قراءة في كتاب

حاتم حميد محسن: التقدم الأخلاقي في الأوقات المظلمة

في كتابه (التقدم الاخلاقي في الأوقات المظلمة) يدعو الفيلسوف الألماني ماركوس جبريل الى تنوير جديد مرتكز على قيم عالمية، مجادلا ان الدولة الديمقراطية المرتكزة على القانون هي أداة هامة لتشجيع هذا "التقدم الاخلاقي". أهداف الكتاب مثيرة للاهتمام، لكن الكاتب نجح فقط جزئيا في توضيح ما ينطوي عليه التنوير الجديد وكيفية تطبيقه في المجتمعات الديمقراطية.

الواقعية الأخلاقية

الكاتب جبريل هو واقعي أخلاقي، يزعم بموضوعية الحقائق الاخلاقية، وعالميتها، وإمكانية المعرفة بها من جانب الكائن البشري – رغم انه يعترف بانه في "الأوقات المظلمة" يمكن ان تُحجب تلك الحقائق بسبب الأيديولوجية والبروبوغندا وعلم النفس والإستغلال.

طبقا لجبريل، الحقائق الأخلاقية لا تُبرّر من جانب الله او العقل الانساني او التطور، وانما تُبرر "بذاتها". هي "مختبئة جزئيا" وتتطلب رؤية ثاقبة ليتم اكتشافها في الظروف المعتمة.

الواقعية الأخلاقية هي تقليديا تقف بالضد من النسبية الاخلاقية، التي تفترض ان الاخلاق تعتمد على معايير ومعتقدات وممارسات في زمان ومكان معيننين. وهكذا يلوم جبريل " الفكرة غير المتماسكة والخاطئة والخطيرة سياسيا بان الاخلاق هي في افضل الاحوال تعبير عن انتماء المرء لجماعة اجتماعية او غيرها". هو يدّعي ان هناك مبادئ اخلاقية مرشدة لسلوك الانسان تتمدد عبر الثقافات، وان لها صلاحية لا تعتمد على كونها معترف بها من غالبية الناس.

علم النفس التطوري هو عنصر أساسي في جدال جبريل، رغم انه لاحقا في كتابه يبعد نفسه عن النظريات التي تفترض ان الأخلاق يتم استقرائها من السلوك الغريزي. هو يربط علم النفس التطوري بقدرتنا على تمييز الحقائق الأخلاقية دون افتراض توضيح تطوري لتلك الحقائق.

طبقا لجبريل، ان المرء "يشعر بمعيارية القيم" من خلال التنشئة الاجتماعية. التعاطف يمكن ان يحدث عندما يكون الناس مع بعضهم. "هناك رباط انساني يمكن ملاحظته تجريبيا". ورغم اننا نميل للخطأ عندما نتخذ قرارات في المواقف الصعبة، لكن وجود مجتمعات انسانية مستقرة نسبيا هو برهان على ان الناس لايمكن ان يكونوا أشرارا كليا. نحن يجب ان نعرف ونكون قادرين على عمل بعض الاشياء الصحيحة أخلاقيا.

يوم الحساب

بعيدا عن الرغبة في تجنب النسبية التاريخية والثقافية، فان الموقف الذي يرغب جبريل تبنّيه يبقى وهميا وبعيد المنال. تفسيره للواقعية الاخلاقية لم يتضح بما يكفي. التنوير الأخلاقي الجديد هو مفرط بالتفاؤل وان أي محاولة للتنفيذ ستكون شائكة. كتابه يحاول القيام بالكثير ويعالج عدة قضايا. فيه الكثير من التجوال الاستطرادي والاسلوب القصصي الخالي من الحجج الصارمة. أفكاره الاساسية متناثرة على طول الكتاب. الكتاب مليء بأمثلة عن الحياة الواقعية ذات النطاق العالمي لكنها تضع ثقلها في المجتمع الألماني. كل هذا يترك القارئ يتسائل حول ماهية هذه المواقف بالضبط وكيفية دعمها. الحجة الوحيدة التي يعرضها جبريل – والتي يسميها "حجة جديدة" – تعتمد على تجربة افتراضية سميت "يوم الحساب". هو يسألنا لننظر ما هو رد فعلنا لو كنا نواجه يوم الحساب وكان الله أثنى علينا لقيامنا بكل الأشياء السيئة وعاقبنا على الاشياء الجيدة. نحن سنجد هذا الحساب غير مفهوم. عندما تكون أحكام الله ليست على اتصال مع أحكامنا  فسوف لن يكون إلهاً. هذه التجربة الفكرية لا تفترض بالطبع الوجود الحقيقي لله لكن جبريل يقترح سيناريو يُظهر ان "الحقائق الأخلاقية واضحة جدا، ونحن نستطيع تمييز ما يجب ان نقوم به حتى مع وجود صعوبة أحيانا".

الشعبوية وسياسات الهوية

جبريل يقوم فعلا  بتوضيح بعض النقاط الثاقبة والجديرة بالاهتمام وهي رفضه لسياسات الهوية. يعتقد جبريل ان العلوم الاجتماعية الحديثة علّمتنا ان أفكار الـ "عادي" و "الشائع" هي "تبسيط غير مسموح به للواقع الاجتماعي". مع ذلك، نظرا لأن الحياة اليومية تجري بسلاسة على أساس التوقعات القائمة، فاننا نأخذ نمط الحياة المألوف كالطبيعة ذاتها. يؤكد جبريل "عدم وجود صفة عادية تُطبق على كل المجتمع". ومع هذا " يتأثر المجتمع بمختلف الأحزاب والمؤسسات وجماعات النشطاء لتبرير مسارات الفعل".

هذا هو ما يسميه جبريل بـ "الشعبوية". الشعبوية هي عندما يرتبط الوضع الطبيعي المفترض بـ "الناس". المشكلة في الشعبوية هي انها تنتج "صورة خيالية مشوهة للوضع الطبيعي". جبريل لا يربط "الشعبوية" فقط بجناح اليمين. محاولات جناح اليسار في إعطاء صوت للأقليات بسبب انها أقليات اعتُبرت "غير متماسكة بنفس المقدار". كل من اليسار واليمين يُلامون على الانخراط في "مناورات نسبية في حرب الهويات الثقافية".

سياسات الهوية، حسب جبريل، تؤسس أنماط بين "الهويات" وتوزيع الموارد المادية والرمزية. هذه الانماط او النماذج تُستعمل فيما بعد لصياغة قواعد إرشادية سياسية. لكن هذه طريقة خاطئة لأن مثل هذه "الهويات" غير موجودة حقا. سياسات الهوية تعتمد على "نشر الصور النمطية". انها تنسب السلوكيات الفردية الى جماعات اجتماعية معينة. وبما انها تشويه للواقع، فان الانماط هي وسيلة غير مناسبة للتفاوض بشأن الصراعات. انها ايضا خطيرة كونها تشجع التحيزات ضد جماعات معينة  محرومة من الموارد. يرى جبريل ان الحماس شبه الديني لسياسات الهوية، الذي يبرز من الهويات الاجتماعية النمطية يصبح مشحونا ميتافيزيقيا . وهكذا، فان التقدم الاخلاقي يهدف الى تفكيك نظام الصور النمطية. سياسات الهوية يجب التغلب عليها في ضوء قيم أخلاقية عالمية. وبينما من الجيد ان الناس يقاومون التمييز القمعي، لكن اولئك الذي يصارعون يجب ان لا يسعوا للحفاظ على الهويات. الهدف هو التغلب على مثل هذه الهويات بقدر ما هي تجرد الناس من انسانيتهم.

يرى الكاتب "لا يجب لمنْ يكافح ضد القمع الظالم ان يمتلك هدف قمع الظالمين  بشكل غير عادل" .

سياسات الإختلاف

بالضد من سياسات الهوية، يدعو جبريل الى "سياسات الإختلاف". هذا هو اعتراف بان "كل فرد هو الآخر للآخر". اي انه  يفترض وجود علاقة تكاملية وتفاعلية فيها كل شخص هو مرآة للأخر.سياسات الاختلاف هي ليست مسألة  تسامح مع مختلف الهويات، انها تتطلب منا ان نفهم الاختلاف كسمة لإنساتيتنا المشتركة.

لكن الإعتراف بالاختلاف هو فقط أول خطوة ضرورية نحو التسامح. انه يبقى غير كافي لأنه يبقى محتفظا  بفكرة الهويات. هذا يجسد الصعوبات العملية في موقف جبريل. يرى جبريل بانه اذا لم يكن للعرق أساسا بايولوجيا، عندئذ لا يمكن ان يكون أساسا لمنح حقوق خاصة. هدف التقدم الأخلاقي هو تحقيق "عمى الالوان". وهكذا فان الجماعات المضطهدة في الماضي على أساس "عرق" وهمي هي غير مؤهلة أخلاقيا لإدامة العرقية كي تخفف من أضرار الماضي.

واذا كان هناك دور في المجتمع لثقافات تذكارية، نحن لا يجب ان "نحوّل الهراء العنصري الى نمطية ثقافية وإدامة هذه تحت شعار ثقافة الأمر الواقع غير الموجودة". طبقا لجبريل، نحن جميعنا نحتاج لتدريب أنفسنا من خلال التفكير الاخلاقي لنصبح واعين بنمطيتنا ونحاول منعها من التأثير على أفعالنا. لكن بينما العرق غير موجود، فان العنصرية موجودة. هناك "تجربة مُعاشة" للتمييز العنصري تمارسها بعض الجماعات. انه من غير الواضح كيف يساعدنا جدال جبريل في التفاوض على القضايا السياسية العملية والعيوب المادية الراسخة والتي هي نتيجة لهذا الميراث التاريخي.

 نفس الشيء، على الجبهة الاقتصادية، جبريل لا يرفض الرأسمالية بحد ذاتها، رغم انه فعلا يرى ان "اقتصاد السوق الاجتماعي " متفوق على " الليبرالية الامريكية الجديدة "المستهجنة أخلاقيا"،التي لا تُستعمل فيها الثروات المفرطة للقلة من قبل الدولة لتحرير الآخرين من "الفقر والعوز واليأس". الهدف، كما يرى، يجب ان يكون تطوير نظام للتوزيع العادل والمستديم. ايضا جبريل لايتفق بان الأغلبية المحرومة مؤهلة لوضع أنظمة تحرم الأقلية الثرية. هو يزعم بانه من الخطأ مهاجمة النخب اذا كان هدفك ان تكون عالميا. سيكون من المفارقة للعالمي مهاجمة النخبة لأن المهاجمين سيكونون في الحقيقة من الساعين الى "إحصائية عالمية زائفة" لهوية جماعتهم.

الروح

اذاً على أي شيء ترتكز عالمية جبريل؟  البايولوجي وعلم النفس التطوري يبيّنان ان الناس هم حيوانات متكيفة تشترك بـ "شكل البقاء". الطفل الرضيع المنتمي لأثنية معينة الناشيء في ثقافة لأثنية اخرى سوف يتعلم اوتوماتيكيا لغة وثقافة سياقه الاجتماعي. هذا اعتُبر تكذيبا للانماط العرقية. لكن الناس ليسوا فقط حيوانات طبقا لجبريل. ما يفصل الناس عن الحيوانات الاخرى، يتضمن شيئا واعيا وهو "الروح". بالنسبة لجبريل، هذه ترقى الى المقدرة على ممارسة نوع من الفردية الحرة المفكرة ذاتيا حالما يحصل لها تموضع جغرافي وتاريخي وثقافي واجتماعي.

تصوراتنا الذاتية الفردية مرتبطة بـ "هويتنا الوجودية". أشياء معينة هي "مقدسة" لنا كالافراد. نحن لدينا "حاجة وجودية لمعنى الحياة غير قابلة للتصرف". هذه العوامل تشكل ما يسميه جبريل "الثابت الانثربولوجي". ما يوحّد الناس هو اننا بالطبيعة محدّدين للذات. لهذا، مختلف جماعات الناس لديهم من المشتركات اكثر مما تقترحه سياسات الهوية .

عتمة الروح

يرى جبريل، ان الانترنيت ساهم بشكل هائل بـ "عتمة روحنا". التقدم الاخلاقي يواجه تهديد من جانب "التشوهات الرقمية"، التي تُضعف معرفتنا بالحقيقة والمعرفة والأخلاق. الإعتماد على الانترنيت يمكن ان يقودنا الى إعتبار الحقائق الاخلاقية الواضحة، مثل احترام الآخرين،كشيء غير صالح. الاستجابة لمشكلة جائحة كورونا تمثل تقدما أخلاقيا. الغالبية العظمى من الناس قبلوا بالإغلاق لأسباب أخلاقية: هم اعتقدوا ان الإغلاق سيحمي الضعفاء ويساعد أنظمة المستشفيات.

الوباء ايضا جعل هياكل المجتمع أكثر وضوحا. انه سلط الضوء على أهمية الاتصالات الشخصية وكشف ضعف تمويل مجهزي الصحة. يعتقد جبريل ان تقدم ما بعد الوباء سوف يتطلب من المجتمعات ان لا تعود الى "الاستهلاك القهري وما يرتبط به من رأسمالية منهكة". هو ينتقد الليبرالية الجديدة بافتراضها ان التقدم يمكن تحقيقه عبر ترك القرارات الى السوق. المشاكل المتصلة باقتصاد السوق الحر- اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية الهائلة، وسلاسل التجهيز العالمية المستغلة، والأضرار البيئية – تُظهر الحاجة الى "إعادة تنظيم اقتصاد السوق الاجتماعي".

اقتصاد السوق الانساني اعتُبر ممكنا على خلفية ان الناس قادرين على عمل قرارات مسترشدة بالعدالة والتعامل المتبادل. لكن الشكل الأخلاقي لإدارة الاقتصاد ينجح فقط، تبعا لجبريل، اذا استرشد بمبادئ اخلاقية تأخذ بالحسبان رؤى من العلوم والفن والدين وتجارب الحياة. إعادة التنظيم يجب ان تتم باسم "الاستدامة". الهدف هو لتطوير حياة جيدة ومستدامة، بدون خفض الازدهار. الازدهار ذاته يجب ان يعاد تعريفه بحيث لم يعد مجرد تراكم في النقود والسلع.

الإستجابات لوباء كورونا بيّنت ان الديمقراطيات قادرة على عمل قرارات اقتصادية صعبة على اسس اخلاقية. في ما بعد الوباء، تكون المهمة  للدول القومية هي ان تطور مجتمعة قيم عالمية وأشكال من التعاون غير مرتكز فقط على منطق السوق. ينهي جبريل الكتاب برؤيته لتنوير جديد. هو يناشد الناس العاديين لإحداث التغيير، اولاً في سلوكهم الخاص ومن ثم عبر تجسيد رأيهم من خلال مغادرة المؤسسة او التوقف عن استعمال او شراء شيء ما. "نحن جميعا يجب ان نلقح أنفسنا مجتمعين"، "ضد السم الروحي الذي يقسمنا الى ثقافات وطنية وأعراق وفئات عمرية وطبقات ويحرض على التنافس بيننا".

"نحن يجب ان نعترف بان سلاسل العدوى للرأسمالية العالمية التي تحطم طبيعتنا وتنتج سخافة أخلاقية لدى مواطني الدول القومية،والتي تحوّلنا الى مستهلكين وسيّاح طوال اليوم، سوف بالنهاية تقتل من الناس أكثر مما تفعل الفايروسات مجتمعة.

***

حاتم حميد محسن

.........................

* كتاب التقدم الاخلاقي في الأوقات المظلمة للكاتب والفيلسوف الألماني ماركوس جبريل صدر عن دار نشر polity بتاريخ 13 شباط 2023 في 280 صفحة. الكاتب يعمل كاستاذ للايبستيمولوجي والفلسفة المعاصرة والحديثة في جامعة بون وايضا مدير المركز الدولي للفلسفة في بون.

في المثقف اليوم