قراءات نقدية

طالب عمران: القول السردي في رواية سيبندية للروائي شوقي كريم حسن

حرصت الاجناس الادبية الحداثية جميعا على تفاعل الذات مع الآخر ومن ثم الذات مع نفسها فيتحقق الانفتاح والابداع، انفتاح على الذات الموغلة في العزلة، ، وجاء تيار الوعي ليبرز في ميدان الرواية الحديثة شكلا جديدا يعبر عن هذه الازمة التي تعيشها الانسانية في شرنقتها، فاطلق العنان لتدفق الافكار والمشاعر والثورة على المألوف والسائد استنكارا للمواصفات اللاأخلاقية وهذا ما نلمسه في رواية (سيبندية) للروائي شوقي كريم حسن في طبعتها الاولى الصادرة عن دار العرب، 2023 .

وأنا أقرأ رواية (سيبندية) أقف عندها من حيث كيف يبني الروائي مادته الروائية؟، وما هي تقنياته السردية، من يروي؟ وكيف يرى الراوي الى ما يرويه ؟ وما هي علاقته بمن يروي عنهم ؟ فقد تناول النقاد مضمون الرواية وتناولوا موضوعة القيم النبيلة والرذيلة والمرحلة الزمنية لأحداث الرواية التي شكلت وثيقة تؤرخ مرحلة بدأً من مقتل الملك الشاب فيصل ومجزرة العائلة المالكة وما بعدها من صراع سياسي الذي اتسم بالفوضى والتخبط ..

ان ما يقدمه الروائي من تكنيك من حوار ووصف وتيار وعي واستبطان ذاتي وتقنية الفلاش باك فضلا عن استخدام المونتاج السينمائي والقطع والتنقل المشهدي، يعطي للرواية قوتها ومتعتها وان كانت الفكرة مطروقه..

"وقفت أمي تنتظر حيرتها، مبصرة من عند باب الحوش، صرخات الاستغاثة ودوي الرصاص وتوسلات حناجر تخرخش بفتور خائف يشوبه وجل ممتحن لا تعرف كيف تجتاح وجودها، وبين يديها ولد يتبرغث من الوجع حين ابصرت المسلّحة العسكرية، تحاول اجتياز الرصيف اندفعت مؤشرة بالوصول اليها ثمة آخر يتعلق بأذيالها. صبي مراقباً المشهد الصاخب بحذر ظل يصاحبه طوال حياته، قال الرجل المعلم بخرقة خضراء موشومة (بحاء قاف) لاعقاً شفتيه بابتسامة وقحة جعلت الأم تتراجع مهزومة إلى داخل خيبتها"1

"طريقة في الكتابة تقدم مدركات الشخصية وأفكارها كما تطرأ في شكلها العشوائي وهذا التكنيك يكشف عن المعاني والاحساسات دون اعتبار للسياق المنطقي او التمايز بين مستويات الواقع المختلفة (النوم، اليقظة..) او بناء الجملة من حيث ترتيب كلماتها في اشكالها وعلاقتها الصحيحة" 2

عتبة العنوان (سيبندية) التي جاءت بصيغة الجمع والتي من خلالها استطاع جلب الاهتمام والانظار لمفردة تعني المنحرف الذي لا أخلاق له بمعنى اناس افسدوا وقد وظفوا كل الوسائل الدنيئة والخسيسة فهي مباحة لهم ومشروعة من اجل الوصول الى غاياتهم.

 كتبت رواية سيبندية بطريقة وبتكنيك يكشف عن المعاني دون اعتبار للسياق المنطقي ولم تعد تعني بالترتيب المنطقي النمطي للعقل المنسق ببداية ووسط ونهاية فنراه يقوم بتكسير القوالب النمطية والثورة على الجمود والرتابة .

قسم الرواية الى عشرة فصول كل فصل اطلق عليه مدخل لأبجديات عشرة كعتبات ومناصات (عنونة داخلية) فيها عنوان اصلي واسفلها عنوان فرعي جاء على شكل جملة او عبارة (مقولة) للروائي مفتاحا وعتبة للدخول لعالم روايته تكشف العلاقة بين الراوي (الكاتب) وبين المروي " أبجدية اليتم" (المساحة واسعة بين القيم والرذيلة)، "أبجدية الأثم"، (الخطيئة اشد فتكاً بالضمائر التي تعدّها جسراً تعبر من خلاله الى ملكوت الرب)، "أبجدية القحط"، (من وصايا العارفين.. لا تترك خطاك تقود كلك إلى مرابع التفاهات)، "أبجدية القسوة " (قيل لمجنون ما الحكمة ؟ قال أن تبصق بوجه الحاكم من دون أن يعترض)، "أبجدية النهاية" (النهايات مشروع بدايات غير واضحة المعالم)، "ابجدية الرفض " (الاحلام أخطر اختراعات العقل الانساني وأشدها فتكاً)، " أبجدية الهذر"(لاتعادٍ الصمت في الاوقات الحرجة التي تحتاج بها اليه)، "أبجدية الازاحة" (ربة الوقاحة فاجرة، ما دارت مفتاحها يوماً لعارف)، "أبجدية الرغبات (..................)، "أبجدية الافتضاح" (لاشيء أقبح من الاعتقاد بأن الكذب فضيلة).

ربما اراد الكاتب ان يجعل من كل فصل ومدخل مسرودات لا متناهية،  باستهلال داخلي الذي يتصدر كل مدخل في الرواية تعين المتلقي وتمكنه من "ربط العلاقة بين العناوين الداخلية وفصولها من جهة والعناوين الداخلية وعنوانها الرئيسي من جهة أخرى ... "3

بدأ باستهلال افتتاحي / بدئي قبل القول جاء على شكل تنبيه كمؤشر لفهم السياق الذي تنخرط فيه الرواية:

تنويه

ذات حكاية.. سمعت حكيماً خبر الدنيا وخفاياها يقول:

- محال تغطية الحقيقة بغربال.. وهذا ضرب من ضروب المستحيل. فطنت الى المعنى وما أريد منه، وما الحقيقة التي تحتاج منا الى اعادة كشف. لذا ما جاءت به المسرودة حقيقة من المنبوشات بين اطمار ماض قريب مسكوت عنه، رغم اهميته في تأسيس ما بعده من حروب وفواجع وانتهاكات انسانية ماتزال مستمرة حتى الساعة... قد لا نصدق ما قيل ودوّن كونه ضرباً من الخيال.. ما أقبح الواقع الذي ينافس الخيال ويتغلب عليه.

في تقنية فنية تعبيرية وجمالية وظف الروائي تناصاً يعقب التنبيه مقطع من مسرحية شكسبير.. بهلوان الملك لير جاء على شكل نبوءة:

سأنطلق بنبوءة قبل ان اذهب.

إذا امتثل الكاهن لفظاً دون معنى

إذا غشّ الخمّار الخمر بالماء

إذا أضحى النبيل معلماً للخياطة

وسلم الزنديق من نار عقبى دون طلاب النساء

إذا كانت كل دعوة في الشريعة صائبة.

وما من سيّد، او فارس بالفقر يوما مبتلى

إذا الغيبة هجرت كل لسان

وأحجم النشالون عن الجموع.

إذا راح المرابون يحسبون الذهب في العراء.

وراح القوادون والبغايا يبتنون الكنائس،

عندما يحل في البلاد شغب وفوضى

عندها يأتي زمان من عاش رآه

يصبح السير فيه على الأقدام جريمة.

هناك تكنيكات اخرى توظف مع رواية التيار كالمنولوج الداخلي والفلاش باك والاسترجاع الحدثي والمكاني والزماني واستحضار المواقف أو الشخصية أو اللقطة وتداعيات الصور والاخيلة وكذلك الشعرية.

مقولة نمط السرد

اعتمد الكاتب اساليب متعددة في سرده من حيث علاقة الراوي بأصوات الشخصيات ، "اسلوب يتصف بالمباشرة، اسلوب يتصف باللا مباشرة، او نمط اسلوبي لا مباشر حر" 4 .

اسلوب يتصف بالمباشرة

نرى في هذه الحالة ان الراوي يترك القول في سياق سرده بصوته الى الشخصية او لصوتها يدعها تنطق مباشرة بصوتها الذي بإمكان القارئ ان يميزه عن سياق القول السردي للراوي عن طريق الحوار ففي هذه الحالة يقطع الراوي سرده فيتقدم صوت الشخصية المباشر محاورا المخاطب:

"ضحك (حسان ثابت) بصوته المجلجل، آخذا (دنوش) الى صدره، مقبلا جبينها الذي أضاء بفرح كان دفين اعماقها منذ رحلة الوالدين الابدية.

قال- لا تخافي .. كل ما ترينه محسوب الحساب.. حتى ان فتحوا الباب لن يجدوا لك مكاناً.

صاحت مديحة- أنت ليشر راسج يابس.. افتحي الباب تره للصبر حدود. أنت ما تعرفين شراح يصير بيج اذا اشتغلت الغدارة.

قال حسان – خذي ما ترغبين به وسأكون معك لا تنتظري انتظارك قد يخسرك جولة رهان.

قالت نادية – وأمي هل نتركها وحيدة؟ ص103

اسلوب يتصف باللامباشرة

نرى في هذه الحالة يبقى الكلام بصوت الراوي وان بدا لنا بشكل واضح انه لشخصية من الشخصيات كما المقطع السردي في ابجدية اليتم ص 7:

وقفت العجوز، التي نسميها (حبوبتنا) المثقلة بالهموم المجللة بثياب سود لم ارها تغيرها منذ مقتل الزعيم، فقدت بهجتها، تتأمل صورة ابن كيفية. كما تسميه متفاخرة ذارفة بقايا احزانها المتلاحقة الدافعة إلى التأمل، اخذت الصورة إلى صدرها، موقنة أن ما حدث اخفى الزعيم الى الأبد، قبلت بدلته العسكرية، وتناوشت جبينه بسيول هرمة من القبل الفيّاضة بالتقديس هامسة بحزن

- ألم أقل لك حاذر، تركتنا نصارع اليُتم... طيبتك رمت بك وبنا الى التهلكة.. ما عسانا نفعل ووحوش الموت بدأت تملأ الطرقات ألم أقل لك إن الحذر غلب القدر ؟

اسلوب لا مباشر حر:

يبدو في هذا الاسلوب محيرا وملتبسا يتداخل بين صوت الراوي وصوت نطق الشخصية بين ان يكون منقولا بصوت الراوي وبين ان يكون منطوقا بصوت الشخصية مباشرة في هذه الحالة الراوي لا يضع كلام الشخصية بين مزدوجين وهذا الالتباس يضفي على النص طابع البساطة والعفوية كما نلاحظه في المقطع:

- لا أظنّه يكذب، قال سأجيئ، أخبري المحبين بعودتي. فما الذي حصل؟ غيابه يبعد المسافة ويقلل الاحتمال... كرومي ماذا تقول.. وتلك الكتب التي تقرأ هل اخبرتك عنه بشيء، أخبرني اثق بما تقول.. لأنك الأحب إلى روحي والأقرب اليها. لا شيء يشير الى عودته، حبوبتي.. كل هذه الكتب تتحدث عن أمور لا تخصه!!" ص15

مستويات السرد

على مستوى تنوع ضمير الراوي اختار شوقي كريم حسن لروايته (سيبندية) طريقة تعدد الاصوات وهذه الطريقة متأتية من المجتمع المتعدد الفئات ومتنوعة الافكار حملت كل شخصية طريقة سرد خاصة بها ..

يؤكد الراوي ذلك في عدة مقاطع توضح الآراء المختلفة ووجهات النظر المتباينة في النظر الى ذلك الماضي يفصح عن تركيبة اجتماعية غير متجانسة:

"حبوبتنا" نقلت هذا الحب الى زغب احفادها الذين يتأملون الصورة المخفية بين طيات نضد الافرشة، أصرت على تسميتي (عبد الكريم)

" رغم اعتراض والدي، الذي يكره كرومي دون تبيان الاسباب، يتعمد اغاضتها، حين يعلن امام همومها " أرعن تافه.. غره تصفيق اناس يتبعونه مصالحهم.. تخلو عنه فور انطلاق اولى الرصاصات، ماذا يخسر لو اسس حزباً واستند اليه، الفقر لايحمي كرسيا، والقلوب لا تواجه الرشاشات" ص8

"- هل ما زلتم ترددون في صفوف الصباحات الباردة.. عبد الكريم رب العباد يرعاك فلم تخلى عن رعايته الرب الذي كنا نتوسل اليه أن يرعاه؟ لا اعرف ما الذي حصل أنت كرومي اعلمني ان كنت تعرف. الرب الذي طالبناه برعايته لِم لمْ ينصت لتوسلاتنا ؟"

يقدم الروائي مبناه الفني على طرق سرد متداخلة، الراوي تارة الشخصية الحكائية اي الشخصية التي تتولى الحديث عن شخص محوري يتقمص هويته ويتكلم بلسان حالها، و" قد يكون الراوي مزيجا من المؤلف والشخصية المحورية مزيجا من ان يكون راوياً وان يكون مروياً عنه".5

***

طالب عمران

........................

المصادر

1- شوقي كريم حسن، سيبندية (رواية)، ط1، دار العرب، دمشق-سوريا، 2023 .

2- ابراهيم فتحي معجم المصطلحات الادبية التعاضدية العمالية للطباعة والنشر، صفاقس، 1986، ص116

3- بلعابد، عبد الحق، عتبات (جيرار جينيت من النص الى النص) ط1، دار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2008 .

4- النصير، ياسين، ما تخفيه القراءة، ط1، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، سورية، 2022.

5- العيد، يمنى، تقنيات السرد الروائي، ط3، دار الفارابي، بيروت- لبنان، 2010 .

في المثقف اليوم