قراءات نقدية

مقتل بائع الكتب. . رواية فكرية في إطار بوليسي

1063 kotobأثارت رواية "مقتل بائع الكتب" لسعد محمد رحيم، منذ وصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة البُوكر العربية لعام 2016 وحتى الآن، العديد من الأسئلة التي تتعلق بالنوع الأدبي، والشكل، والمضمون، والشخصية السيريّة، وما تنطوي عليه من إشكالية معقدة يتلاقح فيها الأدب والفن والفكر من دون أن يهمل الرؤية السياسية المشوّشة لبطل الرواية محمود المرزوق أو لبقية الشخصيات الثانوية التي تُسهم في حبكة الثيمة التي تتحرّك ضمن أنساق سردية تعتمد كثيرًا على الاستعادات الذهنية لاستجلاء الحقائق التي تتعلق ببائع الكتب قبل مقتله في ظروف مُلتبِسة سوف تؤسس شيئًا فشيئًا متن الكتاب الذي كُلِّف به الصحفي ماجد بغدادي من قِبل شيخ سبعيني غامض لن نتعرّف عليه إلاّ في الصفحات الأخيرة من الرواية.

ليس غريبًا أن يُصنِّف بعض النقّاد العراقيين والعرب هذه الرواية بالبوليسية Detective لأن تركيز القارئ سينصرف مباشرة إلى ثلاثة ألغاز لابد من حلِّها، الأول: مَنْ هو الرجل السبعيني الغامض الذي كلّف الصحفي ماجد بغدادي لإنجاز كتاب عن محمود المرزوق الذي قُتل في شارع الأطباء ببعقوبة؟ والثاني، مَنْ هو القاتل الذي اغتال المرزوق في رابعة النهار؟ والثالث، مَنْ هي الجهة التي تقف وراء القاتل؟ هذه الأسئلة هي التي دفعت النقّاد لتوصيف الرواية ضمن خانة أدب الجريمة وهم محقّون في ذلك لأن سعد محمد رحيم حوّل جريمة مروِّعة إلى نص روائي ينطوي على الكثير من الترّقب والتشويق والإثارة وهي من أبرز عناصر أدب الجريمة Crime Fiction الذي يطرح دائمًا سؤالاً محددًا مفاده: مَنْ الفاعل؟ أو مَنْ القاتل؟  Whodunit وكلا السؤالين يحضران بقوة في رواية مقتل بائع الكتب.

يختلف الشكل الروائي في "مقتل بائع الكتب" عن روايتيه السابقتين "غسق الكراكي" و "ترنيمة امرأة . . شفق البحر"، فالزمن الروائي لا يندفع بشكل خطّي مستقيم وإنما يعتمد على استرجاعات ذهنية كثيرة تستحضر ماضي البطل محمود المرزوق منذ لحظة اغتياله على مقربة من سرداب العمارة التي يسكن فيها حتى أيام صباه ويفاعته الأولى، مرورًا بدراسته الجامعية، وسجنه في "نقرة السلمان"، وسفره إلى براغ، وهربه إلى باريس، وعودته المفاجئة إلى بعقوبة التي سوف يُغتال فيها على يد قاتل مُحترف.

يعتمد سعد محمد رحيم في صياغته للشكل الفني، الجديد نسبيًا، على خمس تقنيات وهي الصور الفوتوغرافية، شريط التسجيل، اللوحات الفنية، الرسائل، واليوميات والتي استقاها تباعًا من مصطفى كريم، القاص هيمن قره داغي، الرسّام سامي الرفاعي، فراس سليمان، و "رباب" التي تسترت وراء هذا الاسم المُستعار الذي اختاره لها المرزوق تدليعًا وتحببًا، وهي تقنيات متنوعة كسرت أفق السرد في الأقل وأنقذته من احتمالية الوقوع في مطبّ الرتابة.

يتجلى مضمون الرواية في ثيمات متعددة من بينها استبداد السلطة، وحرية المواطن، والحُب، والسجن، والتعذيب، والحرب الطائفية، والاحتلال الأميركي، والمنفى، واليأس، والإحباط، واهتزاز القناعات الفكرية باليسار العراقي، وانهيار المعسكر الاشتراكي، هذا إضافة إلى ثيمات الثقافة والفن والإبداع والرومانسية التي تتمحور عليها شخصية محمود المرزوق المُبهمة والمُحيِّرة لأصدقائه القدامى والمحدثين. وبما أن الثيمات كثيرة ويصعب حصرها في مقال واحد فسوف نركِّز على ثلاثٍ منها لأنها تُشكِّل الركائز الأساسية في شخصية المرزوق وهي الحُب، والموهبة الفنية، والإيمان الفكري. فبعد أن سُجن "نقرة السلمان" خمس سنوات خسر ثلاثة أشياء مهمة وهي إيمانه الكلي بالحُب بعد أن تزوجت حبيبته غادة، كما خسر ثلاثة أرباع إيمانه بموهبته كفنان تشكيلي، أما على الصعيد الفكري فقد خسر نصف إيمانه باليسار  فكرًا وتنظيمات. ما يهمنا على صعيد المضمون هو الخسارة الثالثة. فعلى الرغم من اقترابه الشديد من الماركسية لكنه لم ينتمِ ومع ذلك فقد زُجّ به في السجن، وعُذِّب، وآثر الرحيل إلى المنافي الأوروبية لكنه فوجئ بانهيار المنظومة الاشتراكية ولعل ما تعرّض له براغ أقسى بكثير مما صادفة في المعتقلات والسجون العراقية لذلك قرر العودة إلى بعقوبة، المكان الأول الذي أحبّه،وتعلّق فيه، لكنه عاد كشخص عدمي، غير ملتزم، وربما تحريفي كما يصفه البعض. ولا يعتقد مُطلقًا بأن العراقيين قد أصبحوا أحرارا بعد سقوط الصنم لأن الحرية الحقيقية تحتاج إلى سنوات طويلة كي تتحقق في بلد مثل العراق طالما أن "التاريخ فيه يسير على السكة الخاطئة"(ص34).

تُشكِّل الشخصية السيرية القسم الأكبر من النص الروائي وبما أنها وعرة، ويكتنفها الغموض فلاغرابة أن تحمل معها إثارتها مع كل اكتشاف جديد بدءًا من الصور الفوتوغرافية التي التُقطت له من قِبل أصدقائه اليساريين إثر خروجه من السجن، مرورًا بالكاسيت الذي سجّل محاضرته الوحيدة التي باح بها بكل شيء تقريبًا، وانتهاءً بلوحاته وتخطيطاته ورسائله ويومياته.

لعل سائل يسأل عن مكمن القوة في هذه الرواية تحديدًا؟ فيأتي الجواب سريعًا ومن دون تردّد: حلاوة اللغة، وطلاوة السرد، وعذوبة الأفكار التي تتدفق على مدار النص الروائي، غير أن النهاية تبدو قلقة ومُرتبكة فمن غير المعقول أن القاتل المحترف يَقتل الإنسان الخطأ بسبب مصادفة عمياء فلم يكن محمود المرزوق على لائحتهم أصلا!

تتوهج لغة سعد محمد رحيم في صياغة الأفكار وتطويع اللغة الفلسفية فكيف سيكون الأمر حينما تنغمس شخصياته في معترك الحُب، وتغرق بالعواطف الإنسانية الجيّاشة؟ هذا الزخم اللغوي يشتدّ في أثناء الفوران الوجداني الذي لمسناه مع غادة أو رباب، وناتاشا الروسية التي أحبها في براغ، وجانيت الفرنسية التي سيتركها دون إرادته وهي تصارع السرطان اللعين لوحدها، أو سماهر التي تعلقت به لمدة ثلاث سنوات قبل أن تتزوج من غيره ليتنفس الصعداء وهو يقف في محطة العمر الأخيرة.

ينحدر المرزوق من عائلة برجوازية تمتلك البساتين وتُتاجر بالأقمشة لكنه انحرف صوب الإبداع الفني الذي سيقلب حياته رأسًا على عقب ويزرع فيه بذور التمرد ليس في الفن فقط وإنما في مختلف مناحي الحياة الفكرية والثقافية. فهو قارئ جيد وقد وجدوا على طاولته كتبًا نوعية، كما أنه فنان تشكيلي ظل منهمكًا في الرسم، ومواظبًا عليه طوال حياته، والدليل أن كرّاسة الاسكتشات الأخيرة كانت تحتوي العديد من التخطيطات التي لم تُترجم إلى لوحات فنية. أما على الصعيد الفكري فهو يساري لكنه لم ينتمِ حزبيًا وسوف يظل محسوبًا على اليسار في العراق أو في براغ أو في فرنسا، وقد دفع أثمانًا باهضة لهذه القناعة الفكرية. وحسنًا فعل الروائي سعد محمد رحيم حينما تناول هذه الشريحة الواسعة من المثقفين العراقيين المحسوبين على اليسار العراقي من دون أن ينتموا ومحمود المرزوق هو النموذج المثالي لهذه الفئة المتنورة التي ضحّت بالغالي والنفيس من أجل قناعاتها الفكرية.

لم تنجُ الرواية من أصداء مصطفى سعيد، وثنائية الشرق والغرب، وبعض الأفكار الكونية مثل "الخراب"، "العدم" و"اللاجدوى"حيث يقول المرزوق: "تخربت حياتي هنا منذ ذلك اليوم، يوم جرجروني مثل كلب أجرب، ووضعوني في ذلك القطار .. سعيت أن أصلح بعض الأشياء ولم أفلح . . تخرّب الحال، تخرّب العالم"(ص57) وهي ذات الفكرة التي اجترحها قسطنطين كافافي حينما قال:"إذا خرّبت حياتك في هذا الركن الصغير من العالم، فهي خراب أينما حللت".

 

عدنان حسين أحمد

 

 

في المثقف اليوم