قراءات نقدية

شعرية الرمز الخمري في القصيدة الصوفية عند الشيخ الحراق

mohamad shadadalharakإن غاية كل صوفي مغرم متيم بحب خالقه، هي الظفر بالمحبوب والاتصال به والفناء في حضرته. ولذلك تجد السالك العارف يستعذب كل أنواع المكابدات والمجاهدات من أجل شهود هذه اللحظة النورانية الخاصة. ويمتد مسار مكابداته سنوات طويلة، يقاسي فيها مرارة الانتظار، ويعيش أحوال التذلل والهيام والخيبة والحسرة واللوعة والغربة والانكسار، حتى يحظى بشرف اللقاء وبمتعة الوصال والأنس. ومن حظي بهذا الشرف فقد نال القبول، وتكشفت له الأسرار، وشهد الحقائق العلوية، وصار من أهل الله وخاصته. وحينئذ يحق له أن يقتبس نورا من جمال المحبوب، الذي هو الجمال المطلق الأزلي، الذي يزري بكل جمال مادي عرضي زائل، وأن تستحم روحه في بحار الفيوضات الربانية والفتوحات اللدنية، فيعيش تجربة جديدة، يفقد فيها وعيه وإدراكه، وينتابه إحساس غريب بالغيبوبة وفقدان التوازن الذاتي وخمول العقل وعجزه عن التمييز والفهم. وقد عبر الصوفية عن هذه الحال بالسكر في حضرة الذات الإلهية. فاستعاروا المعجم الخمري ووظفوا ألفاظه وعباراته للتعبير عن قوة تأثير المحبة على عقل السالك المتيم، ووصفوا بأساليب الخمريات وصورها ضعف العاشق واستسلامه أمام جمال المحبوب، وانغماسه في بحر المحبة الذي لا ساحل ولا قرار له، فتجدهم " يذكرون في عباراتهم الخمرة بأسمائها وأوصافها،ويريدون بها ما أدار اللّه على ألبابهم من المعرفة أومن الشوق والمحبّة. والحبيب في عبارته، عبارة عن حضرة الرسول عليه الصلاة والسّلام، وقد يريدون به ذات الخالق القديم جلّ وعلا."1 وهكذا أسس الصوفية لنوع جديد من الثقافة هي ثقافة السكر الوجداني، وهو نوع من الغيبوبة الحادة الناتجة عن المفعول القوي للخمرة الروحية التي يعب منها -إلى حد الارتواء والثمالة- كل من عرف طعم الحقيقة، وانغمس في محيط الجمال المطلق. كما يقول الشلبي، وهو من كبار الصوفية:

إن المحبة للرحمن تسكرني              وهل رأيت محبا غير سكران

وقد تغنى معظم الصوفية بهذه الخمرة الروحية الأزلية حتى صارت إحدى الخصائص المميزة للتجربة الصوفية ومن لوازمها. ولم يكن أمام الشيخ الحراق بد من أن يدلي بدلوه في هذا الموضوع وقد أخذت منه المحبة الإلهية لبه وعقله، وملكت كيانه ووجدانه. فقد عبر عن انتشائه بخمر المحبة في أكثر من قصيدة، ورسم أحواله وعربدته الصوفية بعدما عب من كؤوس المحبة إلى حد الثمالة. ولما ذاق خمر المحبة ونال الإذن بشربها صارت دينه وملته، وفي ذلك يقول:

أباح لي الخمار منه تفضلا

فإن شئتـها صرفا شربت وإن أشاجناها فصار الشرب ديني وملتي

مزجت لأن الكل في طي قبضتي

   وللتعبير عن انغماسه في متعة العشق وعن لذة سكره الروحي قدم الحراق وصفا دقيقا لشدة تأثيرها على كيانه، مستعيرا التراث الخمري، ومقتبسا من التجارب الشعرية السابقة التي تغنت بالخمر المادية الحسية، وذكرت أسماءها ومتعلقاتها، لكن الشيخ الحراق غيّر هويتها، وجرّدها من بعدها المادي، وأسقط عليها الطابع العرفاني الخالص، ووجهها في اتجاه روحي ديني يعاكس كل تصور مادي، ويرفض كل تفسير سطحي أو تأويل مغرض أو متسرع. يقول في وصف خمرة المحبة:

وخمري أثارت في الجميع ضياءها

مدام تزيل الهم وهي بدنها

تراها بحشو الكأس وهي زجاجة

بها هم ممسوك وقد مسكت به

                   وحقا بأنواع الوجود استبدت

وينشط كل الكون منها بنفحة

ولو لم تكن فيه لذاب بسرعة

تلون كأسي في تلون خمرتي2

وواضح في هذا النص أن الشاعر يستعير من الخمريات الشعرية الموروثة آلياتها التعبيرية والتصويرية، ليقدم صورة فنية شعرية واصفة للتأثير الوجداني الذي تحدثه المحبة في شخصية السالك كلما أصابه الفناء في حب مولاه. وهكذا نجد الشيخ الحراق يستخدم ما درج عليه أصحاب الخمريات من مفردات وتعبيرات مرتبطة بنوع الخمر وآثارها وأدواتها : ضياء/ مدام/الدن/الكأس/ الزجاجة/تلون...

وفي السياق نفسه، نجده يصف حالة أهل السكر الصوفي وعربدتهم وترنحهم، وقد تمكنت منهم خمر المحبة، وأخذت ألبابهم كؤوسها، وغشيت قلوبهم ألوانها ورائحتها. وفي ذلك يقول:

وكسرنا الكؤوس بها افتتانا

وصار السكر بعد الوصل صحوا

                   وهمنا في المدير بلا مدارا

وأين السكر من حسن العذارى3

ولم يقف الشاعر عند حدود وصف حالة السالكين الواصلين للمحبوب الفانين في جماله وأنواره، بل نجده يساير شعراء الخمريات ويحاكيهم في وصف أنوار الخمرة وصفائها، فقد غدت شمسا ساطعة في عقل من تذوقها واستمتع بطعمها، وبذلك معادلا لما يحيط به من أكوان دالة عليه .وفي ذلك يقول:

شمس متى سطعت في عقل شاربها             يصير ذاتا لها الأكوان أسماء

ومعلوم أن وصف الخمر بالشمس هو من التقاليد الفنية التي تطرد كثيرا في التراث الشعري العربي، وقد وجد فيها الصوفية إشارة معبرة مناسبة عن جمال الذات الإلهية، ذلك الجمال الذي سطعت أنواره وأشرق سناه وفاض ضياؤه فغمر الكون وحير العقول. وفي مقدمة هؤلاء الشعراء الصوفية ابن الفارض سلطان العاشقين، إذ نجده يستعين بهذه الصورة الحسية في رسمه لحبه الإلهي بقوله:

شَربنا عَلى ذكر الحبيبِ مُدامةً

لَها البَدرُ كأسٌ، وهي شمسٌ، يُديرها

ولولا شَذاها ما اهتديتُ لِحانِها،

ولَمْ يُبقِ منها الدهرُ غيرَ حُشاشةٍ،

فإن ذكرتْ في الحيّ أصبحَ أهلُهُ

ومِن بينِ أحشاء الدّنانِ تصاعدتْ،

                   سَكِرنا بها، مِن قبل أن يُخلَقَ الكَرْمُ

هلالٌ، وكم يبدو إذا مُزِجتْ نَجْمُ

ولولا سناها ما تصوّرها الوَهْمُ

كأنّ خفاها، في صدور النُّهى، كَتْمُ

نشاوَى، ولا عارٌ عليهم، ولا إثــمُ

وَ لَمْ يبقَ منها، في الحقيقة، إلّا اسمُ4

 

 

ومن شدة اعتماده على التراث الشعري الخمري، نجد الشيخ الحراق يضمن شعره بعض أبيات أبي نواس في حديثه عن خمرته التي استبدت بعقله وقلبه، ويستعير منه عباراته، ويقتبس صوره ومعانيه، كقوله في همزيته:

لج المعاتب في لومي فقلت له

هذا ولا تلتمس برئي بمعتبة

                   (دع عنك لومي فإن اللوم إغراء)

(وداوني بالتي كانت هي الداء)5

وفيها تضمين واضح لقول أبي نواس في خمريته الشهيرة:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء         وداوني بالتي كانت هي الداء

فقد وجد الشيخ في هذه الحال المنزاحة عن العادة من التجليات ومن الأنس والفناء ما جعله يتحدى كل محاولة يائسة لثنيه عن سلوك هذه الطريق، ودفعه لأن يقف في وجه كل من تجرأ على استنكار اختياره، أو كل من عاب عليه منهجه في المحبة والغرام. فهذه الخمر الأزلية بالنسبة إليه هي داؤه ودواؤه، وهي أصل عذابه وسر متعته، وهي سجنه الجميل الذي يحس فيه بانتشاء القلب وبحرية الروح وانطلاقها. وفي هذا المقام الروحاني يدرك المرء الذي اتصل بأسرار الملكوت أن وجوده المادي الطيني مجرد ظل يعكس وجوده الحقيقي المرتبط بأصله الرباني العلوي، ويدرك أنه تلك النفحة القدسية التي فاضت من روح خالقه.

إن السالك العارف المحب حينما تستوطن في قلبه حقيقة الحب الإلهي، وينغرس في وجدانه مطمح الاتصال بالمحبوب، فإنه حينئذ يعيش تجربة حياتية خاصة، ينفصل فيها وجوده عن بعده المادي، وينفلت فيها كيانه من مغناطيس التراب وجاذبية الواقع، يعيش لحظة استثنائية في اللازمان واللامكان، لحظة الحضور والاتصال بعدما عانى كثيرا من أجلها، فتهيم روحه، وتتبلد أحاسيسه، وتشتغل فيه حواس جديدة لا يملكها إلا من أوتي صدق المحبة، وحظي بالقبول ونال الاستئذان لولوج مقام المشاهدة. في هذا المقام تتوالى التجليات، وترفع الأستار، وتنكشف الحقائق، فيرى المحب المخلص الصادق بقلبه وحدسه لا بعينه ووعيه، يرى الجمال الأزلي والنور الرباني، جزاء له على صدق محبته وصفاء طويته. فتتغير أحواله، ويفقد سيطرته على نفسه الفانية في جلال اللحظة النورانية، وينقاد لها باستسلام تام، فتصدر عنه شطحات عرفانية، وتنهمر على قلبه فيوضات ربانية. ولترجمة هذه المعاناة الوجدانية، تجده يرسم هذه الأحوال وهذه الانفعالات الشعورية بريشة الكلمة الشعرية الشفافة المحملة بالإشارات والإيحاءات، ويسطر تجربته أبياتا رقيقة تنبعث منها أنات المحب وآهات العاشق وهذيان الثمل الذي فقد توازنه الذاتي.

 

د. محمد شداد الحراق

.........................

هوامش:

1- شرح ديوان ابن الفارض: الشيخ حسن البوريني والشيخ عبد الغني النابلسي، ج 2/ ص 138-139

2- ديوان الحراق، دار النجاح، الدار البيضاء د.ت

3- م نفسه

4- ابن الفارض ، عمر. الديوان. تحقيق: مهدي محمد ناصر الدين دار الكتب العملية. . بيروت، 2005م.ص:179

5- ديوان الحراق،

في المثقف اليوم