قراءة في كتاب

علي حسين: لماذا علينا ان نقرأ هذا الكتاب؟

يكتب جون ستيوارت ميل في سيرته الذاتية: "بقراءتي كتاب توكفيل، بدأ التغير في نموذجي السياسي من الديمقراطية الخالصة كما يشيع فهمها بواسطة مناصريها، إلى الشكل المعدل منها". ويؤكد ميل أن توكفيل قدم تناولاً أكثر إقناعا عن مميزات الديمقراطية، لأنه على الرغم من قبوله لحتميتها، فإنه أشار إلى كيفية علاجها، وقد حاول توكفيل أن يحمي الديمقراطية من الشكل الاستبدادي للحكم، وهو الحكم المطلق لرئيس السلطة التنفيذية، فهو يرى أن ذلك يشكل خطراً حقيقياً في المجتمعات الحديثة.

ولد ألكسي دي توكفيل، بعد فترة قصيرة من قيام الثورة الفرنسية لأسرة غنية، وعاش من 29 تموز عام 1805 وحتى 16 نيسان عام 1859، وقد كان مرتبطاً بالنظام القديم بسبب أسرته، وبالنظام الجديد من خلال رؤيته للحرية، وقد شهد دخول الديمقراطية إلى فرنسا وتنبأ بأنها ستنتشر في جميع أنحاء العالم، نجا والده من مقصلة الثورة الفرنسية، وصودرت أموال أسرته من قبل الثوار مما أصاب والدته بالكأبة، وكان مستقبل الكسي مجهولاً بسبب الثورة التي طاردته أشباحها وهو في سن الشباب ونراه يتساءل: لماذا قامت الثورة؟ وما الذي جاءت به؟ وما هي بالضبط آثارها الباقية على الحياة الفرنسية؟ كانت هذه التساؤلات من أبرز الموضوعات التي اهتم بها توكفيل في كتاباته..

كان الكسي محباً للقراءة. ولم يكن تلميذاً نابهاً فقط، وإنما كان عميق التفكير قال عنه الأديب الفرنسي الشهير سانت بوف، إن توكفيل من ذوي العقول التي تفكر قبل أن تتعلم، ولأن توكفيل ينتمي الى أسرة ارستقراطية كانت التقاليد تقضي بان يشغل وظيفة عسكرية كما فعل أخواه الأكبران، غير أن والده كان يحلم بان يشتغل ابنه الصغير في وظيفة سياسية، وفي ذلك الوقت كان الابن يدرس القانون، ويطمح أن يقضي بالقانون على بعض الأعمال الخاطئة، ومنها قضية المبارزة التي كانت تعتبر من الأعراف القومية، حيث طالب بان يحل الناس خلافاتهم بطرق بعيدة عن العنف فكتب: "أعد صنع الإنسان قبل أن تعيد صنع المواطن.. حينها سيصبح لديك قوانين فعالة". عام 1827 أصبح توكفيل قاضياً تحت الاختبار، بعد ذلك كان عليه أن يترشح الى منصب رسمي، لكنه لم يستمر طويلاً في عمله حيث تم إيفاده الى أميركا للقيام بدراسات عن النظام الإصلاحي عند الأميركان. ففي العاشر من أيار عام 1830 نزل على شاطئ نيويورك شابان فرنسيان، هما الكسي دي توكفيل وغوستاف دو بومون. كان توكفيل في الخامسة والعشرين من عمره، ما يزال قاضياً متدرباً، لكنه يشعر في قرارة نفسه بأنه خُلِق لمهنة أخرى غير مهنة القضاء، ولهذا ظل يبحث عن مخرج لارائه السياسية، حيث لم تؤد الثورة في فرنسا مهامها بشكل صحيح، مما زادت في رغبته لدخول حقل جديد من العمل تتحقق فيه الأفكار، والفرضيات، والآمال. وما أن وطأت قدماه الولايات المتحدة الأميركية، حتى فكر في هذا المجتمع الجديد، ووجد فيه حلاً ناجحاً لمشكلتي الحرية والمساواة التي ماتزال بلاده فرنسا منذ عام 1789 تتخبط فيهما. بعد عام من الإقامة قرر أن يكتب عن الديمقراطية في أميركا، وأن يقدم للفرنسيين مفهوم الديمقراطية دون زيادة أو نقصان، ولعل العامين الذين ألف فيهما توكفيل القسم الأول من كتابه الضخم "الديمقراطية في أميركا" كانت أسعد الاعوام في حياته مثلما يخبرنا في يومياته. فقد كان يهب نفسه بأكملها لعمله، وكان يحبس نفسه طول النهار لينتهي من تأليف كتابه، وخلال هذه الفترة قرر الاستقالة من القضاء، وانشغل بمراجعة الكتب السياسية المهمة وهام شغفاً بمونتسكيو وكتابه روح الشرائع، وبعد عامين سيصدر الجزء الأول من " الديمقراطية في اميركا " ليكتب صديقه القاضي بومون: "ربما كان لا يسعنا أن نقارن به أي شخص آخر في ايامنا"، وفجأة يصبح مشهوراً وتكتب الصحافة إن هذا الكتاب لرجل عمره أقل من ثلاثين عاماً صار مشهوراً في لحظة مثل البرق، وانقسم المجتمع الفرنسي حوله، ففي أوساط اليمين كان ينظر إليه على أنه عمل لرجل ارستقراطي فاشل، ويوصف بأوساط اليسار بأنه شخص ديمقراطي، فيما تُرجِم الكتاب الى جميع اللغات، واعتبره الأمير كان أيقونة في السياسة الحديثة، فالشاب الذي لم يقم في بلادهم سوى عام واحد استطاع أن يدرك روح مؤسساتهم ودوافعها إدراكا بالغ الروعة، ووصفها وصفاً دقيقاً الى حد إنه تمكن من كشفها لهم، وقد تعرف الإنكليز في شخص توكفيل على سلالة مونتسكيو الفكرية والاجتماعية، فغمروه بالمديح، وعندما قرر مجلس العموم الانكليزي التحقق من ضمانات التصويت في الانتخابات، لجأ الى شهادة توكفيل باعتباره أكثر المفكرين قدرة في مجال الحرية السياسية.

بعد خمسة أعوام سينشر القسم الجزء الثاني من الكتاب والذي يلخص فيه الأثر الذي مارسته الأفكار والعواطف الديمقراطية في المجتمع السياسي.

وليست أميركا هي التي يقدمها لنا توكفيل في الكتاب، فهي مجرد إطار لموضوع أكبر هو الديمقراطية بشكل عام. وضع توكفيل، كتاب الديمقراطية في أميركا، عندما كانت أميركا لاتزال أمة شبه مجهولة في العالم، تبحث عن هويتها ومكانتها،، وقد رأى بتحليله العلمي، ما لم يره المفكرون الآخرون، حيث وضع منذ البداية لنفسه مهمة هي اكتشاف اميركا ونظامها الجديد، وعنصر المساواة الذي يشكل محور سياساتها وحياة مواطنيها. وفي طريقه كان لا بد للكاتب من أن يقيم مقارنات مع ما هو حادث في القارة الأوروبية، مبشراً بوصول الديموقراطية الأميركية إلى العالم، باعتبارها تحمل أول نظام مساواة وتكافؤ للفرص حقيقي في تاريخ البشرية.

في رسالة بعث بها عام 1835، أي يوم بدأ بإصدار كتابه "عن الديموقراطية في أميركا"، كتب دي توكفيل إلى احد اصدقائه، رسالة جاء فيها: " ان عالما جديدا تمام الجدة ينشأ امام اعيننا، لابد له من علم سياسة جديد ".

ان المجتمع الارستقراطي، مجتمع الامس، قد مات. لقد كان قائما على اساس التفاوت. ولهذا لابد من وجود مجتمع ديمقراطي، ينتصر في النهاية على انقاض النظام القديم، ويكون قادرا – بشرط ان يحسن تكزينه وتوجيهه نحو العمل الهاديء – على ان يؤمن للبشر سعادة أسمى.

كان توكفيل قد كتب الى والده وهو في اميركا: " فكرت كثيرا فيما يمكن ان اكتبه عن اميركا. إن محاولة تقديم صورة كاملة عن هذا الاتحاد لهي مشروه غير ممكن على الاطلاق ان يقوم بها رجل لم يقض سوى عام في هذا البلد الكبير. وانا اؤمن ان هذا العمل سيكون مملاً وغير ذي قيكة ثقافية، ومن ناحية اخرى قد استطيع بواسطة انتقاء الموضوعات، ان اطرح فقط الموضوعات التي ترتبط ارتباطا مباشراً إلى حد ما باحوالنا الاجتماعية والسياسية ".

قسم دي توكفيل كتابه قسمين، قدم لنا في الجزء الاول تحليل للعالم السياسي للولايات المتحدة الاميركية، وفي الجزء الثاني وصف للقارئ التشريعات والحياة العامة في هذه الولايات، وقد حدّد توكفيل المساواة باعتبارها العنصر الرئيس للحياة في أميركا، وقاعدة الدستور فيها، وبصفتها أيضاً نمط حياة اجتماعية ودينية. وكانت كلمة المساواة هي المدخل لدراسة الديمقراطية في اميركا، وهو يشير الى ان نظام الحرية الفردية، على رغم من بعض أخطاءة فانه يلعب دورا في التطور السياسي والإقتصادي، ويساعد على التقدم والنمو،، لكن توكفيل ينبهنا الى ان هذه الصورة الوردية التي يقدمها لا تخلو من مصدر للقلق والخوف على هذه التجربة، وهذا الخوف يتأتى من خطر المركزية المتزايدة التي قد يكون من شأنها إن تفاقمت أن تستعبد البلد كله لحساب أكثرية ما- اكثرية غنية مثلا.. او شركات احتكارية - أما نقاط الضعف الأساسية في هذه التجربة فتكمن في ترجيح كفة التصنيع دائماً على حساب الزراعة، وعدم وجود تماسك حقيقي في العائلة، فقد كان توكفيل يرى أن التماسك العائلي والتعاون الاجتماعي هما الوحيدان القادران على إعطاء اي مجتمع نوع من الصلابة. وفي غيابهما، لن يكون من المستحيل تحوّل الديموقراطية إلى طغيان.

حقق الكتاب حال صدوره في شهر كانون الثاني من عام 1835 نجاحا ثقافيا وتجاريا. وكانت المفاجاة التي تنتظر الناشر الذي اصر على طبع 500 نسخة من الكتاب، ان هذه النسخ نفذت في الايام الاولى، لتتواصل طبعات الكتاب وبكميات كبيرة، حيث صدرت سبع طبعات في سنته الاولى. ظل توكفيل يمسك براية الديمقراطية التي يرى انها تواجه شبح استبداد من نوع جديد، ففي كانون الثاني من عام 1848 القى خطبه في مجلس النواب، اخبر فيها بكل شجاعة النواب بانهم لايهتمون بشيء خارج نطاق مصلحتهم الشخصية، وانهم لايتمتعون بحب المصلحة العامة، ولا يساحقون ان يحتلوا مواقع القيادة بأي حال من الاحوال. واخبر توكفيل النواب انهم نائمون على بركان، وان العمال سيخرجون في موجات من الغضب قريبا، وهذا ما حدث بعد اشهر، وكان توكفيل يرى ان الحكومة ليست المتسبب الوحيد في ذلك، وإنما الطبقة الحاكمة باسرها: " إن السبب الأساسي والفعال وراء سقوط الناس من على كراسي السلطة هو كونهم غير جديرين بها ".

في سنواته الاخيرة عاني توكفيل من الامراض، حيث اصيب بمرض رئوي، وقبل وفاته بايام يكتب: ط حياتي كلها صراع من اجل اشياء لن استطيع أن احصل على أي منها كاملاً". وقد توفي توكفيل في السادس عشر من نيسان عام 1859 قبل ان يبلغ الرابعة والخمسين من عمره، وقد قال لزوجته وهو على فراش الموت: " لا تحدثيني عن الاعتراف أبداً، أبداً، أبداً، فلن يستطيع احد ان يجعلني اكذب على نفسي وأدعي الايمان وانا غير مؤمن. اريد ان اظل توكفيل، ولا أقع في الكذب ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم