قراءات نقدية

ريم سليمان الخشّ .. قوة ناعمة تضرب من قلب القصيدة المقفّاة

1390 ahmadفي انتسابها إلى كتابة الوجع، والبوح المُندلق من زوايا الهمّ الإنساني المشترك، تأبى الشاعرة المتألقة على الدوام، الدكتورة ريم الخشّ سليمان، وتأنف إلاّ عمّا يسعف في اقتناص المعنى الزئبقي المستوفي لشروط تعرية نقائص الوطن، وتغلو في شعرية الثأر للكرامة المهدورة، وهزّات أصداء العشّ الآدمي المهجور الخالي من المنظومة القيمية وسلال الخيرية البانية لفاصل برزخي بين ما هو بهيمي مهدّم وإنساني صرف.

أغوص مقلّبا صفحات المشهد الإبداعي الشعري الحداثي وما بعده، وسرعان ما تجذبني وبشراسة، هذه القامة إلى أبراج حرفها المتمرّد الطازج بآي الذات الطافحة بالعتاب الأنثوي الراقي والمتحضّر، والمنسكب ملء رئة معنى الموت المكتوب بطريقة انتكاسية تعاتب حياة المجون والعبث والخراب وتضخم أنا الايدولوجيا المغتالة لأحلام الشعوب.

تشاكس هامسة بأسرار كونية مطلقة، كي تتيح للحظة الهاربة، سرقتها هي، إلى فوقية من غرابة مقلقة بنكهة هجعة واستقرار الروح، تسرقنا من عالم نقرّ أنّه يضغط بلا هوادة على جحور ضعفنا، ويمعن في تجاوزنا بشتى ضروب ما يدمي القلوب ويبلبل الأذهان.

تجريبية مسترسلة لن تخذل على الإطلاق متذوقها، وإن استغرقته بمتاهات وفوبيا المقاربة المنكفئة على تشظيات وانكسارات الذات في علائقها باللائحة المفاهيمية المحاصرة أو المؤطرة للهوية والانتماء.

صنعة كلامية تنساب عبر الشقوق المنسية مغازلة فينا ذاكرة الطفولة، وجملة الانطباعات البكر المتروكة لتأويل ساذج يداعب المراحل الأولى لفصامنا و فطامنا عن الجذر، سعيا إلى تحقيق شخصية مستقلّة مخوّلة لمجابهات ونضال فولاذي وندية لهذا العالم الذي أيقظنا من سباتها الطويل، إما عن طواعية أو غيرها، وحوشه القذرة، ونفخنا ببراءتنا ومخيلتنا العزباء، نفخ حامل الكير، في تغضّبها القاصف لكلّ غضّ ورطب ونضر.

فقط لنتملّى المقتبسات الآتية، كي نستشعر مدى جهود شاعرتنا المبذولة لأجل بلورة معان غير مسبوقة في تجسيد المعاناة المعجونة بنفس الاغتراب، وحجم الحمولة الوجدانية في الانسداد الهامس إلى معمارية دوال الجذر والمنبت والأصل.

"طفلي ويسكنُ مـــــــهجتي           في دمعتي كعجائبٍ سبعَـــــــــــهْ

هو للشدائد والدي بـــكماله          وجلال رفعة نفسه روعــــــــــــــه

هو فارس وأنا كمهرة دربه        أطوي القصيد وأحصد اللوعــــــــه

بردٌ ونارٌ في هواه تصافحا       رعش الحنين لقربه وأجادها صنعه"

...........................

"كأنّ دماء الدير حنّت إلى الردى       وطاغٍ على طاغٍ فباتوا طواغيا

أنــــــوح على نهر الجراح وأهله      ألا ليتني للجرح كنت المداويـــا

ألا ليتها تمضي سنين بثقلهــــــــا    ويجري فرات الروح حبا مباهيا"

..........................

إليك شققتُ إزار القوافــتتي        وهاجت بحوري ..وحمّ اعترافي

وفيك ذُبحتُ بألف اشتهــاءٍ          وألف اضطرامٍ ..وقلبي عفافــي

إليك سعيت وركبـــي قصيدي         ومتُ شهيدا قبيلَ الطـــــوافِ.

وفيك عشقت دروب انتحاري         نزفتك شوقا كموتٍ إضــــافي

نزفتك حبا بدون اكتفـــــــــــاءٍ        ودون انتهــاءٍ ..ولست بشافِ"

...............................

"قد تُركَ الفؤادُ بيمِ حزنٍ

                يكابدُ جوعه ظلما ويعرى

ملاكٌ لا يُضاهيه ارتقاءٌ

               ولكنّ البنات وئدنَ غدرا"

......................

"أمدّ إلى روحي يديه فأرعدا

              ومن حرقة الأشواق عمقاً تنهدا

أمدّ إلى قلبي شعابا خصيبة

                 بها بلبلٌ يشدو غراما تجددا

بها قمح عشاق رواه بدمعه

                   وضمّ بتحنان ضلوعي ليُسعدا"

......................

."أيا ثورة الأحرار فكّي وثاقيا

                  وهدّي بنا الأصنام يكفي تماديا

وفيضي على الإنسان فكرا ورفعة

                   أضيئي على الأكوان نجما يمانيا

شعاعٌ وليد النور خطّ طريقنا

                 وكل خطوط القهر أضحت ورائيا

أتيتُ له سعيا لأروي صبابتي

                  وأغسل عني الظلم غسلا معافيا

إلى وجهك الوضاء ألف قصيدة

                    تهادى بها قلبي وغنى الأغانيا"

.........................

مات الحسينُ وفاض القلب أحزانا

                    من موته انفجر البركان أضغانا

منصة العشق أمست دون قاعدة

                        قد مات سيدها حقدا وعدوانا"

وإذن... لا يمكن التكهّن بملامح خواتم هذا التّطاحن بين قصائد لا تهادن ولا تصالح، وعقلية سياسية متعجرفة متعالية، تشرب النخب دم شعوب في ذروة انهيارها وحالاتها القهرية.

معادلة غير متكافئة بكلّ تأكيد، وإشكالية جامحة تراوح في الأخذ والرّد، السّلب والإيجاب، ما بين جغرافية الأسئلة الوجودية العميقة، المنحازة إلى بؤر تمجيد الطاقة الإنسانية والمؤهلات الدفينة في ترجيح وازع الخيرية وإغاثة العالم والذات والآخر من عواقب كارثية وخيمة وشيكة.

ومن جهة أخرى، طقوس الدوخة العاجزة والتي لا ترقى إلى مستوى رد الفعل، اللهمّ في حدود ما تنسجه ريشة القصيدة المعاندة المكابرة، المتماهية وفصول الفضح والمكاشفة والتوبيخ الرامي إلى إثبات النرجسية الناعمة العائمة وميكانيزمات لملمة المفقود وبعض من نفحات بلسم القول الشعري المضمّد للوجع الإنساني في كونيته واشتراكيته المتفشية.

بالتالي، ها نحن هنا، مثلما ظللتنا ترتيلات الذاكرة، وكما سنتقمّص أدوارنا غدا، بكل إيجابية، لشجب المستقبح والمدمر والأنوي السّقيم، عدل ما سوف نصفّق وبحرارة لمبادرات التحدي الممكن أن تتيحها قصيدة الشكيمة والعزم، في مسايرة أبدية لتكثيفات وتراكمات إبداعية مربكة ومخلخلة للنمطي والمتوارث والسائد، تبارك ثورة الأحرار، وتشكك في عروش الطغاة، منتصفة فقط لمنطق الإنعتاق و خلاص العالم والإنسان.

 

احمد الشيخاوي/شاعر وناقد مغربي

.

في المثقف اليوم