قراءات نقدية

كاظم خنجر في مساءلة الضمير عند تخوم برزخية

ahmad alshekhawiعبر دهاليز ديوان "نزهة بحزام ناسف" والصادر حديثا عن دار مخطوطات للنشر ،الساطعة شعريته بومضات كلمة العائد من موت الآخر/الأخ ،يطالعنا الشاعر العراقي كاظم خنجر،المنشق عن أسراب المقدمات الطللية وعبثية البكاء على رسوم ذاكرة الشوقيات ،وهم كثر حدّ اكتظاظ المنابر بموائهم المفتقر في زمننا إلى الصدى .

صاحبنا المنسلخ إلى مليشيا ثقافة الموت والإلقاء الشعري الميداني في إدانته الصارخة لراهن الفوضى والدموية والاضطراب.

يطالعنا بأشجى وأعمق من مجرد تجربة ، بتخطّيه ذلك إلى أسلوب حياة ، الفوقية والسمو فيها للبوح الملتزم والجاد، يهدم ليبني،ويذيل الفعل بنقيضه في مضمار حفريات سردية ضاجة بمناخات الغرائبي ومتفشية باتجاه إحداث رجّة تتحسّس البديل في أحشاء اختمار المعاناة بغض النظر عن ملامح أو طبيعة هذا البديل المنشود.

"نزهة بحزام ناسف..."

جليّ أن توهج فتيل صراع المفارقات ينطلق منذ العنونة ليكتسح لا حقا جسد الديوان في كليته، ما يضفي ملمحا هوليوديا على جنائزية المشهد.

ثمة سيريالية دالة على تفلّت المخيال صوب أسباب استحضار طقوس الأمن الجسدي والروحي تزامنا مع هيمنة واقعية الفعل المضاد مجسدا بآليات تهديد وتقويض هذا الأمن والاستقرار.

" يقول التقرير الطبيّ بأن كيس العظام الذي وقّعتُ على استلامه اليوم هو" أنت".ولكن هذا قليل. نثرته على الطاولة أمامهم.أعدنا الحساب:جمجمة بستة ثقوب،عظم ترقوة واحد، ثلاثة أضلاع زائدة،فخذ مهشمة،كومة أرساغ،وبعض الفقرات.

هل يمكن لهذا القليل أن يكون أخا؟

يشير التقرير الطبي غلى ذلك.أعدت العظام إلى الكيس.

نفضتُ كفي من التراب العالق فيهما ثم نفختُ بالتراب الباقي على الطاولة.وضعتك على ظهري، وخرجت."

مبنى ذروة في البساطة وأنأى ما يكون عن التعقيد اللغوي والتنميق، بيد أن جبّ معانيه لا قرار له،يأسر الذهنية والذائقة في آن.متتالية جمل مغرقة في التفاصيل تدليلا على هول الموقف في إشارات ضمنية المتهم الأول عبرها ضمير العالم إن نائما أو مغيبا أو ميتا في أفدح الأحوال.

أعضاء الرفات تتداخل وتتزاحم معلنة قيامة الغموض والملابسات والاستهتار بالعنصر البشري حتى وهو أشلاء لم يمهلها احتقان أجواء الفتك، ولم يمنحها بعد فرصة مواراتها الثرى كأبسط تكريم هو الأليق بشهيد مطعون في حريته وكرامته وحقوقه.

هل يمكن لهذا القليل أن يكون أخا؟

لعلّ الاستفسار الدائر حول عودة الأخ من موته، رمزيا،على هيأة تستنبت هلاميتها من تأويل القليل والناقص ،يفيد اختزال تاريخ الأخطاء السياسة المدمرة،كما يبرهن على نضال أنوية الذات الشاعرة المتماهية مع الهوية والحس الوطني المتقد.

" نشروا صورة جثته على الــ "فيسبوك" ، أخي الأصغر،

وبعدما عجزنا عن العثور عليها،قمنا بطباعة الصورة،

تغسيلها، تكفينها، دفنها في مقبرة العائلة.

***

الهاونات تدفع باب السطح،تهبط عبر الدرج،فتأكل ما في الثلاجة،وما في المطبخ،وما في البيت حتى تتخم من الأكل،فيأتي رجال الدفاع المدني، يسحبون جثثا من بطونها ، ويرمونها على الجيران.

***

متقابلَين،نرفع الجثث إلى حوض السيارة،أنت تتحدث عن الثقل وقوة الرائحة،وكثيرا عن جمع الأعضاء المتناثرة،وأنا أضع عيني على فوهة العمى وأنظر بعين واحدة، وأتفحّص زوجتي النائمة هل مازالت تتنفس..؟ أقود السيارة مثل بناية محروقة تنطفئ وحيدة.

حتى النار عندما لا تجد اهتماما تموتُ على عجل. "

إنها ذات مسكونة بحمى وعي المأساة،باعتبار التعاطي مع هذه الأخيرة لا يتم في غياب ذاكرة تفصل خارطة الموت عن جذور الظاهرة الوجودية الواشية بجملة استنطاقات تتجاوز التابوهات لتراوغ بمهدئات متأسسة على تشخيص زائف يقود إلى أعراض جانبية جمة ممهدة لاستفحال الداء.

من ثم وكنتيجة طبيعية الهروب إلى طقس الكتابة وفق ما ترسمه البصيرة كغربلة تتتيح فرز الحقيقي من الرسمي الزائف والصالح من الطالح.

" عندما يفتشك الشرطي وأنت تدخل السوق،يُشعرك بأنك إرهابي.

عندما تعبر بعينيك الأسلاك الشائكة التي تفصل بيتك والشارع،

تعبرها كإرهابي.

وكلما سرت بالقرب من الكتل الكرتونية المؤدية إلى دائرتك،

تسير إرهابيا.

كلما سلمت الإيجار غلى صاحب المنزل يتسلمه منك

بصفتك إرهابيا.

ولحظة تشاهد التلفاز أنت وأطفالك

ترى إرهابك في أفواه الآخرين.

وعندما تزور أخاك في السجن يتحقق الحراس من الكومبيوتر على أن اسمك ليس مدرجا في قائمة المطلوبين وانك لست إرهابيا.

وبينما تركن دراجتك النارية على الرصيف

يعتقد أصحاب المحال أن دراجتك ملغومة وإنك إرهابي.

وأنت تذهب مع زوجتك إلى طبيب الكسور،

يبقيك خارج العيادة وحيدا كإرهابي.

بإرهاب تشتري قنينة الويسكي،

زاحفا على مسامير عيونهم.

وأنا أبلع قرص الإرهاب في الصباح وفي الظهيرة وفي الليل بعد الطعام وفي انتظام يومي، كما أراد الصيدلاني

(ابن كلب)."

ما تكرار ثيمة " إرهابي" إلا تأكيدا على أن توجهات الديوان كما يستشف من عنونته، لا تستقيم أو تتدلى عناقيد غوايتها بغير إقحام تقنية لازمة تفي بالغرض وتفجّر الظاهرة على مستوى مرايا الكامن تبعا لما يوحي بخطورتها وحجم حساسيتها ن نظرا لعالميتها واختراقها للحدود والقارات وباعتبارها صناعة شاذة لا ملة لها أو دين، تستهدف إنسانيتنا بدرجة أولى ،وتختلق حيزا لها فارضة منطقها وكابوسيتها مشوشة على ذرات الأوكسيجين الذي نتنفسه واللقمة وشربة الماء وشتى الشروط الأخر للحياة.

"عند كل ليل

أسحل عيوني غلى تل العمى.. أنفضها

ولا تسقط الرؤوس المقطوعة

أنفضها

ولا تسقط الرؤوس المقطوعة. "

...............

"كلانا يدري بأن البندقية هي كوب فارغ

وكلانا تسابق في سكب كرهه فيه

وكلانا الآن يغلق الباب على أصابعه وهو يدخل

القبر.' "

..............

" عفوا أيها القاتل ، نسيت سكينك في عنقي."

..............

" أملك فتحة في القلب

تتسع كلما ضحكت

تدخل وتخرج منها الحروب..."

.................

" نطلق النار عندما يموت أحدنا حتى نقتل الآخر..."

...................

" نضع الميت في تابوت من خشب

لنوهم الأرض بأننا جئنا لزراعة شجرة..."

.................

" أب يحاول إعادة رأس ابنه المقطوع غلى عنقه النازف..."

.................

" أقلم اللحم حتى أبلغ الأظافر..."

.................

" في الحصار

وضعوا لنا الإسمنت في الصحون

لهذا شيدنا مباني من جوع..."

......................

" الساعة تمشي في اليد المقطوعة..."

....................

"تدور كملعقة في كوب دم.

أذنك على عيون التليفونات المغلقة...' "

......................

" لأننا قتلة صغار

غالبا ما نلبس القفازات

ندفن الأدلة..."

...................

حين تلتمس الحرب أعذارا واهية وتختلق أسبابا باعثة على التهكم والسفاهة والسّخف، وتنشد أمومتها الزائفة بل وتستجديها من فكر دوغمائي متطرف ،فقط يجني ثماره الأعادي والخونة وسماسرة مصالح الوطن ، أنذاك ،لا شكّ ،يستعصي حدّ الاستحالة وتفشل محاولات التكهن بالنتائج المترتبة على تأليه المآرب الشخصية وتسييد الطائفية الضيقة ، وتغدو اللعبة برمتها وكأنها بعبع قيامة تهيمن على كوابيس واقعية الحلم وحلم الواقعية.

وهكذا متسلّحا بكرامته ، أعزلا إلا من تهجّم أنامله ، لا يلفى الشاعر بدا أو مناصا من اللجوء إلى نرجسيته المقبولة جدا وتفجير ينابيعها، قصد فضح المكنون وتعرية الواقع المرّ، ضمن قوالب تعبيرية باذخة تتجدّد وتتناسل مُتيحة إمكانات استنساخ الحالة الإنسانية بمعزل عن التلفيق والنفاق ، ومنتشية حدّ الغيبوبة بإستطيقية بروز أسمى معانيها في مرايا الروح بين إخفاقات آدمية تقاوم شتى أشكال الاضطهاد، وبين زخم من استنطاقات فلسفية توبّخ العالم .

ويتنزّه، أي الشاعر، حدّ تقمّص شخصية أسطورية منشطرة نصفين إلى ما يموقعها ويزجّ بها في عتمة دهاليز البين بين ، فإذا هي ضحية وجلاد زمكانيا، لدرجة لا يمكث معها سوى تلبسّ صوت الحرية والتسلّح بالفطرة والنواميس السوية،و النأي الملائكي عن خيانة الضمير والحسّ الوطني والهمّ الإنساني إجمالا.

هكذا تحصل مسْرحة الانزلاق بالمتلقي في تعطّشه الوجداني وفورة استفساراته وفضوله المعرفي، إلى مناخات غرائبية تنسجها الذات الشاعرة مقتصدة في اللغة محاذرة من فخاخ الإسفاف ومعتمدة قاموس غير المألوف في التعبيرية السردية على السائد ، كما متبنية خلاف ما تتغنّى به أبواق الاعتباطية والارتجال،متماهية مع أدوار الكائن المهمّش المنسي المنبوذ، تنتابه حمى الهذيان بخريفية مصيره،و يئنّ صلصاله تحت رحمة رمح أو مقصلة شاهدة على الجرائم البشعة في استرخاص طغاتها للدم وتقيدهم بشهوة اللحظة المستذئبة في تواطئها مع فوبيا الرذيلة والفتك.

" نخرج الدموع من عيوننا

كلما مات أحدهم

لتوفير مساحة كافية

لدفنه فينا."

..................

" السرّ تراب نُدفنُ فيه

لا أن ندفنه فينا."

...................

" إذا أنجبتم طفلا علّموه ألا أصدقاء ولا إخوة في هذا العالم،

وإلا أنهى عمره في حساب الجثث."

..................

" تعلّمت من الأعداء

بأن الحديد هو الدموع التي نسكبها في الخفاء."

خلاصة القول أننا إزاء هامة تكتسي فرادتها من إدمان تفاصيل اليومي في صياغة الموضوعة ومنحها أبعادا فنية، ترتقي بالصرخة أو الصوت الداخلي كما تختزله شحنة المكبوت، إلى مستوى استنطاق ضمير الإنسانية عند تخوم برزخية تتناسل الدلالة عبرها مشدودة إلى كوميديا الخطاب وسخريته مشبوبا ببؤرة الموت في محاولات معالجة الراهن.

 

أحمد الشيخاوي

 

في المثقف اليوم