرة إفرادا واتصالا وتركيبا ودلالة.

ولم يكتف محمد البندوري بذلك فقد امتد إلى آراء رولان بارث فيما يخص الصورة التي تتعلق باستخراج التمثلات التي تتحكم في القيم، حيث استطاع رولان بارث بدراسته لهذا النوع من العلامات تبيان السلطة المتحكمة في الصورة باعتبار البعد الإيحائي. فهو يرى بأن لغة الصورة تشتمل على علامات وقواعد ودلالات لها جذور في التمثلات الاجتماعية وغيرها. فالصورة بالنسبة إليه نسق سيميائي يشتمل على ثلاثة مكونات: الدال والمدلول والعلامة. وبالنسبة لعلاقتها بمجال الكتابة فهي علاقة تتحدد من خلال الوظائف التي يتبادلها النسقان من خلال عملية التجاور.

وبذلك، ومن خلال جمالية الحروف المغربية وبنياتها وغاياتها التداولية وما تختزنه من مقومات فنية دقيقة تشكلت في كل عناصر التراث المغربي، رصد محمد البندوري مجموعة من النصوص الجمالية في المخطوطات المشحونة بالألغاز والرموز والإشارات والعلامات المخزونة في أشكال الحروف، فوقف من خلالها على ما شكلته من جماليات، وهي تحمل أفكارا عميقة وثقافة موشومة بالصيغ الجمالية والدلالية والتداولية.. وهو ما سهل الكشف عن مواطن الابتداع وتقصي بعض المجاهل، خصوصا وأن العديد من القضايا الجمالية والتعبيرية في شقها البصري، بكل تقاطعاتها المتنوعة في التراث المغربي، المتموقعة أساسا في الحرف المغربي في نطاق القراءة الجمالية والنقد الفني والبلاغي؛ ما زالت في عداد المجهول ولم يتم الالتفات إليها جماليا. منها جمالية الخط المغربي في المصاحف الشريفة، ومنها النصوص بالخط المسند المغربي وبالخط المغربي المبسوط وبالخط المغربي المجوهر وبخط الثلث المغربي، ومنها بعض النصوص الأدبية المرتبطة بالتشكيل، ومنها بعض النصوص الأدبية التجريدية.. وهي لا تزال مواد خصبة تطرح تساؤلات عدة تحتاج إلى إجابات وتعميق البحث للكشف عن أسرارها في نطاق ما تصنعه من إبدالات بصرية ذات أهمية، وما تقتنصه من دلالات من خلال الإسهامات النقدية للعلماء والنقاد العرب والمغاربة القدامى والمحدثين بآرائهم وتصوراتهم وإنتاجاتهم الفريدة، التي شكلت أبعادا فنية وقيما جمالية وبلاغية اختلفت في عمقها، وفي الكيفية التي تجلت بها باختلاف التصورات والآراء التنظيرية والتطبيقية، لكنها توحدت كلها من حيث المبدأ الذي يقوم على معالم الجمال وبلاغة الخط، وبلورة مسار جديد قياسا بالوضع السابق للخط والنصوص. وبذلك لامس محمد البندوري نصوصا معزولة في التراث المغربي بشكل عام، وتفاعل مع الكتابات الخطية الغريبة واستنطقها جماليا وبلاغيا، وتوصل إلى إنتاج دلالات جديدة ومعاني فريدة من خلال تطور آليات البحث الجمالي. كما أن تفاعله دراسيا مع جمالية الخطوط في المصاحف القرآنية الشريفة له أهمية بالغة ومجال سبق لمحمد البندوري في هذا المنحى الجمالي، خصوصا وأن التعامل كان مع مصاحف نادرة ذات صيغ جمالية فريدة، وذات قيمة عالية، إذ أن ذوات السلاطين المغاربة قد تدخلت في العمليات الإبداعية الشكلية بشكل مباشر، وأنتجت جماليات تاريخية كانت في طي الكتمان أو المجهول. وقد كان لهم اتصال روحي غذى المنحى الجمالي للخط فأنتجوا مصاحف قرآنية شريفة من الطراز الرفيع تعبق بالجماليات، وقد أظهر محمد البندوري أن منها ما كتب بالخط المغربي المجوهر بالذهب والفضة على خامة من الحرير الملون بالأخضر بصيغة تشكيلية دقيقة، وهو جمال سابق وفريد في التراث المغربي والعربي والإسلامي، ومنها ما نظمت حروفه بصريا حيث جمع بين أفصح الحروف بأحسن تأليف بصري. وعلى إثر ذلك، فإن التفاعل السيميائي مع هذه الإنتاجات أفرز نظرية جديدة تتعلق بالنظم البصري للحروف القرآنية، وقد أعطى هذا التوجه لبنة بصرية جمالية في توجيه المنحى البصري نحو قيمة الدلالة، وفي توجيه قيمة المعاني واحتوائها لروحانية الخط وإعجازه.

   ويبدو أيضا بأن محمد البندوري هو الأول من تفاعل مع نصوص نثرية من نوع المسند المغربي، وهذا له أهمية كبرى في البحث والدراسة عربيا ودوليا، خصوصا وأن هذا الخط له طقوس خاصة، ولا أحد يستطيع الاقتراب منه لصعوبة قراءته، ولتعقيداته الكبيرة. لأن حروفه تصل حد الطلسمية. وقد استجلى محمد البندوري العديد من المعاني من تلك النصوص المسندية ودلالاتها.

وتعامل كذلك مع الخط المغربي المجوهر، حيث شكلت الرسوم والزخارف المكتوبة في النصوص شكلا تركيبيا جماليا دالا على معاني. وهو ينبني على ارتقاء مجال الكتابة فنيا إلى مستوى التشكل بحرية في الفضاء. ويعد هذا النموذج أسلوبا خطيا جماليا حرا في التعبير، فكل رسم أو خط مغربي مجوهر أو علامة، له دلالة خاصة في تلك النصوص، كما أن كل العناصر تؤدي في حالة تركيبها معاني دقيقة، باعتبار أن حروف الخط المغربي المجوهر تؤدي وظيفة عمل تجريدي وفق معنى وغرض معين. فإذا كان المعنى في حد ذاته فكرة مضمرة، فإن شكل الحرف المختلف والمتنوع وطريقة وضعه في النص وطريقة توجيهه يعبر عن أداء المعنى، وعن استمراريته، وبذلك يأخذ موقعه التواصلي في النصوص، باعتباره إنتاجا فنيا حابلا بالمعاني وبالدلالات.

واعتبر محمد البندوري الأشكال الخطية الزخرفية أنموذجا مغربيا فنيا جماليا تحكمه سلسلة من العلائق المتناغمة والروابط العميقة بين الثقافة العربية والثقافة الأمازيغية، مهيكلة وفق الصورة المرسومة بحرية أدبية وفنية، ويعزز ذلك رقة المساحات وتقسيمها بين ما هو زخرفي أمازيغي، وبين ما هو خط عربي منظم، وبين ما هو خط مشكل، وبين الإطارات واتجاهات الوحدات الخطية والزخرفية. تتبدى فيها الغرابة، وقد اعتمد أساسا في بنيتها من حيث الدراسة على خط الثلث المغربي والخط المجوهر المغربي والزخرفة المغربية الأمازيغية الأصيلة، وقد استطاع محمد البندوري أن يستخرج من أشكالها الجمالية معاني ودلالات من خلال تحقق تلك الأشكال.

وبخصوص التشكيل الدائري الذي بنيت عليه القصائد الشعرية المغربية يرى محمد البندوري أنه قد وظف الخط المغربي والأندلسي بطرق تقنية وفنية جديدة، فتفرد باستعاراته المجازية والبصرية التي تستلهم الفضاء والكواكب وجمالية الأشكال الخطية واللونية والزخرفية. فقد تم وضع هذا الشعر وفق نسق تشكيلي هندسي يتخذ من التصوير ومن التجريد مادة ممزوجة ببعضها البعض، فتتخذ بعض الأشكـــال الحروفيـة والمنمنمات أدلة أيقونية تتماثل مع موضوع واقعي تستند عليه. فضلا عن تكوين حروف مفردة داخل الفضاء، وبذلك نحصل على نتائج مهمة تتكون من المعاني والدلالات الجديدة المتعددة.

أما التشكيل المستطيل بالخط المغربي الأندلسي، والثلث المغربي، فهو يقدم الفاعلية الإبداعية، وإثبات القدرة على تركيب نص مغاير من خلال تحقق الأشكال الحروفية في الكتابة بجمالية وبلاغة، تثبت وجودها الفعلي المتأصل في التاريخ البلاغي العربي الإسلامي. فالتشكيل الخطي لهذه النصوص الشعرية المستطيلة ليس مجرد مظهر تزييني خارجي بقدر ما هو بنية تواصلية مستمرة في الوجود تتحقق مظهريا كما تتحقق في المعنى الأصلي. وبذلك فقد ساهمت في توليد دلالات جديدة تتماثل مظهريا مع المضمون الباطني.

وبذلك توصل محمد البندوري إلى أن التشكيل المستطيل العميق قد شكل وجودا قيميا في الواقع الجمالي للخط المغربي في مساحات نصية مكثفة تمتد على طول الجدران بزخارف ومنمنمات وأشكال خطية مغربية جمالية ذات معاني ودلالات تداولية وتواصلية وعظماتية تتماثل مع المعنى ومع الغرض المدحي. وقد تم إثبات قدرتها التأثيرية المباشرة في تعبيرية النص الشعري البصري.

أما الأشكال الخطية في السكة النقدية والجداريات، فقد توحدت من حيث الإيحاءات الرمزية والدلالية، وقد كشف محمد البندوري من خلال عمليات التحليل والتأويل عن ارتباط المضامين بأغراض روحية، وثبت من خلال البحث أن تلك الرموز لم توضع عبثا وإنما بدلالات محددة. وقد دل التوافق من خلال التشابه بين الرموز في الجداريات والسكة النقدية عن مقصديات روحية ترسخت في الذهنية المغربية. وقد تمخضت عن هذه الأشكال دلالات ومعاني.

وقد شكلت هذه العمليات التجاورية من جهة والتداخلية من جهة ثانية بين جمالية الخط والنص حلقة هامة لاستجلاء جمالية الخط المغربي الصحراوي، في نطاق الحدود السياسية المغربية، واستجلاها محمد البندوري من خلال الوثائق والشواهد والمراسلات الموسومة بالخط المغربي الصحراوي التي كتبت بأنامل المبدعين الصحراويين المغاربة. إن مجموعة من المراسلات التي تمت بين الملوك المغاربة وبين أعيان الصحراء منها على سبيل الذكر لا الحصر مجموعة الرسائل التي تمت بين شيوخ وأعيان الصحراء والملوك العلويين كرسالة القائد ابراهيم التكني إلى السلطان مولاي عبد الرحمان المؤرخة في فاتح ذي القعدة 1263هـ ورسالة الشيخ ماء العينين إلى السلطان مولاي عبد العزيز، والوثائق التي نشرها العالم والشاعر الأستاذ ماء العينين لابارس في بحثه الذي قدمه في ندوة البيعة والخلافة، والوثائق التي نشرها العالم الجليل محمد المنوني رحمه الله.. وغيرها من الوثائق والنصوص الأدبية والدينية والقصائد الشعرية المختلفة كأشعار الشيخ ماء العينين وغيرها. ومن خلال تلك الوثائق الصحراوية ووثائق أخرى قارن محمد البندوري فيما بينها حيث تبدت مجموعة من التطابقات من حيث الجماليات ومن حيث الخط ومن حيث الشكل تفصح عن علاقة التجاور بين الخط المغربي المجوهر والخط المغربي الصحراوي مما يدل على الوحدة الثقافية والسياسية المغربية.

وفي سياق آخر فقد اختلطت بعض المفاهيم في المنظومة الحروفية المغربية لدى العديد من الدارسين والباحثين، واستتبع ذلك بناء مجموعة من المعلومات على أسس خاطئة، فخلطوا بين المسند المغربي والمسند الحميري، وخلطوا بين خط الزناتي وخط الزمامي، وخلطوا بين (الخط العثماني) الرسم العثماني والخط المغربي المبسوط، فأخذ بتلك الأخطاء العديد من الباحثين وعامة الناس فشاعت الأخطاء حتى أصبحت حقيقة لدى البعض. وقد قام محمد البندوري بتصحيح ذلك من خلال مجموعة من المقاربات والمقارنات، ومن خلال تقديم صور لشواهد مادية لإثبات صحة ذلك أو نفيه.

 

مراد مربوح - باريس

 

في المثقف اليوم