قراءات نقدية

ديوان "غرق جماعي" والتجربة كما ترسمها لغة البياض

ahmad alshekhawiلعل أبرز ما قد يفضي بنا إليه رصد النشاط ـــ أفقيا وعموديا ـــ لمنحنى شعرية مجاميع ما قبل لحظة ميلاد أجدد إصدارات الشاعر العراقي حمدان طاهر المالكي،وأعني تحيدا مجموعة غرق جماعي،عن دار أدب فن للثقافة والنشر، السنة الفارطة،ذلكم المختزل الدال على إدمان مغامرات ارتقاء السلم الروحي ومصافحة الغيب بخطى إبداعية واثقة لا ترضى بديلا عن ثيمة الحلم إذ يغذي عبور الذات إلى آفاق توليد الجديد بل وإعادة صياغته وإنتاجه أيضا.

حتى في مضمار الانقلاب المفاهيمي أو ما يشبه انتكاسة التسمية والتوصيف الموسومة به الأضمومة الأخيرة،باعتبار الغرق ــ ضمنيا ــ واش بفعل هبوط يتيح مسافات غوص رمزي أعمق ما يكون باتجاه الذات الهاوية وعلائقها بجاذبية الألم كمرجعية طافحة بها شتى صور راهن التشنج.

"أقصى ما يمكنني حملتُه

ظهري ليس سفينة نوح.."

عبر كذا مدخل يود شاعرنا صرف اهتمامنا إلى عوالم تحتية وأنأى ما تكون في روح النص الومضة وقد أنتجته رحم الحروب.العملية برمتها ناجمة عن تجربة حية نابضة لم تكتمل ملامحها حتى في خضم الاعتراف بمسلمة كوننا بالنهاية أسرى الضعف البشري والإفقار إلى احتواء مزيد من تراكمات أخطاء التاريخ السياسي الحافل بمنظومة ما نصطدم بترجمته المزلزلة كل حين.

وعبثا نقولب المشهد اعتمادا على كلمة ــ ربما ـــ تستنفذ منا طاقة كاملة ،بيد أن المعنى المجسم لهول شهوة الفتك والجنائزية وسحق إنسانيتنا،يقبع محصنا بزئبقيته المراوغة والمحيرة التي تشرع فضولنا على جنون المشاكسة والإنشاء بزجاج مرارة حتى لا أقول سمّ الكرّة تلو الأخرى..

"ما دامت هذه الأيام أحجارا

سأكون بئرا.."

هو تحجر أيامنا على نحو كارثي يملي انفلاتات جوانية تقترح مكامن تصيّد المعنى المغاير لأنوية ما خارج حدود الآخر كنسخة مهجنة مناقضة للغة نواميس الانتصار للإنسان والطبيعة عموما.

ومن ثم هيمنة مخيلة تقمص أدوار المكون الطبيعي، كبرهان دامغ على ثقافة الرفض والتمرد على السائد والمفبرك غالبا في فرو تسريب تعاليم التعايش مع ألوية الذل والهزائم الوجدانية وطمس الهوية وسائر ما تذيله طقوس جلد الذات انتهاء.

"أتخيل أني شجرة

وأن الظلال معجزتي

العصافير أجراسي

أوقظ بها الصباح

أستدل بها على الينابيع

ولي فيها مآرب أخرى."

هكذا نصير بصدد مفارقة تمتح من ثيمة الحلم، فقط حين تتسارع وثيرة استدعاء النصوص ذات الخطاب المفتوح على اتجاهات عكسية تماما لما قد تهمس به تفاصيل الموضوع الذي قد تختنق به الرؤيا وتتلاشى بواسطته ملامح التشكيل.

يعد الموت ولادة ثانية ،فقط ، في قناع الذود ببسالة عن مبدأ أو قناعة راسخة تستوجب صيانة الحياة الاستثناء في تبنيه لنضال حقيقي يغنم خلوده من الصفحات الأكثر إشراقا في التاريخ.

"أحافظ على حياتي كثيرا

وكثيرا أنساها

أحافظ عليها من الرصاص اليومي

أحافظ عليها من المركبات المسرعة

وأحافظ عليها من الحروب

الحروب التي دوما تتسع

ولا تترك فرصة للتفكير

في حياة أخرى

أحافظ على حياتي

لكني دائما آنساها

مثل حقيبة جندي هارب.."

تتحجر اللحظة وتستفحل إسمنتيتها لتحرض على افتعال فلسفة مغايرة للحياة،تحتم مأسسة مفاهيمها على أرضية للرؤى المتجذرة والتواقة في آن ، إلى التحليق الممكّن من اختراق حجب اللامعقول.

كلون من الاحتفاء العفوي والبسيط بحس الأمومة الهامس بها الوطن المطعون إذ ينزّ بدم صهيل الطفولة.

"أغرس دموعي في خطواتك

ضلالا

لوجوه الصغار."

كضرب من حمى استشعار عبء عنجهية الاغتراب يعزف سيمفونية الهموم الطاعنة بالحنين إلى الوطن على ما هو عليه،الغائر في كواليس الرؤية، المستعصي بنأيه حتى في أقصى حالات اتصاله بذات حالمة تغلي فويق مرجل كل هذه الهذيانات.

"أفكر في الوطن المعلق

على صدرك

نجمة بعيدة

أفكر في نهرين يعتليان صدرك

وينزلان نحو مرابع الطفولة

أفكر في الينابيع

التي تجري من تحت عينيك

وهي تغرق أيامنا

بنعاس لذيذ

أفكر في قمح وجهك

المخضرّ هناك

في السهول

أفكر في عشّ شفاهك

حين يحلّق الحمام

فينهض الشجر

أفكر في دمعك الشاهق

وهو يجرفنا

نحو قمر قتيل

أفكر فيك أيتها البهية

ذاكرا كل أسمائك.

أناديك بها ملء اليقين

وأدخل صدرك آمنا مطمئنا

مثل جنين صغير.."

نقلة إلى الغرق ، إلى الموت الآخر والمؤجل المعتكف على حيثيات صور المعارك القديمة كمرايا داخلية تترجم الراهن مثلما يحدث مزركشا بريشة سلطة الجمالي الرافل في عبير الخيال.

"حين سقطت هناك

في معركة قديمة

لم أكن أتصور بأني

سأصبح غيمة

لم أكن أعرف أن بركة الدم

التي تنمو هي أنا

كنت أهبط خفية

حتى لا يراني أحد

أزور بيتنا القديم

أرى الصغار الذين كبروا

وأسمعهم يتحدثون

بحياد بارد

لم أعرف بأني لستُ

مهما لهذه الدرجة

رأيت زوجتي ترفع صورتي

من الغرفة مثلما ترفع شيئا تالفا

الغريب في الأمر

أن الأمور كانت طبيعية

وحدي كنت أمر

على وجوههم

مثل ذبابة

تحوم حول بركة دم

مازالت طرية."

نزعم ختاما أننا إزاء تجربة مختلفة تماما ، لها خصوصيتها وفرادتها، بحيث تكتسي أهميتها من غزارة الإشغال بدرجة أولى على المفردة الصافية البسيطة المعبّرة والمناغية لمقاربات تستفزها تداخلات واكتظاظ معنى التعدد الزاخرة به نصوص البياض.

إذ لسنا ندعي هاهنا، خلاف ما ينسب إلى ذهنية التأويل العادل والمنصف،ضرورة التغلغل في ما ورائيات أقنعة الديوان، والقفز فوق ما يقدّمه جاهزا وبديهيا، إلى كنوز شعرية ما بنبرة فضّه وتعريته نابت عن شاعرنا شعرية المسكوت عنه، شعرية لغة البياض للنصوص الوامضة لما تجود بها أرحام الحروب.

تلكم لغة قد لا تفهمها غير الورود المنذورة لنوم ملائكي له ما بعده ويأبى لجيل الغد فتح الأعين على النصر الزائف.

دع الوردة تنامُ

على خد الطفل

لا توقظها بقبلة

لا تسقها بالماء

أو تلمسها

أتركها هكذا

وتصوّرها صورة على جدار.

 

أحمد الشيخاوي/شاعر وناقد مغربي

في المثقف اليوم