قراءات نقدية

قراءة في نص فلسفة قمع العزلة للشاعرة ريف حوماني

ahmad alshekhawiمن خلال لوحة شعرية نادرة و مغايرة تماما لما عوّدتنا عليه الشاعرة ريف حوما ني، هاهي تختار لعزلتها الإبداعية بيتا من زجاج في بيئة صخرية قاحلة وحاضنة للأوجاع الخاصة، حتى ليكاد المتلقي يستشعر رطوبة الدمع المنسكب من روح شاعرية مرهفة شفافة تتخذ من الإيروتيكية سلاحا لقمع العزلة الأخرى، الوجدانية تحديدا.

كسوق قائمة

الأرجح أنها أرادت قاتمة بدل قائمة، كسوق قاتمة، قد يعلل هذا القصد ما يلي مطلع النص :

كدجية من الآهات

كحلاوة سم يتجمع في السديم

كحب تقاويناه وتعمدناه على شفير هاوية

كشغف يقوم للهواء قانتا ويمسك عن الكلام

كتمدد أعضائي عند امتلائها بآسن الفراغ

كخميس الفردوس الذي يتحسس أوهامي ونهاياتي المشلولة

كإفرازات تخرج قضبانا من الشوك من أمعائي وتشتهي فحلا من فحول الفقدان

هكذا يحمل الوجع على الوجع

باستثناء لفظة” تقاويناه” والتي لم أعثر لها على أثر لا في قاموس للمعاني ولا في غيره، وبصراحة، شاعرتنا متهمة بالإقحام العبثي والإعتباطي للفظة كهذه،اللهم إذا كانت تنزيلا دارجيا أو عاميا، وأستبعد أن يندرج هذا ضمن الأخطاء المطبعية أو التقنية، وهنا تطرح جدلية المنبر المتخصص الحريص على انتقاء المواد التي ينشرها، وغيره من المنابر المتسمة بحشو بياض مساحاتها لا أكثر.

ولنكون أكثر إنصافا، لا بد من التأكيد على أننا بصدد نص متميز نابض بالمناقب وإن ضؤلت مثالبه، لذا تعتبر عثرة كالتي ذكرت، لا شيء إزاء مجهود مضني استغرقته الشاعرة في إنجاب مولود جمالي آسر يستحق الدراسة والتقييم.

تستهل ريف قصيدتها،بل وتتمادى في إمطار المتلقي بوابل من التشبيهات، كي تضمن استقرار رسالتها/ فكرة وإحساسا، في وعيه، أي القارئ ومن ثم مشاطرته الهم الشخصي . القارئ كامتداد للذات الشاعرة، للنص.

لتقريبنا من الصورة الدرامية التراكمية للوجع كما تعيشه صاحبة النص، طعّمت بوحها بلغة جسدية مستفزة في استحضارها البعد الجنسي المغلف بالخطاب الفلسفي قصد إرساء مواقف جريئة من الحبيب الغائب، كما سوف يأتي، كأنموذج ــ ربما ــ لضرب من الضلوع في تشويه سوق العواطف فإذا هي قاتمة مفضية إلى الفراغ والهاوية والشلل والفقدان.

هنا العزلة أنأى ما تكون عن حالة مرضية إكلينيكية،ولو أن المستفاد من” كحلاوة سم…” ظاهريا، يؤيد هكذا طرحا، بقدر ما هي عزلة إبداعية تمنح انطباعات التعايش مع المعاناة،وتصبّرا يتيح اكتساب مقومات الشخصية الواعية والقادرة على قمع العزلة الوجدانية عبر اغتنام الذات انتهاء.

حتى ليغدو لشعور إنساني نبيل، الشغف، فرط الود، طقسه التعبدي حدّ السكرة الملكوتية الدالة عن ارتقاء روحي /قانتا ويمسك عن الكلام . العبارة أو الصورة مقتبسة من المقدس المحيل على أمر إلهي موجه إلى زكرياء بعدم تكليم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا.

هكذا تفوتني يدي كلما حاولت لمس الأثير

هكذا أقعقع مفاصل اللغة المخلعة وأضغطها في جمجة حبيبي

كيما أدور عبودية الهواجس التي تجدد فجيعتي

من يكشف قناع شراييني وما يسير في ركابها من الحنين..؟

لم يكن الثوب الثخين المبقع بالدم سوى تماسك امرأة ثدياء تنخس كبد السماء

بحلمتيها

وبمغرزها الأبدي

هكذا يحمل الوجع على الوجع

على نحو ارتجالي تسترسل الشاعرة في بوحها المرتكز على استدعاء كمّ من الكلمات الطنانة الدالة على صخب الإيقاع. تطلق العنان للمخيال،وكأنها تكتب ما يرضيها هي، لا الآخر، وهي كتابة أنوية ناجحة معبرة ومؤثرة في نفسية المتلقي بكل تأكيد.

فهذه الوحدة الشعرية المتربعة على مساحة بينية اقتضت ـــ ربما ــ اختزال أبعاد النص، فيها،وتأطيرها بلازمة التباهي بحمل تراكمات الوجع/هكذا يحمل الوجع على الوجع . وجع العزلة كنسيج رمزي لفراغ سوق الشاعرة العاطفي من الحضور الفعلي للحبيب.

تستمر التشبيهات مع إقحام أداة محاكاة جديدة/هكذا، وتتسارع وثيرة تعرية الجسد عبر لغة جنسية مشوقة ومرغبة في تلقف رسائل هامسة ملامسة للتجربة الشخصية عاكسة لقناعات ريف حوماني.

دائما وضمن هيمنة للجسد/تفوتني يدي،الأثير كمرآة لفضح الذات الشاعرة،كونه الأنسب لصيحة وجدانية مدوية تناجي أطياف الحبيب كمصدر للهواجس يجدد الفجيعة ويولّد امرأة هلامية بأبديتها وبحلمتيها

تتنطع لتبلغ كبد السماء، ويا لروعة هذه التعبيرات المجازية . امرأة قرينة من دم آدمية تبقع حياتها وواقعها مرارة غياب من تهوى.

ولفظة ” المخلع” توحي بتشبع الشاعرة بالموروث المسيحي، فاللفظة لها ارتباطاتها الكنائسية الأرثودوكسية، أحد المخلع، الأسبوع الخامس للصوم الكبير.

كالقهقري من نوبات القبل التي تقهم على الشفاه عصيرها

ولهفتها الغوغاء

هو كل ما ترنح على الشراشف الزرقاء من جنون خاسئ

والآنس من حمى اللهيب

والصور المجهرية التي تنمو طولا وعرضا في العظام

والكسور المضاعفة التي لا تجبسها سوى الأنات التي تحترق في ملوحتي

يا حبيبي

ثمة تعاط سردي مثقل بالتشبيهات لاقتراح كيفية معينة وإن في أثواب متقلبة، لامتصاص المأساة،فوحده الحبيب المنادى عليه،قامع عزلة يشوبها اليأس والأنين والترنح على حافة الحنون.

الشفاه في لهفتها الجامحة إلى نوبات من القبل،والجنون الأنيس، والصور المجهرية أو بمعنى آخر،تلكم التفاصيل الليلية للعلاقات الحميمية المتخيلة كما ترسمها إيحاءات الغياب، غياب الحبيب،وكبلسم لها أنات تخفف من معاناة يفرضها راهن جلد الذات،والنقلة المشوهة لمشهد الأنوثة، من ملاحة إلى ملوحة مقززة منفرة ..، سائر هذا أسهم في نسق حكائي مغر وموح فياض بانزياحات أضفت على القصيدة نكهة جمالية تنم عن صوت نسوي حالم يحتفي بالجسد حد التقديس، برغم بعض الخروق التركيبية.

يا قمع العزلة الذي اقتلع ما أفرغته الجدران في سدة رأسي

يا قمع العزلة الذي لم يكن السؤال فيه سوى لمعة جريئة علمتني الإستخارة

واصطفاء أبرد ليالي

يا السبع عشرة عضلة التي قبلتها ألسنة الجدران

لأختنق بديوت الشهوات التي قادتني إلى رهافتي

أي الصلاة أفضل لتفتيت هذا اليأس

الذي يتعدى ولا يتعدى

يتراجع ولا يتراجع

تخفيه العزلة ولا تخفيه

هذا اليأس الذي يمج ما يسمعه ولا يعيه

برغم إسراف الشاعرة لغويا، ولو أنها اقتصدت في تعابيرها، لمنحت نصها حلة أشهى مما هي بادية عليه هكذا،برغم هذا فقد لا مست روح المتلقي وأطفأت بعض فضوله المعرفي.

صدقت، فديوث الشهوات خانق وصانع للشخصية الضعيفة المترددة المستعيرة أجوبة وجودية لأسئلتها من المرجعيات التي تحكم نظرة الآخر في مناحيها الثلاث/الذات والآخر والمحيط.

فالشاعرة تعترف برهافتها واعتمادها على توجيهات الحبيب وتعاليمه في مجابهة اليأس كما تخاله وتتصوره هي، يتجسد في الشيء وضده. وترى في الصلاة علاجا روحيا لليأس، لكنها، أي صاحبة المادة التي نحن بصدد دراستها،تبدي حيرتها عبر تساؤل يفيد أنها لم تزل في طور نقاهة بين الوعي بما ينتج أزمتها واللاوعي محولها إلى حالمة تتفادى الإصطدام بالواقع كما هو، عزلة تكاد تكون مميتة لولا الدور الوظيفي الذي تلعبه الذاكرة حين تستجلب وباستمرار،الحبيب الغائب كرمز لقمع تلك العزلة الوجدانية كما سبق وأشرت.

تتسائل: أي الصلاة أفضل لتفتيت هذا اليأس؟

وكأنه تلميح إلى ضرورة خلق توأمة إسلامية ــ مسيحية وتخطيها إلى ممارسة وتفعيل ميداني كنواة أولية لتشكيل ملامح قمع وإجهاض لأي استشراء جرثومي لطائفية ما أو إثنية أو عرقية أو ما شابه ذلك.

لي شهوتي في السماع وإشباع وقوده كيما تتحمص الآهات

ولي حمضة غريبة تهدهد شهواتي البريئة

إذا مددتها امتدت

إذا مسحتها بالماء صفت

إذا دارت على بكرة أحلامها كورتها بحديدة أحلامي

لي شهوة زدتها خرزة في تاجي

ونمنمة على جناحي

لي في كل ثقبة وخيطها خسرا أو هزالا يذهب إلى أبعد نقطة في رأسي

العبارة المختتم بها نص ” هكذا .. أقمع عزلتي ” (ترجع بي إلى طقس طفولي جميل. فقد كنا ونحن صبية بعد، نقبل وبشراهة على نوع من الحلويات بثقبين وخيط، هو ” إلعب وكل” ومضمون هذا الإشعار فلسفي يملي أهمية اللعب بالنسبة للأطفال.)

طفولة الشاعرة ريف حوماني، كشهوة بريئة، هي الملاذ هروبا بمعنى المواجهة، من عزلة متوحشة، وأكبر قمع لها بفعل الحبيب. طفولة تتفق مع الماء كنافذة إلى تأويلات جنسية تفتح أعين المتلقي على بعض الأسرار العاطفية المغلفة بفلسفة شعرية ترتقي بالجسد إلى ذروة الإهتمامات.

 

أحمد الشيخاوي /شاعر وناقد مغربي/07/08/2015

 

في المثقف اليوم