قراءات نقدية

ريما الكلزلي: الذّاتيّة والسّيرة في الرّواية

 إنّ جغرافيا الأدب جزء من الخريطة الكونية الانسانية، والرواية منجز حديث من تشكّلات هذا الأدب المعرفي، وإذا ما اعتبرنا أنّ الرّواية فنّ محض فإن هناك الكثير من التّصوّرات الذهنيّة والأماكن التي تحيلنا إلى الوقوف عند مسارها وأماكن وصولها.

فالرّواية عالَم متكامل يشيّده مؤلّفه، بدقّة مهندس خبير، فيناسق بين أبنيته، ويخلق شخصيّاته التي تتّسق مع الأحداث الحركية عبر حبكته، ويناسب بينها حسب رؤاه وأفكاره لتكون الشّخصيّة أكبر وأعمق من مجرّد موضوعة. فهي إمّا تفتح أبوابًا للتأمّلات الفكريّة في رحلة إلى المستقبل، وهذا يحتاجه الإنسان بين الحين والآخر للعودة إلى ذاته، وإمّا تكون الرّواية باعثًا إلى البحث في التاريخ الذي يشكل جذوره فيربطه بالماضي بصورة أو بأخرى، وبهذا يكون الإنسان عبر الرّوايات حلقة وصل بين التاريخ والمستقبل كغصن يرتبط بجذوره ويحمل أوراقًا يانعة خضراء.

وإنّ أيّ عمل روائي لا ينشّط التأويل والخيال لقارئه ويدخله قسرًا في متاهاته، إنّما هو عملٌ ضحلٌ لا يغري صغار المبتدئين في العوم. كما يقول بيرس" يجب أن تترك العلامة لمؤولها مهمّة تجهيزها بجزء من معناها".  وهذا يعني أنّ كل نصّ أدبي أو عمل فني يجب أن يكون آلة لتوليد المعنى لينتج عنه مستويات متعدّدة في القراءة والتّأويل سواء على مستوى الأحداث، أو الشّخصيّات، وقلّما نجد شخصيّة استقلّت بعوالمها فغادرت دفّتي الرّواية لتحيا في ذاكرة الأدب العربي مثل شخصيّة "سي السيّد" لدى نجيب محفوظ في ثلاثيّته، أو الطّيب صالح في "موسم الهجرة إلى الشمال".

والمتتبع لمسيرة الرواية العربية وتشكلاتها يجد أنّ التّاريخ الاجتماعي للرّواية يُعتبر نصّا متعدد المستويات خضع لأيديولوجيات متنوّعة منذ بداياته، فظهرت الرّواية في القرن الماضي وكأنّها خطاب أدبي يثبت مرتكزات الواقع السّياسي، واتخذت شكل البطل بثلاثة نماذج، الشاب المناضل التنويري الذي يدعو للتحرّر الوطني خلال فترات الاستعمار كبطل ينتمي للمستقبل، ونموذج البطل الإيجابي الذي سلك دروب الرّواية الواقعيّة في الحياة من خلال تعزيز القيم وإدراك معاني الانسانيّة فيها، والنموذج الأخير هو البطل المغترب الذي عبّر عن إخفاقات المجتمع في تأخّره وعدم مواكبته ركب الحداثة الذي جعله معزولًا يرثي زمنه.

ومع تحوّلات المجتمع العربي وفي ظلّ آثار الكولينيالية ثم الحروب التي عاصرها، والانفتاح الحضاري في بعض الدّول لمواكبة الحداثة، مرورًا بزمن العزلة الذي صاحب انتشار حالة كورونا نجد أن النموذج الرّوائي بدأ يمضي في طريق مختلف، فلم يعُد البطل النموذج هو الحدث الأهم، إنما آثار الأحداث والحروب وويلاتها والخيبات نتيجة عدم التوافق الفكري كانت البطولة والحدث معًا، لتكون صفعة جديدة للمجتمع على مستوى الأفكار والمعتقدات تلتمس مستوجبات الحداثة، وصيرورة المابعديات، فحتّم وجود رواية متمركزة حول الذّات، تسقط الهمّ الجمعي لصالح الفردانيات، مما جعل انفتاح الرواية يتمثل بسرد الذّات، ولا يحمل همّ المثاليّة والبطولات التي غادرت الساحة أو تظهر على استحياء، وبهذا التشكّل اقتربت الرّواية من مسارين أوّلهما الحقيقة حسب النظرية الأجناسية للكتابة الذّاتيّة، بأن يقول الحق كلّ الحق كمبدأ عام. والثاني عبر تزييف الأهواء، وانتقام المؤلف لنفسه، كمحاولة لردم هوّة النسيان.

فالكتابة الذّاتيّة في الأغلب هي كتابة خاضعة للتحقيق، بينما المتخيّل الروائي لا سند له، كل ما عليه هو تفعيل الرّموز والأقنعة. يعود فيها المؤلف إلى تفاصيل حياته، والعودة إلى الطّفولة وهناك ما يُبتكَر أكثر من استعادته، فتظل الحقيقة نسبيّة بلا شهادة ولا توثيق. وقد لا تكون كتابة السيرة الذّاتية اعتبارية بالمفهوم التقليدي، لكنها تجنح إلى تأسيس حالة يتزامن فيها مع خط سيرها حوادث مؤثّرة فيها يخصّها بالوصف الزماني والمكاني كأبعاد أصيلة لها. 

في الكتابة الذّاتيّة قد يبدأ الروائي بنيّة حسنة فيكتب نفسه، حتّى يظهر ما يحول إلى الوصول للحقيقة وهذا يُعتبر عائقًا. فتظل إثارة ذاكرة الروائي بمثابة رمي حجر في بركة النّفس الرّاكدة، لاستخراج جوهر كلّ الأشياء فقط، من دون توثيق.

ولو طرحنا سؤالًا: إلى أيّ مدى من الممكن أن تكون المذكّرات صادقة وهل الرّغبة في الالتزام تجعل النّص أكثر تعقيدًا، وماذا عن تعالق السيرة بفنون أخرى وانتمائه الفنّي ؟ فمن الممكن أن تكون الإجابة أنه لا يمكن بأيّ صورة قول الحقيقة كاملة، إلاّ في عمل متخيّل، والقارئ الفعلي معني بالحقيقي سواء كان عبر أشخاص حقيقيين أو متخيلين.

الأمر الذي يجعل نضارة الرّواية تتأثر بالحياة الباهتة التي يعيشها الروائي العربي، فيقوّض الحقائق، بحيث لا تكون مطلقة، ويتحوّل إلى مجرد ناسخ لتمظهراته الشخصيّة، ويبث خلالها التفاعلات بين الأدب والحياة وارتباط الأنا بواقعها وتحويلها إلى واقعة ورقيّة. 

إنّ أكبر النّصوص الرّوائية هي التي تمنحنا قراءة مفتوحة لتأويلات متجدّدة بتجدّد الزّمن وتنوّع القراء، وفي النّهاية إذا كانت القراءة عملًا مُتقنًا فإنّ الكتابة تفكير مخصّص في قارئ نموذجي تتوافق موسوعيته الفكريّة مع موسوعة النّص الروائي ليقدّم عملًا يتماشى مع جغرافيا الرواية، وتحوّلات المجتمع العربي بكل فئاته.

***

ريما الكلزلي – أديبة وكاتبة

في المثقف اليوم