قراءات نقدية

منير بولعيش الشاعر الذي لن يصدق المدينة .. الذات الشاعرة / العالم أية علاقة؟

mohamad alazouziأحيانا تكون الموت (بمعناها المادي لا المعنوي) نافذة وحافز وداع إلى خلخلة مجموعة من الرواكد الجاثمة على صدر السياق الثقافي العام إلى درجة قتل حركيته ومحوريته وفاعليته في إنتاج التغيير وتعهده بالرعاية إلى إن تنضج كل مترابطاته لتكون في مستوى المأمول منها أي بمعنى بناء وتحصين الإنسان بالوعي والقيم والرؤى ذات الأبعاد المستقبلية

 وفي علاقة الإبداع بالموت (موت المبدع الإنسان وليس الإبداع المفتوح) تبقى حاليا تجربة الشابي التجربة الأبرز التي منحها الموت حياة أخرى وأفاق حضور مستمر في السياق الثقافي

تجربة كلما أرفقت بسيرة صاحبها المغادر للحياة في ريعان الشباب إلا وكانت الرغبة في الإطلاع على متنها الإبداعي المشكل من قصائد تم تجميع أغلبها في ديوان أغاني الحياة أراء نقدية عبر عنها من خلال محاضرة ألقاها بقاعة الخلدونية جمعت في كتاب تحت عنوان الخيال الشعري عند العرب رسائل تبادها مع أصدقائه خصوصا محمد الحليوي إضافة إلى يوميات.

‏ من خلال قراءة ديوان الشاعر منير بولعيش بعد الوقوف على العتبات الأولى في عملية تفكيك العناصر - عناصر المتن الشعري لديوان لن أصدقك أيتها المدينة وإعادة تشكيلها لبناء فهم للمتن مرآة عاكسة لشعور ولا شعور الذات المبدعة في تحولاتها السيكولوجية مابين الحالة المرغوبة / المرغوب العبور إليها والحالة النقيض المأمول الخروج من نيرها لإرتياد أفاق ومناحي الحياة و تموضع الذات المبدعة داخل الفضاء الخارجي والصلات المنخرط ضمن سياقاتها تموضعات توجد عليها الذات بأبعاد علائقية بالذات نفسها كبعد سيكولوجي وضمن المجت مع بعد سوسيولوجي أو ضمن النمط الثقافي كمنظمومة من القيم والقناعات كمعطى أنثروبولوجي ثابث أو وافد تبعا لإنخراط الذات في نسج علاقات ومد قنوات مع الثقافات العالمية والنهل من ينابيعها والإغتراف منها فلسفيا

ما سنحاول مقاربته في الورقة هو موقع الذات (الذات الشاعرة) تموقعها / تموقفها من نفسها والآخر والأشياء والعالم ودرجة ذاك التموقف التموضع تبدياته السيكولوجية والسوسيولوجية.

بعد تصفح صفحات الكتاب الصادر عن النشر سليكي إخوان بطنجة في الحجم المتوسط الطبعة الأولى غشت 2009 مكون 64 صفحة موزع على جزئين جزء أول بعنوان طنجة المدينة كارت ضم القصائد / حكمة / نوستالجا / تعاسة / الرجيم / عولمة / غرق / هكذا إذن / الكيخوطي / شهادة إثبات / ريح الشرقي / الرافضة / إقامة جبرية / هيراقليس / ذكرى / نخبك أيها الرجيم وجزء ثاني معنون القصيدة خرجت للشارع ضم القصائد / الشاعر / مفتاح المدينة / خروب المدينة / لم أكن رائيا كما اليوم / عميل مزدوج / قبلة سوداء / طنجافوبيا / حكاية الأميرة التي لا تبدأ ب / القصيدة خرجت إلى الشارع.

‎‎بعد مباشرة القراءة لقصائد الديوان والتوقف عند بعض والعتبات / المداخل وعناوين قصائد الديوان يتبدى حضور بارز وطاغ للمدينة طنجة كفضاء جامع لمجموعة من له علاقة بالذات الشاعرة العلاقة الموسومة بالرفض رفض يشرف على القطيعة حتى وإن لم يتم مباشرة الدخول فيها بما يمكن أن تتمظهر وتتبدى

مهما صفت ‏

طواياك

لن أصدقك

أيتها المدينة!! [1]

‎ ‎فلماذا تقف الذات الشاعرة موقف الرفض من المدينة؟ وما الصورة التي يقدمها بولعيش عن مدينته طنجة كمدينة كوسموبوليتانية تتجاور فيها الثقافات العالمية؟

 سيرا في تفكيك لبنات قصائد الديوان في أفق الإقتراب من عوامل الرفض الكامنة في الذات المؤسسة بالوقوف على حقيقة حارقة وساطعة في الآن نفسه يقول في قصيدة قصيدة حكمة

قبل أن يوافينا نادل

Madame porte

بالكولا

سأهمس لك بهكذا حكمة :

‏(هذا العالم يقتسمه رجلان :

مجرم حرب وغنيها) [2]

بعد إعلان هذة الحكمة / الحقيقة القاسية يعلن أن لا مجرج للخروج من هذا الواقع والمأزق الوجودي غير الشعر كسلاح لمواجهة العبث الذي يسري في شرايين العالم ويمتد إلى المجتمع والذات التي ليس أمامها غير الرفض لتعلنه في وجه العبث والقرف.

لذا لا تتوقعي من الشعراء ...

ومني بالخصوص ...

سوى أنشودة المطر

أنشدها لك كلما

دمرك الشتاء :

مطر ...

مطر ... [3]

حين تفقد المدينة ومن ثمة المكان تلك الحميمية مع الذات والأشياء يبقى البحث عن ملاذ لتلافي خيبة الذات وإندحارها أمرا ذي جدية لكن أين يمكن أن يكمن ذاك الخيط الذي به يتلمس إيجاد ذاك المسلك نحو ذاك الملاذ آفي أعماق الذات أو العالم الخارجي الذي تمثل المدينة وجهه المكشوف اللاإنساني الغارق في النفاق والكذب يبقى الحنين والشوق أو الكلام النوستالجي كما يقول بولعيش مجرد كلام كلام بلامعنى لأن التشبث به كمن يدمن البكاء على الأطلال

يقول ل (المدينة / الحبيبة)

دعك من صور الأصدقاء

على حيطان الغرفة

دعك من محمد شكري ...‏

بول بولز...‏

آلن جسنبرغ...وباقي رفاق الحلم [4]

أمام مأزق الذات الأنطولوجي المغرق في دوامة لا تنتهي لا يبقى أمامها غير الإعلان بالتشبث بالحياة وعيش لحظات السعادة على ندرتها خير من التباكي على زمن ولى ولم يبق له أثر.

و كوني واقعية

كما يحق لإمرأة تخرجت

من برامج

 ‏star system

فستانك القرمزي :

أهم حدث في هذا اليوم

وضحكتك البيضاء :

نقطة إرتكاز هذه الغرفة

لذا دعك من الثرثرة

صدفيني :جيل البيتنكس

اندثر منذ عصوربائدة

وطنجة - على العموم ـ

لا تدمن الدمع على الأطلاك

و لا الحنين أمام ألبوم الذكريات [5]‏

تموقف سرعان ما يتحول إلى محاكمة للماضي والحاضر الذي يمثل إمتداد له الذي لا تجد فيه الذات ما تصبو إليه

دولاكوروا

أيها التعس ‏

آجئت تبحث عن الضوء

في مدينة

كل ما فيها ‏

يهدد بالسواد !! [6]‏

تتصاعد حدة الرفض (رفض الذات الشاعرة) بفتح الرفض على فضاء أوسع يتسع بالإنتصار للإنسان وقضاياه في شموليتها في مواجهة آليات التدجين والتشييء المحدقة بوجوده وأسسه القيمية رفض يمتد جغرافيا من المدينة / طنجة التي لم تقاوم كل الرياح التي هبت عليها من الجهات ولم تستطع المقاومة أو القيام بأي رد فعل رفض يبتدء بالإعلان تقديم الذات لبطاقة هويتها لمخاطب مؤنث والدفاع عن براءة الذات .

أعرف : زنقة الشياطين

ليست ركحا يليق ...‏

لكني لست الرجيم ‏

الذي تشتمين ...‏

لست من دل حواء

على تفاح الحقيقة ...‏

لست من أبى واستكبر

واختار المنفى ...‏

لست ميفستو ...‏

لست من شط به الخيال ‏

وأنشد : (المجد للشيطان... )

لذا لا تستمري في هذا

الأداء المعبر

أنت في الواقع

لست الملاك الذي

يحق له أن يوبخ

الأبالسة

وأنا : لست ذاك الرجيم

من تشتمين

رغم زنقة الشياطين ...

ورغم أن قصائدي

لا تبارك سوى المنشقين

ومن تخطى الأسيجة

بنص جديد !! [7]

يفصح في نص موالي عن الأسباب الكامنة في مباركة قصائده للمنشقين مباركة تتأسس على إحساس فادح باللاحرية في زمن معولم يدفع الذات للإضمحلال والتلاشي .

أكلما حدثتك

عن زمن الأخطاء ...

تتدخل نيويورك

بيني وبينك

وتغير مجرى الحديث !! [8]

وضع لا مفر للذات فيه غير الإنخراط ومعانقة قضايا الإنسان الذي تعصف التحولات الغير عادلة لإختلال العلاقة بين ضفتين ضفة استطاعت النجاة وأخرى تغرق في يم اليأس واللاجدوى وانسداد الآفاق أمام الإنسان لا يبقى أمام الذات إلا الغرق في الحلم بكل رمزيتة كمدخل للإقبال على الحياة في واقع إنساني يعج بأشكال اللا عدالة

في الضفة الأخرى

من الحافة

كنت أغرق ...

كنت المهاجر السري الوحيد

من يدمن عن ظهر بحر :

(تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)

لكني كنت أغرق ...

أنا الوارث الأخير

لسر الرحيل ...

الوحيد

من يحفر على ذراعة

هذا الإسم : إبن بطوطة

لكني كنت أغرق ...

في الضفة الأخرى

أنا المهاجر السري الأخير

وريح الشمال : شدق يضحك

و أنا أصرخ وأ

غ

ر

ق [9]

لكن كيف تبلور الذات الشاعرة رفضها؟ وكيف تجعله فعالا في خلق وعي جمالي وإنساني بضرورة القيام بالتغيير (تغيير الذات والواقع) لإستشراف أفق أرحب وأوسع لاحتضان كل الأحلام والتطلعات

لست هاربا

و من مسرح الجريمة سأدلي

بهذا الكلام :

لست شاهد نفي ...

لست شاهد زور ...

ولست شريكا في هذا اليباب ...

أنا لا جئ في طنجة

(مدينة الحياد)

حيث لا حالمين في مستواي

و لا أعداء في مستواي

لذا لا دخل لي بهذا الدم ...

لا شأن لي بهذا الجنون ...

أنا كحمامة

نوح

ضائع منذ سيول

فوق سواحل الغرق

أرقب برق الخلاص

وأفجر هذا السؤال :

طنجة ...

أمن هنا الطين جاء ...

أمن هناك ابتدأ الطوفان؟! [10]

هنا تعلن الذات براءتها من كل ما يحدث حول حولها الواقع لم تصنعه أوشاركت في صنعه بل صنع خارج إرادتها و تم فرض العيش فيه عليها وتحمل أوزاره رغم إنتفاء مسؤوليتها في ما يقع فيه .

طنجيس : منفى كبير

وهذا البحر جبانة

فلنستريح من الإلياذاة هراقليس

ولنلعب الورق :‏

‏(العالم يغير سلمه الطبقي

وأنت من هذه المغارة

تحلم بتغيير العالم !!)‏

لا تلتفت...‏

لا تلتفت...‏

الفضوليون قدر...‏

وآلهة الأولمب قدر ...‏

فلنتنحى في إتجاه الظل

ولنلعب الورق ‏

هنا رفضك بضاعة كاسدة...‏

ومجدك خرافة...‏

فلنلعب الورق هراقليس

ثمة سائح

يقتفي طيفك

في طاحونة قمح

و يهمل رفضك الجميل... [11] ‏

تصل الذات إلى إعلان الإستسلام بإنهزامية بادية للعيان أهو تسليم بعدم القدرة على بأي رد فعل أم أن مسؤولية تغيير الواقع / العالم مسؤولية الجميع وليس مسؤوليتها وحدها التي لا تملك للمواجهة غير الشعر .

بما أنا وصلنا أخيرا

إلى وادي اليهود

اخلعي نعليك

وتوقفي قليلا

عن هذا الغناء :

إشبيليات

 ‏joaquin sabina

لاتناسب هذا المقام

أدرك ...

الماء غاض

والوادي ليس مقدسا

كي يملك

أسباب البكاء على أوشفيتز ...

ولا تذكر معمدانية

الأنبياء ...

لكن ...

فلنتوقف قليلا

طنجة

واد  يشرب منه الكل

ويخونه الكل

فلنتوقف

الذكرى كم تناسب

هذا المقام!! [12]

 لكن من أين للذات إيجاد مخرج للخروج من واقع الخيانة وإيجاد منفذ يفي بمتسع للحياة والحلم أم أن الذات حتى وإن انخرطت في التجربة بكل مآلاتها لن تحرك من الواقع شيئا و حتى وإن أعلنت الذات عن صيغ شتى للتمرد .

بقلم محمد العزوزي - المغرب

...............................

[1] منير بولعيش ـ لن أصدقك أيتها المدينة ـ شعر ط 1 غشت 2009 ـ م سليكي إخوان طنجة ـ ص 3

[2]نفسه ص 7 و8

[3]نفسه ص 8

[4]نفسه ص 10

[5]نفسه ص 10 و 11

[6]نفسه ص 12

[7]نفسه ص 13 و 14

[8]نفسه ص 15

[9]نفسه ص 16 و 17

[10]نفسه ص 21 و 22

[11] نفسه ص 28 و 29

[12] نفسه ص 30 و 31

 

في المثقف اليوم